قبل الولوج إلى التطبيع هناك تناقضان مهمان يجب معرفتهما جيدًا، الاحتلال الإسرائيلي يخشى المواجهة الشاملة في المنطقة العربية خشية تحطيمه في منطقة لا تريده – إلا إذا ضمن الانتصار الكبير -، كذلك يخشى الانفتاح والسلام التام مع المنطقة العربية خشية الاندماج وضياع هويته فورًا مقارنة بديمغرافيته وثقافته، لذلك يبحث عن (الميزو) أي علاقات وسيطة تتخذ شكلًا أمنيًا واقتصاديًا تحديدًا، يكون عرابوها رجال أعمال عرب أو سياسيين يخشون على مناصبهم ونظم ديمقراطية تخشى التفكك، فتحاول التقرب للغرب، تحديدًا لأمريكا، من بوابة الاحتلال الإسرائيلي.
تكمن حاجة الاحتلال الإسرائيلي الدائمة لوجود نظم ديكتاتورية غير مستقرة وغير ديمقراطية في المنطقة العربية، لضمان تمدده، وتحاول الأنظمة العربية المستبدة نيل رضا الاحتلال الإسرائيلي كبوابة وصول للرضا الأمريكي، وإن كان ما يملكه العرب من مقدرات وثروات وعقول يدفعهم للمضي قدمًا في النهضة بعيدًا عن الرضا الأمريكي.
تاريخيًا، دفع الصراع المسيحي اليهودي في أوروبا رغبة رجال الدين الإنجيليين إلى طرد اليهود من أوروبا، وتوفير وطن بديل يجمعهم بعيدًا عن القارة الأوروبية، أما السياسيون الأوروبيون فقد طردوا اليهود نتيجة لتنامي دورهم الاقتصادي والسياسي في البلاد، وقرروا نقلهم إلى مكان بديل وهو فلسطين كأهم بقعة إستراتيجية من الناحية الدينية أو الجيوسياسية، بهدف تعطيل كل المشاريع النهضوية في المنطقة، فالوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية جاء ضمن منع أي مشروع نهضوي عربي مضاد للمشاريع الغربية، إذ نتحدث الآن عن الهوية أولًا والنهضة المنافسة للغرب ثانيًا، لذلك وجب حماية هذا الكيان الغريب “إسرائيل” من الغرب وأمريكا على وجه الخصوص.
في تاريخ العلاقات العربية مع الاحتلال الإسرائيلي
شكلت معاهدة السلام بين مصر والاحتلال الإسرائيلي عام 1979 “كامب ديفيد” تجاوزًا لمؤتمر الخرطوم وكسرًا للاءات الثلاث المتفق عليها عربيًا في مؤتمر الخرطوم عام 1967 بعد النكسة العربية “لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل”، رغم استمرار المقاطعة العربية للشركات الأمريكية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي والمقاطعة التامة للاحتلال، فإن مؤتمر مدريد للسلام مثل الطامة الكبرى في تاريخ المقاطعة العربية مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث شهد عام “مؤتمر مدريد” أول لقاء يجمع ممثلين من حكومات خليجية مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد اتفاقية أوسلو عام 1993، انهارت السياسة الخليجية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، وفي العام 1994 كسر المحرم العربي في العام عبر “دعم السلام بين الاحتلال الإسرائيلي وفلسطين” عبر حكومات كل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، وفي نفس العام افتتحت كل من قطر وعُمان مكاتب تجارية لها داخل الاحتلال الإسرائيلي، ثم بدأت محادثات بين عُمان ومركز إسرائيلي لدراسات المياه، والتقى بعدها السلطان قابوس رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي رابين، وفي نفس العام استضافت البحرين وفدًا من الاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر عن البيئة.
بعد انتفاضة النفق عام 1996 ضعفت العلاقات القطرية العمانية، وبعد انتفاضة الأقصى عام 2000 قطعت قطر وعُمان علاقاتها التجارية مع الاحتلال الإسرائيلي إلى أن جاءت مبادرة السلام العربية عام 2002.
كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” اتصالات مكثفة لعقد قمة بالقاهرة تجمع نتنياهو وولي عهد السعودية محمد بن سلمان
شكلت أحداث الـ11 من سبتمبر 2001 نوعًا جديدًا من العلاقات العربية مع الاحتلال الإسرائيلي، فقد شهد العام 2005 تعاونًا كبيرًا في الأمن السيبراني، ثم في عام 2011 نجحت أمريكا في جعل إيران العدو المشترك للخليج والاحتلال الإسرائيلي، وفي 2013 بدأ التطبيع يأخذ شكلًا ثقافيًا ورياضيًا وتطبيعًا علنيًا.
مكمن الخطورة في دخول الدول المغاربية على مسار التطبيع تحديدًا تونس، فقد شهد عام 2018 زيارة قرابة 1000 تونسي للاحتلال الإسرائيلي، كما كان العامان 2018-2019 الأكثر تطبيعًا في زيارة وفود وشخصيات من الاحتلال الإسرائيلي لتونس، مع مراعاة أهمية تونس التاريخية في دعم القضية الفلسطينية، رغم أن الاتحاد العام للشغل تبنى حركة المقاطعة في مايو 2018، مؤكدًا على حقوق الشعب الفلسطيني، كما أن مؤسسات المجتمع المدني التونسية قدمت نداءً في يناير 2018 ذكرى الثورة التونسية لتعزيز المقاطعة الأكاديمية والثقافية للاحتلال الإسرائيلي.
