بينما تروج كثير من وسائل الإعلام العربية التابعة للنظام السوري وأصدقائه من دول مثلث: اليسار والقومية والتشيع، التي تنخرط في المعارك ضد معسكر الثورة السورية مباشرة على الأرض، أو تلك الوسائل التابعة لدول تعادي تركيا لأسبابٍ سياسية واقتصادية وتشتبك معها في مناطق نزاع أخرى بشكل غير مباشر، أسطورة هزيمة الجيش التركي ميدانيًا أمام نظيره السوري، مستغلين صور الضربة العسكرية الأخيرة التي تلقتها نقاط المراقبة التركية في إدلب، فإن الحقيقة خلاف ذلك.
الحقيقة خلاف ذلك، لا لأن طرفًا ما يريد تسويق سردية معينة، ولكن لأن تلك الرواية المشار إليها تعتمد على منطق الصورة والأرقام – وهي بالفعل أرقام كبيرة وخطيرة لذلك سعت الحكومة التركية إلى كبحها سريعًا كجزء من خطة احتواء الأزمة – بينما تتجاهل في نفس الوقت تسلسل الأحداث وفروق القوة والواقع الميداني والجزء الآخر من الصورة، بما يشي بتعمد الابتعاد عن الموضوعية والزج بسلطة الصورة على مواقع التواصل، وهي مساحة نفسية وغرائزية بالأساس، في ميدان “التحليل” وهو ركن يفترض أن تسوده أجواء العقلانية والتروي، ليصبح المثل القائل “خدوهم بالصورة”، في زمن الشبكات الافتراضية، أكثر تعبيرًا من نظيره القديم “خدوهم بالصوت”.
تحرير سراقب
في السادس والعشرين من فبراير/شباط الحاليّ، مساء يوم الخميس، أعلنت الفصائل السورية المُعارضة، ممثلة في الجبهة الوطنية للتحرير، فك الحصار عن مدينة “سراقب” الواقعة في ريف إدلب شمال شرقي سوريا وتحريرها من قبضة الجماعات المؤيدة للنظام، وهي المدينة التي طالما روج الإعلام الرسمي وأنصاره بأنها من بعد سقوطها في يدها، لن تعود أبدا إلى أحضان الثورة، خاصة أن وتيرة التحركات الميدانية كانت ترجح كفة النظام منذ مدة طويلة.
نجحت المسيّرات التركية في تسديد ضربةٍ جوية ناجحة لنظام “بانيستير إس 1” الروسي
وتعتبر سراقب مدينة ذات أهمية مزدوجة لكل من المعارضة السورية وراعيتها السياسية تركيا، حيث استطاعت الفصائل السورية، بتحرير سراقب، السيطرة على معظم أجزاء طريق (M5) الدولي الإستراتيجي، وفتح الطريق أمام تحرير مناطق جديد مثل معرة النعمان جنوب شرق إدلب، وتأمين نقطة تماس مع ريف حلب، بينما تمكنت تركيا من فك الحصار عن إحدى أهم نقاط المراقبة التابعة لها قرب “ترنبة”.
الجديد في هذه المعركة كليًا أن قوات المعارضة لم تكن لتتقدم هذا التقدم النوعي لولا الغطاء النيراني القادم من المواقع التركية في سوريا مباشرة أو من المرابض القريبة خلف الحدود. لم تتمكن تركيا من تحييد التفوق الجوي الروسي السوري بالتأكيد، ولكنها استطاعت مزاحمتهما في السماء عبر وابل من الطلعات الجوية المكثفة التي شنتها عشرات الطائرات المسيّرة من طرازي “أنكا – إس” و”بيرقدار تو بي تو”، بالتزامن مع قصف مدفعي عنيف بالراجمات محلية الصنع من طراز “تي – 300″، حيث تُجنب هذه النوعية الدقيقة من النيران تركيا الاشتباك المباشر مع الدفاعات الجوية الروسية في سوريا دون غطاء جوي مماثل.
وقد أظهرت مقاطع الفيديو الحديثة التي بثتها وزارة الدفاع التركية نجاح المسيّرات التركية في تسديد ضربةٍ جوية ناجحة لنظام “بانيستير إس 1” الروسي، ومنظومة بانيستير، لمن لا يعلم، صنعت خصيصًا في الأساس بغرض التصدي للطائرات المسيّرة والصواريخ الجوالة والطائرات المقاتلة التي تحلق على ارتفاعات منخفضة ومتوسطة، حيث يعتبر هذا التطور، فيما يبدو، واحدًا من الأسباب التي دفعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى اعتبار معركة “سراقب” نقطة تحول جديدة وبداية تغير فعلي في موازين القوى بهذه المنطقة.
انتقام
الضربات العسكرية التركية التي استمرت 17 يومًا بهذه الوتيرة مستهدفة قوات النظام، خلفت، لأول مرة وبوضوح، عشرات القتلى في صفوف قوات الأسد المحمية بالطيران الروسي، كما ألحقت هزيمة نفسية كبيرة بالقوات النظامية التي فقدت سراقب بعد 20 يومًا فقط من الاحتفاء بالسيطرة عليها، واضطرتها إلى الفرار من المدينة تاركة خلفها عشرات القطع والمخازن العسكرية، كما تظهر مقاطع الفيديو التي بثها ناشطون ميدانيون من المدينة بعد تحريرها.
