لا شك أن الأزمات التي تحيط بسودان ما بعد الإطاحة بالبشير يتحمل القدر الأكبر منها المكون العسكري الموجود في مجلس السيادة، وإن شئنا الدقة فإن المجلس السيادي بأكمله خاضع لسيطرة العسكريين، بينما لا يوجد أدنى أثر للأعضاء المدنيين رغم توفقهم عدديًا.
بصمات العسكريين حاضرة في كل الأزمات
تشير التطورات الأخيرة كلها إلى بصمات العسكريين المسيطرين على الأجهزة الأمنية، من ظهور عصابات إجرامية تنهب المواطنين تحت تهديد السواطير والسكاكين، وما قيل إنه تمرد من بعض أفراد هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن، إلى جانب استخدام القوة المفرطة والقمع في مواجهة تظاهرات الخميس التي جاءت لنصرة عدد من شرفاء الجيش أحالهم مجلس البرهان وحميدتي إلى المعاش، بينما تتمتع مسيرات “الزحف الأخضر” التي ينظمها عناصر النظام البائد بحماية تامة من الشرطة والأمن.
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في وضعٍ لا يُحسد عليه، فهو يبذل جهودًا مقدرة لمعالجة تركة 30 عامًا من الأخطاء الجسيمة، ويواجه في الوقت نفسه مؤامرات العسكريين وسعيهم الدؤوب لإفشال الحكومة المدنية، والأدهى من ذلك أن رئيس الوزراء يتحمل الضعف البائن الذي ظهر به أغلب وزراء الحكومة، فهو مقيّد بدرجة كبيرة من جهتين: الأولى الوثيقة الدستورية التي تشكل مرجعية لإدارة الفترة الانتقالية، أما الثانية فهي تحالف قوى الحرية والتغيير (ق ح ت)، التي تعتبر نفسها وصيةً على حمدوك وينبغي ألا يتخذ قرارًا أو خطوة من دون أن يناقشها مع الائتلاف الضخم الذي يضم بداخله أكثر من 70 كيانًا.
إنتاج الذهب يمكن أن يحل الأزمة الاقتصادية
الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم يومًا بعد يوم، كان بمقدور الحكومة الانتقالية حلّها بسهولة إذا تمكنت من السيطرة على إنتاج الذهب فقط، فالإنتاج السنوي للسودان يقدر بنحو 200 طن تصل قيمتها إلى ما بين 7-8 مليارات دولار، وهو مبلغ كان يمكنه أن يُنقذ البلاد من أزمة شح النقد الأجنبي وبالتالي حل أصعب المشكلات التي تواجه السودان وهي تصاعُد أسعار العملات الأجنبية التي وصلت إلى 107 جنيهات للدولار الواحد.
لكن الثابت أن معظم إنتاج السودان من الذهب تسيطر عليه مليشيا الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي”، العضو الأكثر نفوذًا داخل مجلس السيادة، لدرجة أنه منح نفسه صفة “نائب رئيس المجلس” وأحيانًا “النائب الأول لرئيس مجلس السيادة”، في حين أن الوثيقة الدستورية لا يوجد بها غير رئيس وأعضاء للمجلس السيادي.
والكل يعلم أن الدعم السريع تحكم قبضتها على عدة مناجم ذهب في كردفان ودارفور والولاية الشمالية، حيث تستخرج المعدن وتصدره عن طريق شركة الجنيد المملوكة لأسرة حميدتي إلى دولة الإمارات جهارًا نهارًا ولا أحد يجرؤ على مساءلتهم، فالشرطة والأجهزة الأمنية تلاحق البسطاء الذين يحاولون إخراج جرامات قليلة من الذهب، وتغض الطرف عن المليشيا التي تُخرج الأطنان تحت سمع وبصر الحكومة الانتقالية.
