تساؤلات عدة فرضت نفسها على الشارع المصري مع بدء دخول مخطط تطوير التلفزيون الرسمي للدولة (ماسبيرو) حيز التنفيذ قبل أيام، حيث تعرض الجهاز الإعلامي الأقدم في المنطقة إلى حزمة من الانتقادات لم يسبق أن تعرض لها منذ نشأته في ستينيات القرن الماضي.
خطة التطوير التي تنفذها شركة المتحدة المملوكة للمخابرات العامة المصرية جاءت بعد نحو شهر واحد فقط من تعيين وزير الإعلام المصري أسامة هيكل، في المنصب الذي غاب عن التشكيل الحكومي في مصر لنحو خمس سنوات، وهو ما أزال الكثير من الغموض الذي خيم على الأجواء حينها بشأن دوافع تعيينه رغم مخالفة الدستور.
منذ تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور في البلاد في 2014 سعى بكل قوة إلى إحكام السيطرة على خريطة الإعلام بشقيها، العام والخاص، إيمانًا منه بالدور المحوري الذي يقوم به هذا السلاح الناعم القادر على إحداث الفارق، وهو الذي دومًا ما كان يتغنى بإعلام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
وكانت الهيئة الوطنية للإعلام، وهي الهيئة المشكلة بإدارة ملف الإعلام في مصر، قد وقعت في يناير/كانون الثاني 2019 بروتوكول تعاون لخمس سنوات مع شركة المتحدة، من أجل إنشاء فضائية لخدمات “الأسرة العربية”، وتطوير محتوى الفضائية المصرية والأولى والثانية، مع مشاركة الحقوق الإعلانية، دون الإعلان عن نسبة كل طرف.
وبحسب هذا البروتوكول تنتج الشركة المملوكة للمخابرات عدة برامج في التلفزيون الرسمي، من أبرزها “صباح الخير يا مصر” و”التاسعة مساء”، ويذاع البرنامجان على القناة الأولى والفضائية المصرية وقناة “أون”، وهي قناة خاصة تملكها المتحدة ضمن العديد من الوسائل الواقعة تحت قبضتها.
انتقادات حادة
موجة من الانتقادات قوبل بها إسناد تطوير التليفزيون المملوك للشعب وفقًا للدستور إلى شركة تابعة للمخابرات بالأمر المباشر، هذا بخلاف أن الشركة ذاتها فشلت في تطوير القنوات الخاصة الواقعة تحت قبضتها وهو ما أثار استهجان كثير من العاملين بقطاع الإعلام.
ويعاني ماسبيرو خلال السنوات الماضية من تجاهل متعمد من الحكومة رغم دعوات التطوير التي أطلقها أكثر من مرة، هذا في الوقت الذي يواجه فيه هذا القطاع الهائل خسائر مليارية جراء سحب البساط من تحت أقدامه لحساب القنوات الفضائية الخاصة التي استحوذت على نصيب الأسد من الاهتمام حتى من الأجهزة الرسمية، ويكفي للاستشهاد على ذلك أن رئيس دولة حين يود إجراء مداخلة تلفزيونية أو مقابلة مرئية يقع الاختيار على قناة خاصة بعيدًا عن تلفزيون الدولة الأحق بذلك، وهو ما كان مثار امتعاض قطاع كبير من العاملين بداخله.
نقطة البداية كانت هي الأخرى محل انتقاد، حيث وقع اختيار التلفزيون في أولى حلقات برنامجه الجديد “التاسعة مساء” على الفنان محمد رمضان، رغم حملة المقاطعة الشعبية التي يتعرض لها في أعقاب موقفه من أحد الطيارين الذي تسبب في فصله من عمله بسبب نشر مقطع فيديو له داخل قمرة القيادة، ما دفع شركة الطيران لفصل الطيار الذي طالب في الوقت ذاته بحقه من الفنان بسبب ما فعل.
أنا اللي هكتب لكم المسلسلات اللي هتشوفوها
وانا اللي هجيب لكم الممثلين اللي تتفرجوا عليها
وأنا اللي هطور لكم ماسبيرو
?
