يتزايد نفوذ المال في العالم سواء بتأييد أصحاب الأموال من رجال الأعمال لتوجهات سياسية بعينها عبر الأحزاب والأشخاص والتأثير في الإعلام أم جماعات المصالح والضغط أم بخوض السباقات الانتخابية بذواتهم مباشرة، وبصعود ترامب شهدنا تصاعدًا لنفوذ المال السياسي عبر إنفاق انتخابي كبير في انتخابات 2016 ويتزايد هذا الزخم للمال السياسي بإعلان المرشح الديمقراطي بلومبيرج خوضه السباق الانتخابي، وبلومبرج هو عمدة نيويورك السابق وأحد أغني 10 أشخاص في العالم، إذ تخطت ثروته حاجز 55.5 مليار دولار عام 2019 وفقًا لقائمة فوربس.
وبوجود رجل الأعمال الملياردير والرئيس الأمريكي الحاليّ دونالد ترامب المنافس الوحيد من الحزب الجمهوري تبدو المنافسة شرسة سواء داخل الحزب الديمقراطي أم في المواجهة بين الحزبين بعد نهاية الانتخابات التمهيدية والبدء في المواجهة المباشرة مع ترامب.
عندما ينافس المال السياسي مباشرة.. من ترامب إلى بلومبيرج
تشير التقارير التي نشرتها لجنة الانتخابات الاتحادية عن انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016 أن حملة هيلاري كلينتون أنفقت ما يزيد على 585.5 مليون دولار في الوقت الذي أنفقت فيه حملة دونالد ترامب 350.5 مليون دولار في ذات الانتخابات، ويشير تقرير لرويترز إلى أن حملة بلومبيرج أنفقت ما يزيد على 409 ملايين دولار منذ انطلاقها وحتى 20 من فبراير الحاليّ، وبالنظر إلى كونه أحد أغنى عشرة أشخاص في العالم فبإمكانه إنفاق المزيد، فهو يرى نفسه الوحيد القادر على هزيمة ترامب، ويبدو أن منطق المال السياسي المصدر الوحيد لهذا الاعتقاد، لكن إنفاق هيلاري كان أكبر من ترامب ومع ذلك خرجت من السباق.
تشير التقارير إلى حجم ثروة بلومبيرج وكذلك قدراته الانتخابية المتمثلة بفريق انتخابي كبير أضعاف الفريق الانتخابي لترامب وللمرشحين الديمقراطيين الآخرين سواء في عدد الأفراد أم القدرة على الإنفاق، إذ ينتوى إنفاق 500 مليون دولار لهزيمة ترامب، لكن هذا لم يضمن له النجاح في الولايات التي جرت فيها الانتخابات التمهيدية حتى الآن، بينما نجد ساندرز يتفوق في تلك الولايات وهو لم يجمع أكثر من 43.5 مليون دولار حتى الآن ويحقق الفوز في نيو هامبشاير وأيوا ونيفادا.
ساندرز ومواجهة المال السياسي بأدوات غير تقليدية
تبدو المواجهة بين ساندرز الذي يمثل جناحًا اشتراكيًا داخل الحزب الديمقراطي وأصحاب النفوذ والمال السياسي المهيمنين على الحزبين الكبيرين داخل الولايات المتحدة صعبة لكنها غير مستحيلة، فالرجل الذي بدأ حملته بمتبرعين بمبالغ مالية صغيرة تتراوح بين دولارين وخمسة دولارات اجتذب فئات عازفة عن المشاركة في الانتخابات التمهيدية وفي العملية السياسية الحاليّة بخطاب أكثر جذرية عن أي خطاب سابق في تاريخ الولايات المتحدة، خطاب يتحدى متنفذي وول ستريت وحراس معبد توافق واشنطن والمؤسسات المالية الدولية من كبار الرأسماليين، ووفقًا لموقعه وصل متبرعو حملته لأكثر من مليون وهو هنا يصك نموذجًا تضامنيًا لا مركزيًا للتمويل الصغير ويخلق شبكة داعمين غير تقليدية، ما يعني شبكة واسعة من مناهضي ترامب والخطاب السائد للسياسة التقليدية داخل الحزبين.