شركات النظام البائد آلت إلى العسكريين
رغم العوائد المالية الضخمة التي يدرها استخراج وتصدير الذهب لمليشيا الدعم السريع، فإن هناك مئات الشركات ذات الأصول الضخمة مثل شركة زادنا وغيرها من الشركات التي كانت تتبع للنظام البائد، أصبحت الآن مملوكة للعسكريين الموجودين في مجلس السيادة، والغريب في الأمر أن بعضًا من وزراء حكومة الثورة أصبحوا يطبلون لمؤسسات النظام البائد التي أصبحت تحت سيطرة العسكريين، كوزير المالية إبراهيم البدوي الذي زار شركة زادنا قائلًا إنها “ستُحدِث تحولات كبرى للنهوض بالاقتصاد القومي من خلال مشروعاتها في القطاعات المختلفة”، بدلًا من أن يُطالب الوزير بأيلولتها إلى وزارة المالية هي ومئات الشركات المشبوهة الأخرى.
كما اختطف العسكريون ملف السلام وهرولوا إلى أبو ظبي ثم إلى جوبا، ليس من أجل السلام كما يعتقد البعض بل إن هدفهم الرئيس عرقلة تعيين الولاة المدنيين وأعضاء المجلس التشريعي، بحجة إشراك الحركات الحاملة للسلاح، وأوحوا للأخيرة بالمماطلة والتسويف بغرض تأجيل تعيين الولاة والمجلس التشريعي، بهدف إضعاف الحكومة الانتقالية الضعيفة أصلًا، وإسقاطها في نهاية المطاف لاستبدالها بحكومة موالية خاضعة من حزب الأمة والحركات المسلحة وأي كيان سياسي من أحزاب “الهبوط الناعم”.
غضب من قمع مواكب الخميس
ما حدث يوم الخميس الماضي من قمع للثوار الذين خرجوا في مليونية رد الجميل لضباط القوات المسلحة الشرفاء، يعد انتكاسة كبيرة لحكومة الثورة وغدرًا غير متوقع من الشرطة السودانية التي من المفترض أن تكون قد أصبحت ثورية.
وبحسب مؤشر الرأي العام السوداني، هنالك غضب كبير مما جرى من قمع منظم لم يحدث بالصدفة، ومن الواضح أن تعليماته صدرت من أعلى مستوى، وأدى ذلك إلى تململ كبير وإحباطٍ من شباب الثورة السودانية نسبة لتراخي حكومتهم التي ائتمنوها حتى على دماء الشهداء.
منذ اليوم الأول لاقتلاع الديكتاتور وحتى هذه اللحظات لم يحدث التقدم المستحق الذي يمكن أن يشفع لرئيس الوزراء حمدوك أمام الثوار، فلجنة أديب للتحقيق في مجزرة القيادة العامة ما زالت تراوح مكانها رغم أن القاتل والمخطط معروف مسبقًا باعتراف المتحدث باسم المجلس العسكري المحلول شمس كباشي صاحب عبارة “وحدث ما حدث”، وما زال التدهور الاقتصادي مستمرًا حيث انحدرت العملة الوطنية أمام الدولار إلى 107 جنيهات في تعاملات الأحد الماضي، وكل يومٍ يمضي يعزز العسكريون سلطاتهم وصلاحياتهم بينما تفقد الحكومة المدنية الكثير من الثقة والمصداقية.
هل رهنت قوى الحرية والتغيير الثورة لعسكر السيادي؟
هناك نظرية رائجة في السودان تقول إن جزءًا من مكونات تحالف قوى الحرية والتغيير قد رهن الثورة السودانية إلى تسوية سياسية مع عسكر المجلس السيادي، تماثل مشروع “الهبوط الناعم” الذي اتخذته عدد من القوى السياسية خيارًا للتفاهم مع النظام البائد قبل اندلاع الثورة الشعبية، لكن هذه التسوية لن تجد قبولًا وسط الشارع السوداني، خاصةً بعد التطورات المتلاحقة من مجزرة فض الاعتصام، ورهن البلاد لمحور الثورات المضادة إلى جانب التعامل المتراخي مع قيادات النظام الساقط ومظاهرات منسوبيه، في مقابل العنف الذي تعرّض له ثوار مليونية مناصرة الضباط الشرفاء.