بفلوسي يا ولاد الصرمة#تامرمرسي— أبونديم المصري?مرشد وخليفة العلمانيين? (@abonadim2nd) February 23, 2020
ورغم الهجوم الشديد والمناشدات بإلغاء استضافة الفنان المقرب من النظام الحاكم، فإن إدارة البرنامج أصرت على وجوده، ضاربة برأي الشارع عرض الحائط، وهو ما فسره البعض بضغوط مارسها منتج البرنامج، تامر مرسي، صاحب شركة “سينرجي” (Synergy Production) سابقًا ورئيس مجلس إدارة الشركة المتحدة حاليًّا، وهو ذاته منتج أحد المسلسلات التي يقوم ببطولتها محمد رمضان.
الصحفي المصري حسام بهجت في منشور له على فيسبوك، قال إن الشركة مملوكة بالكامل لجهاز المخابرات العامة المصرية، والهيئة الوطنية للإعلام أسندت لها خطة التطوير بالأمر المباشر، مضيفًا أن الشركة أصبحت تمتلك معظم القنوات الفضائية وأغلب الصحف الخاصة في مصر، كما أنها أصبحت المنتج الرئيسي لجميع المسلسلات الدرامية المقرر عرضها في شهر رمضان.
بهجت في منشوره أضاف أن الإعلام المصري أصبح في خلال 3 أعوام مملوكًا بالكامل للمخابرات، وغير خاضع لرقابة البرلمان أو أي جهاز رقابي، مؤكدًا أن هذا الوضع لم تشهده مصر حتى أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مستبعدًا نجاح تلك السياسة في تحقيق النتائج المنشودة.
يذكر أن تامر مرسي وشركة سينرجي لم تسيطر على القنوات التفزيونية فحسب، بل على الإنتاج الدرامي كذلك، وكانت بدايته في سوق الدراما الرمضانية عام 2012 عندما تمكن من إعادة عادل إمام إلى التليفزيون في مسلسل “فرقة ناجي عطا الله”، وبعد سنوات قليلة أصبحت الشركة تنتج المسلسلات، وتعرضها قنوات “إعلام المصريين” التي تشمل “أون إي والحياة وسي بي سي ومؤخرًا مجموعة قنوات دي إم سي”، ويديرها مرسي بنفسه فيحتكر الإنتاج والعرض معًا.
وحدها دخلت “سينرجي” السباق الرمضاني لعام 2019 بـ15 مسلسلًا من أصل 25، مستحوذةً على النصيب الأكبر من الإنتاج الدرامي، كما سبق الإشارة لذلك في تقرير سابق لـ”نون بوست”، وهي الخطوة التي تسببت في أزمة كبيرة للدراما المصرية مع تحوّل أحد صنَّاعها إلى متحكم وحيد في جهات شرائها وعرضها.
خريطة جديدة للإعلام
في أعقاب ثورة 25 يناير، بدأت الدولة في وضع خطة للسيطرة على الإعلام برمته، شارك في ذلك الدولة العميقة (بقايا نظام مبارك) والأجهزة السيادية المدعومة من الجيش، حيث انقسمت الخريطة الإعلامية وقتها إلى محاور ثلاث: المحور القديم المتمثل في بقايا رجال أعمال مبارك كمحمد الأمين والسيد البدوي وطارق نور وعائلة الكحكي، المحور الثاني: رجال الأعمال الجدد المدعومون من المؤسسة الأمنية وأبرزهم أحمد أبو هشيمة رئيس مجلس إدارة شركة إعلام المصريين وياسر سليم رئيس مجلس إدارة شركة بلاك آند وايت وطارق إسماعيل صاحب شركة دي ميديا، بالإضافة إلى إيهاب طلعت صاحب الخبرة الواسعة في إدارة القنوات التليفزيونية والتسويق.
أما المحور الثالث فيضم عددًا من العسكريين ممن دخلوا إلى مجال الإعلام حديثًا وفي مقدمتهم: محمد سمير المتحدث العسكري الرسمي السابق باسم القوات المسلحة المصرية، مدير قناة العاصمة، وكاتب المقالات الرومانسية ببعض الصحف، وضابط الجيش السابق أحمد شعبان، وهو مدير مكتب اللواء عباس كامل (مدير مكتب السيسي سابقًا ورئيس جهاز المخابرات العامة حاليًّا).