يتوجه ساندرز إلى جمهوره بخطاب يساري واضح ومنضبط يستقرئ المطالب الكامنة لدى الفئات الأكثر هشاشة ومعاناة من النظام الرأسمالي العالمي السائد الذي تقوده الولايات المتحدة وتحافظ عليه حكوماتها المتعاقبة ومؤسساتها، فهو يتحدث مباشرة عن نظام تأمين صحي عادل ورعاية صحية للجميع وعن إلغاء ديون الطلبة وتعليم للجميع وعن قضية عدالة توزيع الأرباح والأعباء وضرورة تحمل الأغنياء حصة عادلة من الضرائب وعن العدالة للجميع وعن تحميل أساطين النفط والصناعة كلفة تلويث البيئة والمساهمة في استدامة الموارد الطبيعية والتوجه نحو الاقتصاد الأخضر.
ذ الانتخابات السابقة استطاع ساندرز في 2016 أن يخلق تحالفًا حوله، فقد جمعت حملته قرابة 237 مليون دولار 231 مليون منها تبرعات فردية وفقًا للجنة الانتخابات الاتحادية
إنه خطاب مواجهة الـ1% بحقوق الـ99% الآخرين، فيستخدم عبارات جذرية وحماسية واضحة تملأ لقاءاته ومؤتمراته الجماهيرية وموقعه مثل: “ليس أنا بل نحن” و”بيرني يهزم ترامب” و”لا يوجد مرشح واحد قادر على مواجهة دونالد ترامب وطبقة المليارديرات وحده هناك طريقة واحدة فقط للفوز وهي أن نواجهه معًا”.
ساندرز ليس وليد اللحظة
انتخب ساندرز رئيسًا لبلدية برلنجتون عام 1981 وأعيد انتخابه ثلاث مرات، كما فاز في انتخابات مجلس النواب الأمريكي عام 1990، كما انتخب مستقلًا في مجلس الشيوخ في 2006 وأعيد انتخابه في 2012، ونافس على الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في سباق 2016 الرئاسي.
منذ الانتخابات السابقة استطاع ساندرز في 2016 أن يخلق تحالفًا حوله، فقد جمعت حملته قرابة 237 مليون دولار 231 مليون منها تبرعات فردية وفقًا للجنة الانتخابات الاتحادية، وسعى ساندرز والتحالف الذي تشكل حوله ممن يمكن وصفهم برافضي النيوليبرالية على اختلاف مشاربهم إلى تجذير تحالف قوى وقاعدي بدت بوادره بحراك المعلمين والمعلمات المطالبين بأجور عادلة وحملات طرق الأبواب التي خاضها الرجل وأنصاره عبر مئات المقاهي في كل الولايات ومئات الفيديوهات وآلاف التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي ردًا على مزاعم مناهضيه من اليمين وأقصى اليمين.
اجتذبت هذه الخطابات قطاعًا واسعًا من المجتمع الأمريكي وبالذات فئة الشباب الذين أصبحوا ينظرون للفكر الاشتراكي بصورة أكثر إيجابية مقارنة بكبار السن، ويربطونه بتحقيق عدالة اقتصادية وتساوي الفرص أمام الجميع.
يحمل الإعلام الأمريكي التابع لكبار المليارديرات وأساطين المال عداءً لأي توجهات اشتراكية، ويغذي هذا الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع هذا العداء نحو الأفكار الاشتراكية والشيوعية واليسار بشكل عام، وتمتلئ التقارير والأخبار بالسرديات السلبية عن بيرني ساندرز وخطورته على الحزب الديمقراطي وعلى الولايات المتحدة ونظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهذا ليس وليد الصدفة فالرجل سيحمّل هؤلاء بوضوح حصتهم من الأعباء.
