تتجه البلدان العربية إلى التخلص من تشددها القديم في التعامل مع الأجانب الراغبين في الحصول على فرص استثمارية دون إعاقات ودون حيل سرية للإفلات بحقوقهم، وتتسابق كل الدول لتوفير مناخ ملائم لاستقطاب الكفاءات من كل المجالات وابتكار بنود قانونية تمنح الأجانب أكبر قدر ممكن من المزايا، بما في ذلك تملك الأراضي والعقارات في البلاد، ولكن في المقابل يطرح البعض إشكاليات خطيرة بشأن تطبيق هذا النوع من الاستثمار في منطقة تعوم على براميل متفجرة من الصراعات والأحقاد والتربص الخارجي والداخلي.
تملك الأجانب خطوة نحو توطين الاستثمار
في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أطلقت المملكة العربية السعودية، مبادرة مستقبل الاستثمار، كان حدثًا عالميًا، لا سيما أنه خصص بشكل كبير للحديث عن بوصلة الاقتصاد القادم في الخليج وكشف توجهات الأجيال الشابة في الأسر الحاكمة التي يبدو أنها تحاول التخلص من كل الحمولات النفسية القديمة، بغض النظر عن الفاتورة التي ستدفع جراء ذلك، خاصة إذا علمنا أن رؤيتها لقوانين الملكية الأجنبية التي كانت صارمة بشكل كبير، تبدلت تمامًا، في محاولة لفتح آفاق استثمارية جديدة في المنطقة.
كان المؤتمر فرصة كبيرة أمام صُناع الاستثمار العالميين للمصارحة والمكاشفة والحديث عن معوقات الاستثمار في المنطقة وتقاطعاته مع الرغبات والظروف السياسية، وتحدث في هذه القضايا مديرون تنفيذيون ماليون كبار وقادة سياسيون وأقطاب الاستثمار من دول مختلفة، بجانب رؤساء أكبر المصارف العالمية وشركات إدارة الأصول وصناديق الاستثمار العالمية.
ورغم النتائج الجيدة للمؤتمر وتوفير مناخ لقراءة ما الذي تريده الدول النفطية التي تحاول تغيير ارتكازاتها الاقتصادية القديمة، بما في ذلك استقطاب الملكيات الأجنبية لدعم الاستثمار وفتح المجال لفرص استثمارية بها استفادة حقيقية على أراضيها، بعدما كانت الحساسية العربية في هذا الملف ترفض تمليك أي أجنبي أكثر من 49% في أي مشروع، وهو ما قلص الاستثمار بشكل كبير، ولهذا غيرت رؤيتها للقضية وأصبحت تسمح للأجانب بتملك الشركات بنسبة تصل إلى 100%، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الصناعة والعقارات، إلا أن الإنصاف يقتضي القول إن العديد من دول منطقة الشرق الأوسط كان لديها خيالًا أكثر تقدمية في هذا الملف منذ سنوات سابقة على عقد هذه المؤتمر.
سرد تاريخ المنطقة في التخلص من تقييد الملكيات الأجنبية، يجعلنا نعود لما قبل عام 2002، حيث لم يكن يُسمح في تركيا بتملك الأجانب، وكان لذلك تأثير كبير على الاقتصاد التركي، لكن مع تولي حزب العدالة والتنمية زمام الحكم، سرعان ما تغيرت منظومة القوانين المعيقة للاستثمار الأجنبي وفتحت الأسواق، وكانت نقلة كبيرة جرت بعدها تعديلات جوهرية على القوانين لتصبح أكثر مرونة أمام الأجانب.
تطور القوانين طوال هذه السنوات، فتح الطريق للابتكار في كيفية جذب النقد الأجنبي وضخه في الاقتصاد التركي، لدرجة أن الحكومة أقرت منذ عام 2018 السماح بالتقدم للحصول على الجنسية التركية للمستثمرين وخاصة في مجال العقارات، نظير الاستثمار بمبلغ لا يقل عن 250 ألف دولار أمريكى، وهي تخفيضات كبرى لا تقارن بالقوانين السابقة التي كانت تشترط ضخ مليون دولار أمريكي في الأسواق التركية للحصول على الجنسية.
