بعد ثلاثة أيَّامٍ من التّأجيل غير المُسبَّبّ، ودفعةٍ معنويَّة غير مباشرة من السُلطان الجديد هيثم بن طارق تجسّدت في كلمتِه التي صارت مضربًا للمثل ونبراسا للحركة الثقافية في عصره: “إن من يُبحر في تاريخ عُمان، سيجد أنها حظيت بإحدى الرّسائل الّتي وجهها الرّسول إلى ملوك الحضارات، ويكفينا فخرًا أن نكون إحدى الحضارات العظيمة الّتي خاطبها الرّسول، وإذا حصرنا من هم المخاطبون في ذلك الوقت، فهم أعظم الملوك والقياصرة، وبالتالي كيان عُمان قديم قدم الزّمان”؛ افتُتح معرض مسقط للكتاب في نسخة “اليوبيل الفضِّي”، يوم الثاني والعشرين من فبراير/ شباط الماضي، بمركز عمان للمؤتمرات والمعارض.
وقد حضر حفلَ الافتتاح الذي شهد تكريم ثلاث شخصيَّات عُمانية متميِّزة في مجالات التّصوير الضوئي، والدِّراسات المسرحيَّة، وأدب الطفل، كلّ من شهاب بن طارق آل سعيد شقيق السلطان الجديد ومستشاره، وعبد المُنعم بن منصور الحُسني وزير الإعلام العُماني، ومحمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب وعددٌ من السفراء العرب والأجانب.
وأعلن المفتتحون رسميًا اختيار محافظة “مسندم”، الواقعة أقصى شمال السلطنة، “ضيف شرف” لهذه النّسخة من المعرض، تأكيدًا على سياسة تدوير الضِّيافة الّتي باتت جزءًا من الهُوية الثقافيَّة العُمانيَّة، بعد أن سبق اختيار محافظاتٍ مثل نزوى وصحار وصلالة والبريمي ضيوفًا في نسخ سابقة، مؤكدين أنّ تكريم الافتتاح ليس حكرًا على أحد طالما توافرت فيه شروط الإبداع في أيّ من المجالات الثّقافيّة، وكان حاملًا للجنسيّة العُمانيَّة، ولم يسبق تكريمه على مجال مشابه في وقتٍ قريب، خاصة أن السلطنة تدعم كلّ المبادرات الوطنيّة الثقافيَّة الجادّة، مثل مسابقة اختيار خمس مبادرات قرائية لتلقي دعم حكوميّ طوال العام.
وبالنَّظر إلى أهميَّة السّلطنة وتفرّدها ثقافيًا، وضعف التَّغطية الإعلاميّة المُسلّطة على المعرض قياسًا على بعض المعارض الأخرى في المنطقة؛ فإننا نأخذك في جولةٍ حيّة داخل أروقة المعرض، نُرشِّح لك خلالها أهمّ الفعاليات الّتي يمكنك حضورها إذا كنت مقيمًا في السلطنة، أو متابعتها إذا كنت من المهتمين بموضوعاتها، مع إلقاء الضوء على بعض العناصر و”الأيقونات” المهمة الّتي شكَّلت هُويَّة المعرض في هذا العام.
ترشيحات الكبار
دونما أيّ تمييز جنسيِّ أو دينيِّ كما عوَّدَتنا، فإن اللجنة المُنظِّمة للمعرض قد قسَّمت فعالياته إلى قسمين حسب العمر: أنشطة الكبار، وأنشطة الأطفال. ومن بين الكثير من الندوات المُهمِّة، فقد رشَّحنا لك أكثرهم أهميَّة، بناءً على معيار: اشتباك المحتوى مع العصر، وارتباطه بالهُويّة المحلّية في نفس الوقت.
في السّابع والعشرين من فبراير/شباط، يوم الخميس، لدينا ثلاث محاضرات مُهمِّة تجري في نفس التوقيت، يمكنك التّرجيح من بينها على حسب اهتماماتك؛ حيث يُقدِّم الثلاثي سعيد الصقلاوي وهيثم العبري ومحمد المقدّم عرضًا في جناح بيت الزبير عن الهُوية العمرانيَّة لعُمان، بالتّزامن مع ندوة لُغويَّة أدبيَّة بمقاربة محلّية يقدّمها حميد الحجري في قاعة الفراهيدي عن تغيّر المجتمع العُماني من منظور شعريّ، بينما تصطحب هاجر الحراثي طلّابها في أمسية عن موضوع فريد لم يُطرَق كثيرًا وهو “المجالس الأدبية النسائية عند العرب” في قاعة ابن دريد، وجميع هذه المحاضرات لمدة ساعتين من السابعة إلى التاسعة.