التطورات المتلاحقة الخطيرة تضع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وحكومته فضلًا عن تجمع المهنيين في مواجهة الشعب الذي ما زال ثائرًا ومراقبًا لكل ما يحدث، فعسكريو السلطة في السودان لا يمكن أن يقبلوا بتسليم كامل السلطة للمدنيين، بل إن هناك مؤشرات على انقلاب محتمل قبل أن تنتهي الفترة الأولى من الـ3 سنوات عُمر الفترة الانتقالية، إذ يُفترض أن تؤول رئاسة المجلس السيادي إلى أحد الأعضاء المدنيين.
أما الاحتمال الآخر فهو الهبوط الناعم الذي تمت الإشارة إليه بالأعلى، الذي يهدف إلى تجريد مجلس الوزراء، من معظم صلاحياته، وكانت البداية بملف السلام مع الحركات المسلحة فرئيس وفد التفاوض هو حميدتي الذي منح نفسه مسمى نائب رئيس مجلس السيادة، وهو مسمى لا وجود له في الوثيقة الدستورية.
الثورة السودانية هي ثورة شبابية عظيمة بكل المقاييس، حرام أن تنتهي ليقود البلاد عناصر من الصف الثاني لعسكر النظام المباد برعاية من دول الثورات المضادة
ومن ثم جاءت خطوة لقاء البرهان بنتنياهو في أوغندا دون استشارة الحكومة الانتقالية، ورغم أن البرهان قال حين تم افتضاح المقابلة، إن لقائه كان استكشافيًا فقط، وتطبيق العلاقات مع الكيان الإسرائيلي متروك للحكومة التنفيذية، فإن الوقائع أثبتت أنه توافق مع نتنياهو على أمر السماح للطائرات الإسرائيلية بعبور الأجواء السودانية على الأقل، وأغلب الظن أن البرهان يهدف إلى ضمان تثبيت نفسه في المقعد الرئاسي خلال النصف الثاني من الفترة الانتقالية بعد أن مهّد لترقية نفسه إلى رتبة المشير بترقية أعضاء في المجلس السيادي إلى رتبة الفريق أول.
حتى الآن، لا يحبذ رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الدخول في صراع مكشوف مع العسكريين، ربما خوفًا من انفلات الأوضاع، ولكن لو خرج حمدوك بخطابٍ متلفزٍ صرح فيه الشعب بحقيقة الأوضاع والعراقيل التي يضعها العسكريون أمام الحكومة الانتقالية وسيطرتهم على موارد البلاد المالية وأمنها، لخرج ملايين السودانيين إلى الشوارع لإسقاط عسكر السيادي، ولاستعادة مدنية الدولة كاملةً غير منقوصة، وتلبية كل مطالب الثورة بما فيها حل المليشيات وأيلولة الشركات المشبوهة إلى مؤسسات الدولة بعد مراجعتها.
ربما رأى رئيس الوزراء أن يؤجل خطوة المصادمة والمواجهة بلجوئه إلى طلب عون الأمم المتحدة لتيسير مهام الفترة الانتقالية، كي تكون ضامنًا ومراقبًا خوفًا من غدر العسكر، ولكن هذه الخطوة يجب أن تصحبها حملة تنويرية، بأن ذلك المسعى هو لإنجاز مهام الفترة الانتقالية بنجاح، ولن ينتقص من السيادة من بعيد أو قريب، مثلما أشاع أتباع النظام المباد بادعائهم أن رئيس الوزراء، بدعوته الأمم المتحدة إلى مساعدة الحكومة، وفق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، فإنه يرغب في أن يضع السودان تحت وصاية الأمم المتحدة.
الثورة السودانية هي ثورة شبابية عظيمة بكل المقاييس، صمدت لعام كامل في وجه آلة وحشية من القمع والقتل، وقدمت مئات الشهداء والجرحى معظمهم من الشباب، حرام أن تنتهي ليقود البلاد عناصر من الصف الثاني لعسكر النظام المباد برعاية من دول الثورات المضادة، أو حتى أن يتسلقها منسوبو الأحزاب الانتهازية البائسة والحركات المسلحة التي ظلّت تحارب المخلوع طيلة السنوات الماضية دون أن تنجح في إسقاطه ليسقط على يد هؤلاء الصغار العزل ذوي الأجساد النحيلة.