توضح المقاطع الرسمية بشكل دقيق استهداف المُسيّرات التركية لأعداد كبير من أرتال “تي – 72” المدرعة ومرابض المدفعية ذاتية الحركة “عيار 152″، التي تحوي – بطبيعة الحال – تجمعاتٍ بشرية كبيرة لقوات النظام، وبينما تقدر الآلة الإعلامية التركية الخسائر البشرية في صفوف قوات النظام السوري، مستخدمة مصطلح “تحييد”، بأكثر من 1700 عسكري من قوات الأسد، فإننا نتحدث عن نحو 650 قتيلًا على الأقل، إذا استبعدنا الجرحى والفارين ومن سلموا أنفسهم ممن يندرجون تحت دلالة المصطلح، كما يؤكد علي بكير الخبير بالشأن التركي.
يُرجح أن الأسد السوري، ومن خلفه الدب الروسي، قررا اغتيال الذئب التركي المنتشي بالأوضاع العسكرية الجديدة
وقد اعترف المراقب السوري المقرب من النظام، والمعروف بمصداقيته واطلاعه على الأخبار ميدانيًا، سليمان شاهين، بأن النظام السوري يمارس تعتيمًا إعلاميًا شديدًا على حقيقة خسائره البشرية التي تكبدها على يد القوات التركية في معارك الشمال السوري مؤخرًا. وفيما يبدو أنها محاولة انتحارية لفرض حظر جوي على الطائرات الروسية في المجال السوري بقوة، أظهرت مقاطع فيديو بثها ناشطون محاولة جنود أتراك استهداف قاذفات روسية، باستخدام مضادات طيران حرارية محمولة على الكتف.
لذلك، وفي ضوء هذه المعطيات، يُرجح أن الأسد السوري، ومن خلفه الدب الروسي، قررا اغتيال الذئب التركي المنتشي بالأوضاع العسكرية الجديدة في الأراضي المحررة، واستغلال الوضع الميداني الذي يرجح تفوقهما الجوي في ظل عدم قدرة تركيا على تشغيل منظومات “إس 400” الجديدة في الوقت الحاليّ لأسباب فنية وتعنت “الناتو” في تسليم منظومات “باتريوت” إلى أنقرة، لإعادتها إلى قواعد الاشتباك القديمة، عبر استهداف إحدى نقاطها العسكرية جوًا، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 22 عسكريًا تركيًا وجرح العشرات مساء الخميس.
المزيد من الخسائر النوعية
كان طبيعيًا أن تنتقم أنقرة من نظام الأسد بعد تسببه في مقتل العشرات من جنودها، بغض النظر عن أي إنجاز تحقق في معركة سراقب، فالأمر الآن بات يتعلق بصورة تركيا كدولةٍ فاعلةٍ إقليميًا، قادرة على تأمين جنودها بإحدى مناطق عمقها الإستراتيجي، كما يتعلق، في نفس الوقت، بالتقييم النهائي لمشروع الرئيس أردوغان، فما حدث قد يجُب كل جهود العدالة والتنمية لبسط النفوذ التركي على شمال سوريا الممزق وحمايته من الأكراد وتوفير الأمن للمدنيين، فيما قد يُسجَل رمزيًا كانتصار أسدي على تركيا.
وقد تنصلت روسيا في بيانها عن الحادث من مسؤولية حماية النظام وأعطت تركيا ضوءًا أخضر لعقابه، تحت مظلة عدم انزلاق الأمور إلى الهاوية، وذلك عبر الإشارة إلى دورها في إسكات “طائراته” فور العلم بوجود قوات تركية وسط المسلحين.
شهدت الجولة الثانية من الرد التركي مقتل وإصابة 56 عسكريًا من قوات النظام، وما زالت العمليات العسكرية مستمرة
وبحسب سليمان شاهين، فقد قصفت تركيا في عملية الانتقام لجنودها أرتالًا بمحور سراقب وخان السبيل، مما أعاق عمليات جيش النظام في هذه المنطقة، وتسبب في خسارته مناطق جديدة مثل داديخ وجوباس وتل مرديخ، وبشكل محدد، فإن الحصيلة الأولية لخسائر قوات النظام تُقدر بخمس مروحيات وثلاث وعشرين دبابة وثلاث عشرة مدرعة وثلاثة وعشرين مدفعًا متنوعًا وخمس شاحنات ذخيرة ومنظومتي دفاع جوي وثلاثة مستودعات ذخيرة ومستودعي مواد لوجيستية ومركز قيادة وسيطرة، وتحييد أكثر من ثلاثمئة عسكري، كما أكد وزير الدفاع التركي خلوصي أقار، من مركز قيادة العمليات في هطاي، على الحدود السورية التركية.
ومن بين قتلى النظام خلال الرد التركي قياداتٌ عسكرية ميدانية رفيعة مثل اللواء ركن برهان رحمون قائد اللواء 124 حرس جمهوري، كما قتل العقيد مازن حموي فراتي والعميدان: نصر ضويا وإسماعيل علي، فيما شهدت الجولة الثانية من الرد التركي مقتل وإصابة 56 عسكريًا من قوات النظام، وما زالت العمليات العسكرية مستمرة في الوقت الحاليّ ومرشحة لمزيد من التصاعد ما إن عاودت قوات الأسد ضرب النقاط التركية.