معرض مسقط قد حوى خمسة أركان متنوِّعة موجّهة إلى الأجيال الناشئة، سواء أكانوا من الأسوياء أو ذوي القدرات الخاصّة
أمَّا يوم الجمعة، وهو أقلّ أيَّام المعرض ازدحامًا بالفعاليات بعد إلغاء الأنشطة “التفاعلية” الصباحيّة للسماح بأداء الشَّعيرة، فإننا نُرشِّح لك الذّهاب إلى قاعة العوتبي، من السابعة إلى التاسعة، للاستمتاع بندوة عن الاكتشافات الأثريّة الجديدة في محافطة مسندم، ضيف شرف المعرض، من تقديم سلطان البكري وأميرة الشحيَّة؛ على أن تُجهِّز نفسك لجدول ثريِّ من صباح السَّبت، يبدأ في الحادية عشرة صباحًا مع عبد الله اللواتي في ورشة عن فنّ كتابة القصّة القصيرة بقاعة ابن دريد، ثم إلى قاعة العوتبي لتتعلّم من أشواق المسكريَّة خطوات إنشاء قناة يوتيوب ناجحة من الواحدة إلى الثالثة عصرًا، وبعد ساعةٍ من الرَّاحة الذهنيَّة، سوف يمكنك تعلّم فنّ جديد مع الباحثة الشابة في مجال الإعلام سارة المريخية، هو فن المقال، حتى السادسة بقاعة ابن دريد.
وفي اليوم الثامن للمعرض، الأحد، إذا تمكنتَ من الاستيقاظ مبكِّرا قبل العاشرة وحجزت مكانك في قاعة أحمد بن ماجد، فإنها ستكون فرصة طيِّبة للحفاظ على هذه المهارة وإتقانها، من خلال ورشة “هندس وقتك” التي تقدِّمها فاطمة الشحيّة. وفي ثلاث ساعات مميَّزة من الرابعة إلى السابعة، قد تستطيع فتح باب رزق جديد في واحد من أكثر المجالات أهميَّة وعصريّة، وهو “الموشن جرافيك”، وذلك مع جواهر المجرفيَّة بقاعة العوتبي، وتختم بندوة خفيفة عن “الاهتمام بالفنون.. البنية الأساسيّة وآفاق المستقبل” لمريم الزدجالية وأحمد البوسعيدي، بجناح بيت الزبير.
ومن بين ثلاث محاضرات صباحية تُشكِّل نهايةً خفيفية في اليوم الأخير، الإثنين، فقد اخترنا لك ورشة “اصنع فيلمًا يدهش الجميع” بقاعة العوتبي من العاشرة لمحمد الغافري، أو إكمال ورشة المقال إذا كنت من المُهتمين بالمهارات الأدبية، مع محمد اللواتي، في نفس قاعته المعتادة، قاعة ابن دريد، ولكن من الحادية عشرة.
ترشيحات الأطفال
وفي خضم المنافسة الصحِّيَّة بين معارض الكتاب العربيَّة على جذب شريحة الأطفال، وأولياء الأمور بالتبعيّة، فإنّ معرض مسقط قد حوى خمسة أركان متنوِّعة موجّهة إلى الأجيال الناشئة، سواء أكانوا من الأسوياء أو ذوي القدرات الخاصّة، هي: كتابي حياتي، ودار الفنون، والمسرح، والعلوم والفضاء، وإبداع لتخطي حدود الإعاقة.
فإذا كنت واحدًا من أولئك المهتمين بشؤون التربية، فإننا نُرشِّح إليك يوم الخميس قضاء يومك في ركن “كتابي حياتي” للاستمتاع بأربع فعاليات ثرية، في الطفولة الآمنة مع وفاء الشامسية وفاطمة الزعابية، والنَّانو والكون الواسع برفقة جلنار زين، والقراءة مع يعقوب البوسعيدي، أو سماع قصة من فريد زمرد. كلّ هذه الفعاليات متاحة يوم الخميس في هذا الرّكن.
بينما نقترح أن تذهبَ يوم الجمعة في جولةٍ بركن “إبداع تخطى حدود الإعاقة” لتتعرَّف على تقنيات التربية الخاصّة، والحياة مع صعوبات التعلّم، وبعض من مهارات لغة الإشارة بصحبة أسماء شروبة وليلى حريض، ثم جلسة عن الألعاب النمائية من تقديم فاطمة الزعابية وعائشة الجابرية.
وقد يكون من الملائم قضاء يوم السبت في حضرة ركن المسرح، الّذي يقدّم لأطفاله عددا من الوجبات الفنيَّة الدّسمة، بدءًا من تمرين الكتابة المعنوَن بـ”الكاتب العبقري”، مرورًا بالمسرحيّة الصّامتة لدعم أصحاب الإعاقة السمعيّة، ثمّ كسر هذا الصّمت بفقرة “حكاية وطن” للحكواتي أحمد الراشدي، وصولًا إلى حثِّ الأطفال على المنافسة الفنيّة لاكتشاف مواهبهم عبر مسابقة لأفضل لوحة تبرز حضارة عمان وتاريخها.