بعد ثورة 25 يناير، تدخلت أجهزة المخابرات بشكل متزايد في وسائل الإعلام من أجل التأثير على الرأي العام
ومع مرور الوقت تبين أن الخريطة بوضعيتها تلك ما زالت خارج السيطرة، وهو ما دفع السيسي إلى فرض المزيد من أدوات التقييد والمراقبة، فكان إنشاء عدد من الكيانات والهيئات التي وكل إليها إدارة المشهد الإعلامي وعلى رأسها المجلس الأعلى للإعلام بغرفتيه، لكن من وجهة النظر الرسمية لم يكن هذا أيضًا كافيًا.
ومن ثم بدأت خطة الاستحواذ على المشهد، كانت البداية بفرض مجموعة إعلام المصريين (الذراع الإعلامية لجهاز المخابرات) قبضتها على التليفزيون الرسمي، عبر توقيع اتفاق مع “الهيئة الوطنية للإعلام” برئاسة حسين زين، بشأن مجموعة بروتوكولات تحت مسمى تقديم محتوى أفضل ومتطور على شاشات التليفزيون المصري خلال خمس سنوات.
هذا الاتفاق يتضمن إنشاء قناة فضائية جديدة تهتم بخدمات الأسرة العربية، ويكون محتواها بالدرجة الأولى موجهًا للمنطقة العربية، وأن تكون تلك القناة باكورة مجموعة قنوات فضائية تبث من خلال القمر الصناعي “نايل سات” لتغطية المنطقة العربية بخدمات إعلامية متنوعة في عدة مجالات تهم المنطقة العربية.
بعض المصادر أشارت إلى أن هذه الخطة ستحظى بدعم سخي من السعودية، حيث حصل القائمون على تنفيذ عملية التجديد على وعود من رئيس هيئة الترفيه السعودية، تركي آل الشيخ، بتقديم دعم مادي في صور عدة، منها تبرع مالي ضخم، إضافةً إلى مجموعة عقود مشتركة متعلقة بإنتاج مسلسلات وبرامج وحفلات في الجانبين.
سقطة محزنة وغياب للمهنية للى المفروض انه تليفزيون الدولة انه يستضيف عيل سرسجى زى محمد رمضان بشكل ظهر وكأنه مسنود ومحمى من الدولة وكأن الدولة بتطلع لسانها للناس اللى رافضينه وبتفرضه عليهم حاجة تحزن بجد #التلفزيون_المصري
— adelabdelaziz (@adelabd37620500) February 22, 2020
في قبضة المخابرات
في سبتمبر الماضي أبدت منظمة مراسلون بلا حدود، قلقها من سيطرة أجهزة المخابرات على عدد من المؤسسات الإعلامية المصرية، وذلك في تقرير بعنوان “مصر: حينما تبسط المخابرات سيطرتها على الإعلام”، قالت فيه إن رجال المخابرات أقرب إلى وسائل الإعلام من أي وقت مضى.
المنظمة استعرضت أبرز محطات خطة المخابرات لإحكام سيطرتها على خريطة الإعلام المصرية، لافتة إلى أن الجهاز نجح منذ 2013 في فرض كامل هيمنته على القطاع العام، غير أنه في السنوات الأخيرة بدأ وبقوة في إقحام نفسه بساحة الإعلام الخاص في محاولة للسيطرة عليه، مستعينًا في تحقيق ذلك بجهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية، حيث لعبا تاريخيًا أدوارًا سياسية في الدفاع عن النظام ومنع أي محاولة لتأسيس الديمقراطية، إلى جانب المؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية.
في العامين الماضيين استحوذت الشركات المدعومة من المخابرات على خمس وسائل إعلامية: أون إي وإكسترا نيوز والحياة وصحيفة اليوم السابع وموقع اليوم السابع الإلكتروني
وبعد ثورة يناير، تدخلت أجهزة المخابرات بشكل متزايد في وسائل الإعلام من أجل التأثير على الرأي العام، ولتحقيق ذلك، تم على الفور إغلاق عدد من القنوات الدينية المؤيدة للإخوان المسلمين، ومن بعدها بدأت خطة زرع رجال وكيانات مدعومة من تلك الأجهزة في الوسط الإعلامي.
