بات من الواضح أن مفاوضات السد وصلت بشكل رسمي إلى طريق مسدود، إن لم تكن على مشارف انهيار تام، وذلك بعد أن قررت إثيوبيا عدم المشاركة في أي مفاوضات تخص سد النهضة من شأنها أن “تضر بالمصالح الوطنية للبلاد” إثر تغيبها عن جولة توقيع الاتفاق الذي صاغته أمريكا والبنك الدولي في واشنطن.
وزارتا الخارجية والطاقة الإثيوبيتان أكدتا في بيان لهما أن أديس أبابا ستبدأ الملء الأولي لخزان السد بالتوازي مع عمليات البناء، في الوقت الذي كانت فيه مصر توقّع على الصيغة النهائية للاتفاق، في وقت امتنع فيه السودان عن التوقيع أيضًا، على الرغم من اختراق الموقف السوداني لصالح القاهرة في الجلسة التي سبقت الأخيرة.
منذ الوهلة الأولى لدخول أمريكا على خط الأزمة، رجحت مصادر عدة أن المفاوضات لن تفارق نقطتها الضيفة، وأن قبول المفاوض الإثيوبي التماشي مع الطرح الأمريكي في الجلستين الأولى والثانية كان الهدف منه كسب مزيد من الوقت لوضع مصر أمام الأمر الواقع وهو ما تلوح في الأفق إرهاصاته يومًا بعد يوم.
وكانت القاهرة قد أعلنت فجر السبت توقيعها، منفردة، بالأحرف الأولى، على مسودة اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي في واشنطن، في ختام جولة المفاوضات التي عقدت بضيافة وزارة الخزانة الأمريكية وبحضور ممثلي البنك الدولي ووزراء الخارجية والري في مصر والسودان، في غياب الطرف الأصيل في هذه المفاوضات وهو الجانب الإثيوبي الذي قاطع الجولة احتجاجًا على صياغة المسودة وما جاء في بعض بنودها.
أديس أبابا وفرض الأمر الواقع
رفضت إثيوبيا البيان الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية بعد الاجتماع الأخير الذي عقد في واشنطن بحضور ممثلي مصر والسودان والبنك الدولي، حيث ترى أديس أبابا أنها “باعتبارها مالكة السد، فإنها ستبدأ في الملء الأولي لخزان السد بالتوازي مع البناء، وذلك بمراعاة مبادئ الاستخدام المنصف والمعقول والتسبب في عدم حدوث ضرر كبير على النحو المنصوص عليه في اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة مع مصر والسودان في مارس 2015″، وفقًا لبيان الخارجية والطاقة.
وعبرت الوزارتان في بيانهما المشترك عما وصفاه “خيبة الأمل” إزاء البيان الأمريكي، مضيفًا “إثيوبيا لا تقبل توصيف البنود التي تمت صياغتها باعتبارها المبادئ التوجيهية والقواعد بشأن الملء الأول والتشغيل السنوي”.
التسويف الإثيوبي وعرقلة المسار التفاوضي دفع الكثير من الخبراء إلى تأكيد الشكوك التي أثارتها القاهرة قبل فترة بخصوص عدم جدية الجانب الإثيوبي في عملية المفاوضات، وهو ما تم تفنيده بصورة كبيرة مع قبول الإثيوبيين الوساطة الأمريكية والجلوس مع إدارة الرئيس دونالد ترامب وما أسفر عن ذلك من تصريحات إيجابية تشير إلى أن الحل مسألة وقت.
الرئيس الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، يرى أن بيان الخارجية الإثيوبية اليوم مثير للقلق، حيث يذكر أن البدء في ملء السد مرتبط بعملية البناء وغير مرتبط بالتوصل إلى اتفاق بشأن الملء والتشغيل وأن إجراءات الأمان كافة نوقشت، الموقف الإثيوبى يتعارض مع البيان الأمريكي في ضرورة التوصل إلى اتفاق قبل الملء وضرورة استكمال إجراءات الأمان.
وأضاف البرادعي في تغريدة له على حسابه على تويتر أن أديس أبابا تسعى لفرض الأمر الواقع الذي لا يتسق مع مبدأ التعاون وعدم الإضرار بدول المصب، وتابع “أرى أهمية التركيز الآن على بناء موقف دولي ضاغط مؤيد للموقف المصري والسوداني وموقف الوسيط الأمريكي في ضرورة التوصل إلى اتفاق شامل قبل الملء وهو ما يمليه مبدأ حسن النية”.
الأمان.ألمس فى الموقف الاثيوبى محاولة لفرض الأمر الواقع الذى لايتسق مع مبدأ التعاون وعدم الأضرار بدول المصب.أرى أهمية التركيز الآن على بناء موقف دولي ضاغط مؤيد للموقف المصري والسوداني وموقف الوسيط الأمريكي في ضرورة التوصل إلى اتفاق شامل قبل الملء وهو ما يمليه مبدأ حسن النية/٢
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) February 29, 2020
القاهرة وحسن النية
اتسم الموقف المصري على مدار الخمس سنوات الماضية في مسار مفاوضاته مع الجانب الإثيوبي بحسن النية، كان هذا ملخص البيان الصادر عن الخارجية المصرية تعليقًا على الدعوة الأمريكية للمشاركة في اجتماع 27 و28 من فبراير الماضي، الذي ذكر أن تلبية الدعوة جاءت من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، وتنفيذًا للالتزامات الواردة في اتفاق إعلان المبادئ المبرم بين مصر والسودان وإثيوبيا في 23 من مارس 2015.