هذه الإجراءات الموازية لأفضل الأسواق الأوروبية، أنعشت سوق العقارات في تركيا، والمثير أن من أكثر الذين أقبلوا على الاسثمار وحصلوا بموجب التسهيلات الجديدة على الجنسية التركية هم العرب، وخاصة أبناء دول مجلس التعاون الخليجي الذين حصلوا على أكبر شريحة مشتريات عقارية لأفراد ومؤسسات من السعودية والعراق والكويت وقطر والبحرين والإمارات، ولهذا يمكن ملاحظتهم بسهولة في المعارض العقارية، لا سيما التي كانت تقام في مدينة إسطنبول التي تحمل الكثير من عبق التاريخ بالنسبة لهم.
في مصر، بدأت الحكومة تدرس إجراء تعديلات على قانون تملك الأجانب واشتراطات الإقامة، وتوصلت إلى صيغ شبه نهائية للتعديلات المقترحة عام 2018، على قانون منح الإقامة للأجانب في مصر، بهدف ضخ 5 مليارات دولار للسوق المصرية خلال عامين من إقرار القانون، على أن تبلغ حصيلة السنة الأولى وحدها 3 مليارات دولار.
كانت القاهرة تهدف من وراء إلغاء القيود البيروقراطية القديمة على تملك الأجانب، إضافة عنصر جديد للعملة الصعبة التي لها 5 مصادر رئيسية: السياحة وقناة السويس والمصريين في الخارج والتصدير والاستثمار المباشر، نهاية بمحاولة تصدير العقارات واستقدام مشتريين من خارج البلاد، اعتمادًا على أن نسبة الشراء في سوق العقار للمصريين تزيد على 98%، بينما يعمل الأجانب في هذا السوق من الباطن أو من خلال وسيط، وبالتالي تقنين أوضاعهم سيمنح البلاد عوائد كثيرة من المقيمين في مصر الذين يصل عددهم إلى نحو 5.4 مليون مواطن.
عربيًا، وصلت الإمارات العربية المتحدة إلى مراحل متقدمة في هذا المجال لأسباب عدة، على رأسها مؤشر جودة الحياة بها، الذي تحتل فيه المرتبة 25 عالميًا، بسبب توفير أفضل التأشيرات العائلية والمدارس الدولية والأنشطة الترفيهية، الأمر الذي يجعلها مكانًا مثاليًا لرواد الأعمال وأفضل الخيارات أمام المستثمرين، ولهذا تضع رؤية السعودية لعام 2030 التجربة الإماراتية نصب أعينها وتسعى للحاق بها وفتح أسواقها أمام الاستثمار العالمي، وعلى هذا النهج تسير أغلب البلدان العربية.
الأطماع الإسرائيلية.. هل توقف طموحات البلدان العربية؟
بعد اندلاع ثورات الربيع العربي 2011، أصبح الصراع مكشوفًا للغاية بين البلدان العربية وإيران، وخاصة دول المصير المشترك الخليجية، بسبب التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية ومحاولة الجمهورية الإسلامية تعزيز نفوذها في العراق واليمن والبحرين والكويت، وبات واضحًا أنها تعمل على تغيير أنظمة الحكم، يدفعها في ذلك خوفها من محاولات عزلها داخل حدودها، بجانب أحلام أمبريالية تنازعها لإعادة الإمبراطورية الفارسية إلى مجدها القديم.
كانت العلاقات الخليجية الإسرائيلية، قبل هذا التاريخ، تمر دائمًا بحالة من الشد والجذب، لكن مع تفاقم أحداث المنطقة وتضخم العداء لإيران، تبلورت فكرة توثيق السلام الاقتصادي للحصول على دعمها ودعم الولايات المتَّحدة، في مواجهة الخطر الإيراني، ولهذا رأينا لأول مرة خروج الأجندة الفلسطينية من هذه الحسابات مع دول المنطقة، حيث لم تعد المنطلق الأساسي في العلاقات العربية الإسرئيلية، بل كل دولة ومصالحها القومية والأمنية والسياسية.