وفي عام 2016، أسس رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة مجموعة إعلام المصريين (EMG) باستثمارات هائلة من جهة غير معلومة، وحينها، فهم أن وجود أبو هشيمة فعليًا كان بوصفه وكيلًا للمخابرات العامة في الاستثمار بكثافة في صناعة الإعلام، وفي عام 2017، تأكدت التكهنات، عندما أسست المخابرات العامة “إيجال كابيتال” التي اشترت أسهمًا ذات حصة متحكمة في مجموعة إعلام المصريين.
وبالفعل تم تعيين وزيرة الاستثمار السابقة داليا خورشيد كرئيسة لمجلس إدارة إيجل كابيتال، التي كشفت أنها كانت تسعى للوصول إلى “طفرة في قطاع الإعلام”، كما استحوذت على نصف أسهم شركة “سينرجي للإنتاج”، وعينت خورشيد تامر مرسي، رئيسًا لمجلس إدارة إعلام المصريين.
وفي العامين الماضيين استحوذت الشركات المدعومة من المخابرات على خمس وسائل إعلامية: أون إي وإكسترا نيوز والحياة وصحيفة اليوم السابع وموقع اليوم السابع الإلكتروني، ومن خلال سلسلة من الصفقات، أصبحت إعلام المصريين واحدة من أكبر التكتلات الإعلامية.
لكن سرعان ما تغيرت الأمور، حيث أحكمت تلك الشركات قبضتها على المشهد بصورة أكبر، حيث سيطرت على شبكة قنوات “سي بي سي” من خلال الاستحواذ على مجموعة المستقبل القابضة (التي كانت ملكًا لمحمد الأمين)، وشبكة الحياة التي باعتها “فالكون جروب” إلى إعلام المصريين، وذكرت وسائل الإعلام أن شبكة النهار أو قناة دريم ربما يتم شراؤها أيضًا، وتأكد ذلك من خلال أحمد بهجت، مالك قناة دريم، الذي أعلن اعتزامه الدخول في شراكة مع جهة بالدولة، ولكنه لم يحدد الجهة.
تكميم الأفواه
تزامنت الانتقادات الموجهة لإسناد تطوير التلفزيون للشركة المملوكة للمخابرات مع تصريحات رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، مكرم محمد أحمد، التي قال فيها إن حرية الرأي في مصر منقوصة، وهناك تكميم للأفواه والتخويف واضح ضد التعبير عن الرأي.
مكرم خلال وجوده ضيفًا في برنامج “على مسئوليتي” على قناة “صدى البلد” تساءل: “كم مظاهرة بتنزل الشارع حاليًا؟ فين الحرية، لو أردنا الحديث عن صحافة حقيقية يبقى لازم حرية رأي”، وتابع “أنا مش مسؤول عن الإعلام ومقدرش أقول مين المسؤول لأن وزير الإعلام هيزعل لو قلت إنه المسؤول لأن أنا متربص ليه وهو متربص بي وده عامل مشاكل، بس اللي بيدير الإعلام هي السلطة التنفيذية”.
“اسمح للناس تعبر عن رأيها وتختلف، أقصد بذلك النظام والسلطة، اسمحوا بوجود معارضة، الدنيا مش هتتهد من اختلاف الآراء” مكرم محمد أحمد
أما عن هامش المعارضة المتاح، الذي طالما عزفت الدولة على أوتاره بين الحين والآخر، أوضح مكرم وهو أبرز الداعمين للنظام قائلًا: “مفيش نقاش ومفيش اختلاف في الآراء ومفيش هامش للحرية، والعلانية شيء مهم ومش المفروض تخاف ده، وحرية الرأي والتعبير مهم جدًا وتحمي البلد من التوجه الواحد وصلابة الرأي الواحد”.
وأكمل: “اسمح للناس تعبر عن رأيها وتختلف، أقصد بذلك النظام والسلطة، اسمحوا بوجود معارضة، الدنيا مش هتتهد من اختلاف الآراء، بقالي 80 سنة مشفتش ناس خرجت في مظاهرات تقول لا للحرية يعني لازم تفتح للناس المجال والحرية والرأي الآخر دي ملامح الدولة السليمة”.
لم يختلف ما قاله رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عما كشفته المنظمات الحقوقية والإعلامية بشأن تضييق الخناق على الصحفيين وخنق حريات الرأي في التعبير وهو ما أدى إلى استمرار تراجع مصر في مؤشرات الديمقراطية والحريات، التي يبدو من قراءة المشهد أن الأداء لن يتحسن خلال المرحلة المقبلة.