وتُقدِّم يوم الأحد، الأوّل من مارس/ آذار بشرى الزهيمية لأطفالها عرض “كولاج فخر عُمان”، تليها دليلة الحارثيّة التي ستعلّمهم كيفيّة صناعة الكتب، وذلك في ركن “دار الفنون”، الذي يكمل نفس النمط من الأنشطة في آخر أيام المعرض، مع عبير الحارثية الّتي ستشرح طريقة استخدام الورق في صناعة أشكال ومشغولات أكثر تطورًا، ونورة البلوشية التي ستُرِي الأطفال عمليًا كيف يمكن للرمل الأصفر أن يصير مُلوَّنًا.
السلطان قابوس
برهنت الدّولة العُمانيّة الجديدة، برئاسة السُلطان هيثم بن طارق آل سعيد، على وفائها الحقيقيّ للسلطان قابوس بن سعيد، الّذي أرسى السلام في البلاد لمدة نصف قرن، من خلال أقرب مناسبة ممكنة، وهي معرض مسقط للكتاب؛ حيث حلّ السلطان الرّاحل “شخصيَّة المعرض” لهذا العام.
وبناءً على هذا التَّشريف، وبالرَّغم من رحيله عن العُمانيين بالجسد، فقد شهدت – وستشهد – فعاليات المعرض تركيزًا على عدد كبير من الزوايا المهمة في حياة الأبّ الروحي للعمانيين، بغرض تخليد ذكراه، ودراسة تجربته الفريدة في القيادة؛ حيث شهد المسرح المدرّج، مساء أمس، ندوة حوارية بعنوان “السلام في فكر السلطان قابوس” شارك خلالها وزير الخارجية يوسف بن علوي، ومن المنتظر أن يحاضر البروفيسور جوزيف كيشيشيان، رفقة عبد الله بن ناصر الرحبي، يوم الجمعة، في قاعة أحمد بن ماجد، من السابعة إلى التاسعة، عن “فكر قابوس”، كما يقدّم الرباعيّ راشدة الحسيني وسعيدة الفارسية ومحمد العجمي وأحمد العبريّة ندوةً، يوم السبت القادم، في قاعة الفراهيدي، عن شعر الرِّثاء، مُمثّلًا في حالة السلطان قابوس.
وقد تناولت إحدى جلسات المعرض شروط الترشح لجائزة السلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون (نسخة العمانيين)، والّتي دشّنها الراحل عام 2012، “لدعم الثقافة والفنون والآداب باعتبارها سبيلًا لتعزيز التقدم الحضاريّ والإنسانيِّ، والإسهام في حركة التطوَّر العملي والإثراء الفكريّ؛ حيث أشارت اللجنة المنظمة إلى أن المسابقة التي تتناوب في الاستهداف بين العمانيين والعرب، بالتبادل كل عام، سوف تقتصر على ثلاثة مجالات محلية: تحقيق التراث العماني، والفرق المسرحيّة، والمقال.
حضور نسائيٌ لافت
ومنذ اللحظات الأولى لحفل الافتتاح، أثبتتِ المرأة العُمانيّة حضورها الجارف في معرض مسقط لهذا العام؛ حيث تفوّقت على الرّجل في جوائز الحفل الثلاث الّتي ذهبت إحداها إلى الدكتورة آمنة ربيع سالمين على إسهاماتها في مجال “الدّراسات المسرحيّة”، وراحتِ الأخرى إلى الدكتورة وفاء بنت سالم الشامسية نظير مجهوداتها في حقل “أدب الطفل”، بينما حصل عبد الرحمن بن علي الهنائي على الجائزة الثالثة لأدواره في خدمة الثقافة المحلية عبر “التصوير الضوئي”.
وبعد حصر شامل أجريناه لعدد النساء اللائي شاركن في تقديم الأنشطة والمحاضرات من خلال الاطلاع على الجداول المتاحة عبر موقع المعرض بالشبكة، تبيَّن لنا أنهن قد تجاوزن عدد سبعين امرأة في مختلف المجالات، هذا إذا لم تزد أعدادهن عن ذلك.
كما شهد المعرض توقيع عدد كبير من النِّساء المبدعات على مؤلَّفاتهن الجديدة أمام الجمهور، حيث كان آخر هذه التوقيعات من نصيب الكاتبة منى علي الكعبي الّتي نُشر لها كتاب “من الذي أخذ الآيسكريم”، والمترجمة أزهار أحمد الّتي طُرح لها عملٌ بعنوان “ما حكاه الصوفيّ”، للكاتب “كي بي أمانا نوني”، مساء الأربعاء، كما ينتظر توقيع المزيد من الكاتبات خلال الأيام القادمة وحتى نهاية المعرض في الثاني من مارس/ آذار المقبل.