قد يستطيع رأس المال التجاهل والإنكار لكنه قد لا يصمد، فلا يخفى امتلاك وسائل الإعلام الكبرى في بلد ضخم بحجم الولايات المتحدة من كبار الرأسماليين، ولذا فإن تشويه سمعة الاشتراكية والمرشحين ذوي الميول غير المتسقة مع المناخ العام الأمريكي المحافظ سياسيًا بحزبيه الكبيرين ليست وليدة الصدفة، وعلى أقل تقدير فإن الصحف التي لم تشارك في حملات التشويه لساندرز وأفكاره تجاهلت الاستطلاعات التي تشير لاحتمال تفوقه على ترامب حال مواجهته وركزت كثيرًا على أخبار سلبية متعلقة به وبكراهية الأمريكيين للطرح الاشتراكي وبحملته.
ويكفي أن يضع القارئ اسم بيرني ساندرز في خانة البحث عبر الواشنطن بوست ويقارن العناوين التي تظهر ليلاحظ أن أغلبها سلبي سواء عبر وصفه بأسهل شخص ليهزمه ترامب أم بتجاهل استطلاعات تقدمه أم حتى بترديد عبارات خصومه الديمقراطيين بأن برنامجه غير واقعي وغير ممكن وخطابه ديماجوجي وخطر على الولايات المتحدة رغم أنه يقدم إجابات تفصيلية على تمويل البرامج التي يطرحها ويدافع عنها عبر موقعه، سواء ما يتعلق منها بإلغاء ديون الطلبة أم توسيع مظلة الحماية الاجتماعية أم ضمان حق السكن للجميع أم القضاء على الديون الطبية أم ضمان الرعاية الصحية للجميع أم التوصل إلى صفقة خضراء جديدة فيما يرتبط بقطاع الطاقة.
سواء فاز ساندرز بهذه الانتخابات أم لا فإنه خلق تيارًا أمريكيًا عامًا أكثر تقبلًا للأفكار الاشتراكية ولمراجعة دور الدولة في الاقتصاد ومدى عدالة عمليات الإنتاج والتوزيع، وأثار جدلًا عن الحقوق الأساسية للمواطنين ومدى التزام الدولة بها
تبقى أمام ساندرز مهمة صعبة في اجتياز الثلاثاء الكبير الذي يحل في الـ3 من مارس حيث تجري الانتخابات التمهيدية في 14 ولاية تحدد بشكل كبير هوية المرشح الفائز بترشيح الحزب الديمقراطي في مواجهة ترامب، وإذا فاز بترشيح الحزب الديمقراطي فإن فرصه في حسم مواجهة ترامب تصبح قوية لجذرية خطابه وتكون تحالف عمالي ونضالي قوامه الشباب قائم على المواجهة المباشرة ومجابهة سياسات ترامب الهوجاء داخليًا وخارجيًا ويستطيع جلب ناخبين جدد للعملية السياسية.
ورغم الهزيمة المفجعة لجيرمى كوربن في الانتخابات البريطانية الأخيرة وخسارة اليسار لرموزه في اليونان وبعض دول أمريكا اللاتينية، فإن تلك الحالة التي صحبت موجة الصعود في إسبانيا والمكسيك أعادت الجدل إلى العملية السياسية برمتها وإلى الصراع الاقتصادي والاجتماعي وجلبت عشرات الآلاف من الأتباع لأحزابها السياسية في حين تعاني الأحزاب الليبرالية التقليدية حالة من الركود والتكلس وانخفاض عضويتها.
وسواء فاز ساندرز بهذه الانتخابات أم لا فإنه خلق تيارًا أمريكيًا عامًا أكثر تقبلًا للأفكار الاشتراكية ولمراجعة دور الدولة في الاقتصاد ومدى عدالة عمليات الإنتاج والتوزيع، وأثار جدلًا عن الحقوق الأساسية للمواطنين ومدى التزام الدولة بها، وهو جدل غاية في الأهمية في بلد كان يبني تحالفاته على أساس معاداة وتطويق الأفكار الاشتراكية، ولا يبدو أن هذا التيار قد ينحسر في الأمد المنظور، فالعملية السياسية أكبر من مجرد الانتخابات وصراع الأفكار أقوى من مجرد العمليات الانتخابية والصناديق.