منذ وقت ليس ببعيد، كان العمل عن بُعد ولو ليوم واحد في الأسبوع عند سوء حالة الطقس أو ارتباط الموظف بميعاد شخصي مثلًا، بمنزلة مزية فريدة تتفاخر بها الشركات، ويطمح إليها الموظفون كافة، لكن حاليًّا، تغير عالم التوظيف وانقلب رأسًا على عقب كما تغير كل شيء تقريبًا بسبب التقدم التكنولوجي الذي نعاصره يومًا بعد يوم وعامًا تلو الآخر، حيث أصبحنا في خضم حقبة جديدة لعالم التوظيف يمثل كل من العمل الحر والعمل عن بعد حجر الأساس فيها.
حقبة جديدة لعالم التوظيف
يشير أحد الاستطلاعات الذي أجرته مؤسسة “تحليلات أماكن العمل العالمية” خلال العام الماضي 2019 إلى أن العمل عن بُعد نما بنسبة 44% على مدار السنوات الخمسة الماضية، وبنسبة 91% على مدى السنوات العشرة الماضية، ليغدو 3.4% من إجمالي القوى العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية عمال عن بُعد، أي أن هناك 4.7 مليون شخص يعملون عن بُعد في أمريكا وحدها.
تدل الإحصاءات السابقة على مدى نمو العمل عن بُعد وانتشاره، لكن في حين أنه من السهل فهم سبب جذب العمل عن بُعد للموظفين بما فيها المرونة المطلقة وعدم الالتزام بالذهاب يوميًا إلى مكتب العمل من الثامنة صباحًا حتى الرابعة عصرًا وغيرها، قد يصعب على الكثيرين فهم السبب الذي يجعل 66% من جميع الشركات العالمية تعتمد على العمل عن بُعد بشكل جزئي، وأكثر من 16% من الشركات العالمية تعتمد على العمل عن بُعد بشكل كامل.
من أبرز الأمثلة الجديرة بالذكر عندما نتحدث عن العمل عن بُعد هي شركة البرمجيات الرائدة “جيت هاب” التي أصبحت تعتمد على أكثر من 60% من موظفيها عن بُعد خارج مقرها الرئيسي في مدينة سان فرانسيسكو، وهذا ليس مثالًا نادرًا، فلو أمعنا النظر قليلًا سنجد أن الكثير من الشركات المعروفة مثل: “ديل” و”أبل” و”مايكروسوفت” حتى الشركات الناشئة مثل “بافر” و”روزيتا ستون” وغيرها تعتمد على العمل عن بُعد بشكل أو بآخر. ليبقى السؤال: لماذا؟ هل هي التكلفة أم الإنتاجية أم الكفاءة أم غير ذلك؟
الموهبة: لأن المواهب العظيمة لا تمكث عند عتبة بابك
حسنًا، يُعد الهدف الجوهري الذي تسعى إليه جميع الشركات والمؤسسات بلا استثناء استقطاب أكبر قدر ممكن من الموظفين الأكفاء ذوي الموهبة والمهارة في مكان واحد، لأن هؤلاء وحدهم القادرون على النهوض بالشركة، لكن الأمر المؤسف أنه عندما تتلزم شركتك بنموذج العمل الاعتيادي الذي يتطلب من الموظفين الذهاب يوميًا إلى مكتب العمل، تغدو خياراتها محدودة، لأنها عادة تبحث عن الكفاءات من الموظفين المقيمين في نفس المدينة أو منطقة مقر العمل.
ورغم أن الكثير من الشركات تلجأ إلى التعاقد مع الموظفين من الخارج، واستقدامهم إلى نفس المدينة الموجود بها المقر الرئيسي للعمل، لكن هذا الخيار لا يسير دائمًا كما خُطط له نظرًا لتعقيدات مختلفة لسنا بصدد التحدث عنها هنا. على الجانب الآخر، تخيل مدى تنوع وشمولية الخيارات إن كنت تبحث عن المواهب في جميع بقاع الأرض بلا أي استثناء، هل حينها سيختلف الوضع مقارنة بالحالة الأولى؟
نعم، بكل تأكيد. فقد يكون السبب الرئيس لظهور العمل عن بُعد وتطوره لهذا الحد الذي نلمسه اليوم في المقام الأول هو محاولة جادة لحل مشكلة التوظيف والكفاءة التي كانت تعانيها الشركات باختلاف مجال عملها لسنوات طويلة، لذا فإمكانية توظيف الأشخاص الأكفاء في جميع أنحاء العالم دون الخضوع للحدود الجغرافية وتعقيدات الجدول الزمني، أحد أهم المزايا التي يحققها نظام العمل عن بُعد للشركات، إن لم يكن أهمها بالفعل.
يقول نيك ميتشل المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “Ultimate Performance” التي تعتمد بشكل كبير على التوظيف عن بُعد: “من اليسير القول إنك تريد الأفضل، لكن إن كنت تصر على ضرورة عمل الموظفين من المكتب، فأنت تقول إنك تريد الأفضل، ولكن في غضون 20 دقيقة من مقر العمل”، ويضيف: “يتيح لنا العمل عن بُعد أن نرمي شبكة المواهب على نطاق أوسع بكثير”.