الإستراتيجات الجديدة في العلاقات بين “إسرائيل” والبلدان العربية، استغلتها البلدان الخليجية على وجه التحديد لتخليص الشريحة الأكبر من شعوبها من الأزمة النفسية والحساسية الشديدة التي كانت تفرضها دائمًا إشكاليات النظرة الإسرائيلية الطامعة في المنطقة والعلاقات الحبلى بالشجون التاريخية معها وإرث الصراع، حتى تحول المشهد كلية بعد تولي دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية.
عملت الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب منذ يومها الأول على دفع المخاوف العربية تجاه إيران باتجاه تعزيز العلاقات مع “إسرائيل” وحشد الجميع بخندق واحد في مواجهة طهران، ومن أجل توضيح شكل العلاقات الجديدة للرأي العام العالمي، نظمت الولايات المتحدة في فبراير/شباط 2019، مؤتمر وارسو للشرق الأوسط الذي ركز على أهمية تحويل طاقة العداء الخليجي لـ”إسرائيل” إلى إيران، وظهر نتنياهو علنًا إلى جانب وزراء ومسؤولين من مختلف البلدان العربية، لتأكيد التحالف الجديد ضد التهديد المشترك للنظام الإيراني.
هذا التغير في المزاج الرسمي للحكومات العربية والخليجية مع “إسرائيل”، والمجاهرة بتوثيق العلاقات معها، ربما ساهم في تغيير النظرة الشعبية لقوانين ملكية الأجانب بطريقة أكثر براجماتية، باستثناء بعض الدول، التي ما زالت حتى الآن، لا تجد ظلالًا واقعية لإقناع الرأي العام الداخلي بأهمية فتح علاقات عادية مع “إسرائيل” وتقليل هواجس الخوف من التقارب معها، بما يمكنها من تخفيف قيودها في ملف ملكية الأجانب لجذب الاستثمار وعلى رأس هذه الدول “الأردن”.
فمنذ سنوات والحكومة الأردنية كانت غير قادرة على تمرير تعديلات قانون سلطة إقليم البتراء التنموي السياحي في جنوب الأردن، الذي أثار جدلًا واسعًا داخل أروقة مجلس النواب ووسط النخب، نهاية بالشارع الأردني، بسبب الخوف الشديد من تملك إسرائيليين لأراضٍ في مدينة البتراء، بموجب تعديلات القانون الجديد، مما يعني إعادة النكبة الفلسطينية من جديد ولو بعد حين، في ظل الاهتمام الإسرائيلي الواسع بالمدينة الأثرية والادعاء المستمر أنها من إرث اليهود.
استخدمت “إسرائيل” القانون في تسريب أراضي الإقليم لغير الأردنيين
طرحت تعديلات القانون للنقاش منذ سنوات، ولكن ما إن تخرج للنور حتى يواكبها ردود فعل غاضبة بشدة، ليتم سحبها على الفور، فالرأي العام السياسي والشعبي يشعر بالقلق من إباحة توفير إطار قانوني للأجانب في حق التملك بمنطقة الإقليم، حتى لو اشترطت الحكومة أن تكون نسبة تملك الأردنيين فيها أكثر من 51%، وهي الضغوط التي انعكست على مجلس النواب، ورفض بالتبعية تعديلات مشروع القانون المقترحة حتى يتم وضع حواجز قانونية كافية أمام تملك الأجانب.