منذ بداية عام 2020 تسارعت وتيرة خطوات التطبيع العربي، لتشمل مجالات مختلفة من سياسة واقتصاد ورياضة، ففي 19 من يناير/كانون الثاني أعلن الاحتلال الإسرائيلي البدء بأعمال جناحه الخاص بمعرض”إكسبودبي 2020″، وفي 28 من يناير/كانون الثاني الماضي شارك سفراء الإمارات والبحرين وسلطنة عمان بمؤتمر الإعلان عما يسمى “صفقة القرن” في واشنطن، وفي حدث هو الأكثر خطورة التقى وزير الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 3 من فبراير/شباط رئيس مجلس السيادة السوداني في أوغندا، وكشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” اتصالات مكثفة جرت في 7 من فبراير لعقد قمة بالقاهرة تجمع نتنياهو وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، وفي 12 من فبراير شارك رئيس بورصة دبي للماس في فعاليات “أسبوع الماس العالمي” بتل أبيب.
مدخل التطبيع الجديد
يحاول الاحتلال الإسرائيلي الانغماس أكثر مع مستقبليات المنطقة، عبر الدخول في حلول أزماتها المستعصية مع ضرورة الفهم أولًا أن الأزمات من غذاء وماء وحرب وطاقة وتعليم وصحة وتنمية وحالة التوتر وعدم الاستقرار والديكتاتورية بغياب الديمقراطية الكبير وارتفاع مؤشرات الفساد كلها عوامل مهمة لبقاء تمدد الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، فهو يراهن ببقائه متصاعدًا على ضعف المنطقة وغباء الفاعلين السياسيين وصناع القرار ورغبتهم بالحفاظ على مناصبهم.
وقد اتخذت المستقبليات المسار الجديد للعبور الإسرائيلي في المنطقة العربية لإبراز عضلاته كمخلّص أو واضع حلول لأزمات المنطقة المستقبلية.
تحتكر خمس دول على رأسها أمريكا السوق العالمية للحبوب الأساسية
وقد أفرز منتدى غاز المتوسط الذي عقد في مصر أول منظمة إقليمية تضم الاحتلال الإسرائيلي، كذلك بدأ حراك الاحتلال الإسرائيلي أكثر تجاه المنطقة في قضية المياه، تحديدًا تحلية مياه البحر عبر شركة “ماكروت” الإسرائيلية التي تحاول تقديم عروض للمنطقة لإشكالية فقر المياه، أو الدخول للتحديثات الزراعية في المنطقة العربية التي تعتبر من أكثر مناطق العالم فقرًا في الأمن الغذائي، وتقديم حلول تكنولوجية لتحسينات البذور وتطويرها لتصمد في ظروف معقدة وتعطي إنتاجية أكثر.
كذلك يسعى الاحتلال الإسرائيلي لتقديم حلول تكنولوجية أمنية دفاعية، مستغلًا قضايا الإرهاب وفوبيا التنظيمات القتالية التي تزعزع أمن المنطقة، وكل ذلك من أجل الوصول أكثر لشراكات دقيقة ومحددة تسهل على صانع القرار مهمة بقائه في منصبه، أو تحسين سياساته تجاه الناس بما يمنع ثورات مستقبلية قادمة قد لا تتخذ شكلًا من التوقع الدقيق.
في المقابل هناك برامج محددة غربية وأمريكية عطلت أي تنمية عربية تحديدًا في قطاع الأمن الغذائي الذي يعتبر أهم الطرق للسيطرة على المنطقة أمريكيًا، وتحتكر السوق العالمية للحبوب الأساسية (الذرة والقمح والشعير والأرز) خمس دول على رأسها أمريكا التي منعت أي حالة تنموية في القطاع الزراعي يحقق السيادة العربية، وقدمت هذه الصادرات للمنطقة العربية التي تصل وارداتها من الحبوب ما يقارب 45%، منها 70 من أمريكا.
تهويل التطبيع.. خيار أكثر تكلفة من المصالحة العربية
رغم استناد التطبيع الحاصل بين الاحتلال الإسرائيلي لأساس واقعي، لكنه لا يخلو من التهويل والتضخيم، لمحاولة توظيف مناخ الخوف لدى هذه الأنظمة من أجل خلق نوع من التنافس والسباق فيما بينها، بهدف فتح قنوات سرية وعلنية متسارعة مع الاحتلال الإسرائيلي، لكن الخطورة في ربط قرار هذه الأنظمة بإملاءات وتبعية للاحتلال الإسرائيلي وحلفائه، وربط وجودهم بوجود مشروع عنصري لا مكان له في مستقبل المنطقة العربية.
ولعل سلوك الاحتلال الإسرائيلي نابع من تقدير ساد لدى مؤسساته السياسية والأمنية بوجوب استغلال لحظة الضعف العربي لفرض ما يشبه الاستسلام على العرب، في ضوء الديناميات الخطيرة الناتجة عن حالة الاشتباك بين القوى الشعبية والرسمية الرئيسية في العالم العربي، وتأثيره على الأمن القومي العربي، وكان من الضرورة الانتباه أن تفعيل المصالحة العربية للعلاقات البينية العربية لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي حتى بوجود الجيش، وتعزيز سياسات التنمية البينية خيارًا أقل تكلفة من رهن الأنظمة والمنطقة لمشروع الاحتلال الإسرائيلي عبر التطبيع.