زيادة الإنتاجية
يعتقد الكثيرون من أرباب العمل والموظفين أن العمل عن بُعد قادر على قتل الإنتاجية تمامًا، لكن يومًا بعد يوم يتضح لنا أن هذا الاعتقاد الراسخ لسنوات طويلة اعتقاد عارِ تمامًا من الصحة، إذ توجد عشرات الدراسات البحثية التي تشير إلى أن العمل عن بُعد أفضل في تعزيز الإنتاجية واستغلال أوقات العمل مقارنة بالعمل من مقر أو مكتب العمل.
فوفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة “غالوب” للاستشارات الإدارية عام 2017، فإن العاملين عن بُعد كانوا أكثر إنتاجية بمتوسط أربع ساعات أسبوعيًا مقارنة بزملائهم الذين يعملون في مقر العمل.
في حين كشفت دراسة أخرى أجرتها جامعة ستانفورد لمدة عامين، قارنت خلالها بين 500 موظف عمل نصفهم عن بُعد بينما عمل النصف الآخر في أماكن ومقرات العمل التقليدية أن الإنتاجية بين العمال عن بعد كانت أكثر بنحو يوم عمل كامل كل أسبوع مقارنة بأقرانهم الذين يعملون من مقر العمل، رغم أن هذه النتائج قد تبدو غير بديهية للبعض، فإنها صحيحة تمامًا وفى ازدياد مستمر، لكن يبقى السؤال المحير هو: كيف يكون العمل عن بُعد أفضل للإنتاجية؟
حسنًا، تتعدد الأسباب التي تجعل من العمل عن بُعد أكثر إنتاجية مقارنة بالعمل من مقر العمل، أهمها أن الموظفين يكونون أقل عرضة لانحرافات المكاتب مثل الدردشة مع الزملاء أو الاجتماعات المتكررة التي لا داع حقيقي لها، ما يجعلهم أكثر تركيزًا على مهام العمل وبالتبعية إنتاجية أفضل. ويعملون وفقًا للجدول الزمني الخاص بهم الذي يمكنهم من العمل بإنتاجية أفضل سواء صباحًا أم مساءً، إضافة إلى شعورهم بالمزيد من المرونة والحرية، ما يساعدهم على تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة.
التكلفة المنخفضة.. لا نفقات بعد اليوم
فكر قليلًا في النفقات المختلفة التي تتحملها جميع الشركات في نظام العمل الاعتيادي الذي يتطلب الحضور إلى مقر العمل، بداية من نفقات التشغيل التي تبدأ باستئجار عقار مقر العمل وموقف سيارات لصف سيارات الموظفين، مرورًا بتكاليف تجهيز المساحات المكتبية وشراء أجهزة الكمبيوتر والحواسيب الشخصية، وغيرها من النفقات الإضافية بما فيها الكهرباء وشبكة الإنترنت والهاتف، إلخ، إضافة إلى التكاليف الأخرى التي تتعلق بالتوظيف والتدريب المهني والتأمين الصحي والإجازات المدفوعة والضرائب وغيرها الكثير.
الآن، فكر في هذه النفقات في حالة اعتماد الشركة على نظام العمل عن بُعد. هذا صحيح، ستجد أن أغلبية تلك النفقات ستتلاشى. وفقًا لإحدى الدراسات التي أجريت مؤخرًا، فإن الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية وفرت ما يقرب من خمسة مليارات دولار خلال عام 2018 فقط، من ترك الموظفين يعملون عن بُعد بدوام جزئي، وبحسب دراسة أخرى أجرتها مجلة التدريب عام 2017، فإن الشركات أنفقت ما يقرب من ألفين دولار سنويًا على التدريب لكل موظف، في حين قضى الموظفون في المتوسط 47.6 ساعة في التدريب خلال عام 2016 وحده.
توضح هذه الأرقام كم المنفعة التي يمكن أن تعود على الشركات فيما يتعلق بالنفقات والتكاليف العامة عند تبني خيارات العمل عن بُعد. في الاتجاه ذاته، يقول رائد الأعمال إريك كوستر في حديثه لموقع “Investopedia”: “حاليًّا، قد تكلف عملية توظيف موظف جديد الشركات ما يتراوح بين 1.5 إلى 3 أضعاف راتب الموظف نفسه، لكن في الوقت ذاته، لم تعد الشركات التي تعتمد على نظام التوظيف عن بُعد في حاجة للقلق بشأن هذه النفقات بعد الآن”.
عربيًا.. رغم أن نظام العمل عن بُعد ليس وليد اللحظة، حيث تعتمد عليه الشركات الأجنبية منذ عدة سنوات، وبيد أنه ما زال في طور النشء في الوطن العربي، هناك تطور ملحوظ حتى الآن على الساحة، على سبيل المثال، سنجد أن موقع “بعيد” يعرض الكثير من الفرص الوظيفية التي توفرها الشركات العربية التي بدأت بالفعل في تطبيق نظام العمل عن بُعد.
قد لا يناسب نظام العمل عن بُعد جميع الشركات أو نماذج الأعمال المختلفة، لكن لا خلاف على المزايا اللانهائية التي يُوفرها بالنسبة لطيف واسع من سوق العمل خاصة الشركات التي تعمل في المجالات الرقمية وما يتعلق بها من مجالات العلوم والتكنولوجيا والإعلام، لذا، إن كنت تمتلك شركة ناشئة أو ترغب في تأسيس واحدة، فلا بد من وضع نظام العمل عن بُعد في الحسبان.