جعلت هذه المخاوف الأردن أسيرًا لخيال شبح الاستعمار، إذا ما أرخى قبضته القوية واستخدمت “إسرائيل” القانون في تسريب أراضي الإقليم لغير الأردنيين، إرضاءً للولع اليهودي بالبتراء على وجه التحديد، ولهذا بدا عصيًا على الاستجابة للضغوط الخارجية التي تعرض لها على مدار السنوات الماضية للتماهي مع المواقف الخليجية، حيث تقلصت حجم المساعدات السعودية إلى 165 مليون دولار عام 2017، مقارنة بعام 2015 التي تجاوزت 470 مليون دولار، أي تقلصت بنحو 300 مليون دولار خلال عامين، فضلًا عن تضييق آخر بداية عام 2018، أوقفت فيه السعودية مساعدات أخرى بقيمة 250 مليون دولار، حتى أوجد البرلمان في النهاية حيلة لاستقطاب الاستثمار والتعامل مع الإشكالية الأمنية مع “إسرائيل”.
وافق مجلس النواب مطلع العام الماضي، على مجموعة إجراءات معقدة، قد تكون مقيدة للاسثمار على هذا النحو بالأساس، وكأن البرلمان يحاول إرضاء الحكومة ولكنه في نفس الوقت يبعد المسؤولية عنه، بتحجيم الملف، حيث أباح حق التملك العقاري في المملكة ولكن بعد حصول الأجنبي على “إذن” وبشرط أن يكون حاملًا لجنسية دولة تعترف بها المملكة، بجانب الكثير من الإجراءات الأخرى.
المخاطر الأمنية.. هل هناك حاجة لإعادة النظر في الملف مجددًا؟
التحديات الأمنية في المنطقة وتخوف بعض الدول العربية من التنازل عن الحساسيات القديمة، حتى لا تتعرض لخطر كبير مستقبلًا، جعل دولة مثل الكويت تتخلف عن جيرانها في هذ الملف، حيث يبلغ عدد الأجانب في البلاد نحو 70% من إجمالي سكان البلاد، ما يجعلها تحسب جيدًا عواقب فتح الباب لمثل هذا النوع من الاستثمار.
وتتخوف الكويت من تزويد السفارات لمواطينها بالمال من أجل التملك لأغراض سياسية بعيدة الأمد، وخاصة أنه قد يصبح بالإمكان شراء مناطق كاملة وتحويلها إلى مربعات أمنية وجيتوهات وتجمعات لجنسيات محددة، بما يضمن لهم حقوقًا لاحقة في الإقامة الدائمة والجنسية.
وتتخوف بعض الأصوات العربية من أزمات تاريخية ترتبت على مثل هذا النوع من الاستثمار، فلا تتلخص القضية في فلسطين فقط، ولكن هناك دول مثل ماليزيا وقضية استقلال المستوطنين الصينين عنها، وإقامة “سنغافورة” في سياقات مماثلة، ويطالب المعارضون لهذه السياسية بالنظر إلى بريطانيا التي لديها قواعد صارمة في هذا الصدد، وكذلك أمريكا التي أجبرت حكومة دبي على ترك إدارة الموانئ في نيويورك، بعد ضغوط من الكونغرس واضطررت في النهاية إلى بيع الشركة.
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى العديد من الشواهد الموضوعية التي تؤكد أن القضية يمكن أن تستغل بما يشكل خطورة قصوى على أمن البلدان، لا سيما أن بعض الأجهزة الأمنية البحرينية كشفت مخططًا إيرانيًا قبل إشعال ثورات الربيع العربي، بسنوات قليلة، لشراء عدد من الأراضي في مختلف مناطق البحرين لأهداف سياسية منها دعم الجهات والجمعيات الموالية لإيران سرًا في البحرين ومحاولة تغيير التركيبة السكانية وتوزيع حلفائها على جميع المناطق، وكانت هذه المعطيات خلف خروج البحرين من هذا السباق.
قد يكون تقليل هامش المؤامرة في الخيال العربي مطلوبًا، ولكن الكثير من الحذر مطلوب أيضًا للتعامل مع هذا الملف الحساس، لمنطقة تحيط بها المخاطر من كل اتجاه!