الخارجية المصرية ثمنت دور الولايات المتحدة والبنك الدولي في هذا المضمار، ورعايتهما لجولات المفاوضات المكثفة التي أجريت على مدار الأشهر الأربع الماضية في بلورة الصيغة النهائية للاتفاق، التي تشمل قواعد محددة لملء وتشغيل سد النهضة وإجراءات لمجابهة حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة وآلية للتنسيق وآلية ملزمة لفض النزاعات وتناول أمان سد النهضة والانتهاء من الدراسات البيئية.
القاهرة بررت موافقتها على التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق المطروح بصورة منفردة بعيدًا عن الجانب الإثيوبي وهو طرف أساسي في العملية، بأنه جاء تأكيدًا لجديتها في تحقيق أهداف هذا الاتفاق ومقاصده، معربة عن تطلعها لأن تحذو كل من السودان وإثيوبيا حذوها في إعلان قبولهما بهذا الاتفاق والإقدام على التوقيع عليه في أقرب وقت باعتباره اتفاقًا عادلًا ومتوازنًا ويحقق المصالح المشتركة للدول الثلاثة.
وفي نهاية البيان أعربت الخارجية المصرية عن أسفها لتغيب إثيوبيا غير المبرر عن هذا الاجتماع في هذه المرحلة الحاسمة من المفاوضات، مؤكدة في الوقت ذاته أن كل أجهزة الدولة المصرية ستستمر في إيلاء هذا الموضوع الاهتمام البالغ الذي يستحقه في إطار اضطلاعها بمسؤولياتها الوطنية في الدفاع عن مصالح الشعب المصري ومقدراته ومستقبله بكل الوسائل المتاحة.
محاولة أمريكية لإنقاذ الموقف
شددت وزارة الخزانة الأمريكية في بيانها على أهمية عدم البدء في ملء سد النهضة دون إبرام اتفاق بين مصر وإثيوبيا والسودان، لافتًا إلى أن الولايات المتحدة سهلت إعداد اتفاق بشأن ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي بناءً على الأحكام التي اقترحتها الفرق القانونية والتقنية في مصر وإثيوبيا والسودان وبمساهمة فنية من البنك الدولي.
وبحسب البيان فقد شارك وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين، في اجتماعات ثنائية منفصلة مع وزيري الخارجية ووزيرى الموارد المائية في مصر والسودان خلال يومي الخميس والجمعة الماضيين، بعد إعلان إثيوبيا تغيبها عن الحضور، وتبادل الوزراء خلال اجتماعات ثنائية منفصلة، تعليقاتهم على الاتفاق.
وترى واشنطن أن العمل المنجز خلال الأشهر الأربع الماضية أسفر عن اتفاق يعالج جميع القضايا بطريقة متوازنة ومنصفة، مع مراعاة مصالح البلدان الثلاث، موضحة أن “هذه العملية تعتمد على سبع سنوات سابقة من الدراسات والمشاورات الفنية بين الدول الثلاثة، والاتفاق الناتج، في رأينا، ينص على حل جميع القضايا المعلقة بشأن ملء وتشغيل السد”.
واختتم البيان مؤكدًا أنه تماشيًا مع المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية إعلان المبادئ، لا سيما مبادئ عدم التسبب في ضرر كبير لبلدي المصب، لا ينبغي إجراء الاختبار النهائي وملء السد دون اتفاق، وجددت الولايات المتحدة التزامها بالبقاء على اتصال مع الدول الثلاثة حتى توقيع الاتفاق النهائي الذي سيكون نقطة تحول للمنطقة، ما يؤدي إلى تعاون مهم عبر الحدود، وتنمية إقليمية وتكامل اقتصادي وتحسين حياة أكثر من 250 مليون شخص في مصر وإثيوبيا والسودان.
تحفظ سوداني
الخرطوم كذلك كانت حاضرة في مسار تعميق الأزمة، حيث رفضت هي الأخرى التوقيع على المسودة بالأحرف الأولى، رغم الضغوط المصرية المتجددة بشأن تبني الدولتين (مصر والسودان) موقفًا واحدًا للتصدي للتعنت الإثيوبي الذي سيلقي بظلاله القاتمة على مستقبل الأمن المائي في دول المصب.
وبحسب المصادر فإن المسؤولين السودانيين أبلغوا نظراءهم المصريين في واشنطن بأنهم يوافقون على أكثر من 90% من محتويات المسودة، لكنهم لن يوقّعوا إلا بعد التأكد من مصداقية الجانب الإثيوبي، وهو الشرط الذي يبدو أنه لن يتحقق بعد تغيب أديس أبابا وإعلانها خطواتها التصعيدية بشأن ملء الخزان تماشيًا مع بناء السد.
وفي بيان لها، قالت وزارة الري السودانية، إن وفد بلادها المفاوض بشأن سد النهضة، انخرط بعد وصوله إلى واشنطن في مفاوضات ثنائية يومي الخميس والجمعة، مع فريق وزارة الخزانة الأمريكية، وأنه قدّم ملاحظاته بشأن مسودة الاتفاقية الشاملة التي يجري التفاوض بشأنها، إلى الفريق الأمريكي، الذي قام بتضمينها في المسودة التي اقترحتها واشنطن الأسبوع الماضي.
الوزارة أعلنت أن السودان يؤكد التزامه بعملية التفاوض لأجل الوصول إلى اتفاق شامل لملء وتشغيل سد النهضة بما يحفظ مصالح الدول الثلاثة، وبما يتضمن تشغيلًا آمنًا للسد، وذلك قبل بدء عملية الملء الأولي.
هل فشلت الوساطة الأمريكية؟
العلاقات القوية التي تربط بين واشنطن من جانب والقاهرة وأديس أبابا من جانب آخر كانت الدافع الأكبر لقيام الولايات المتحدة بدور الوساطة في هذا الملف الساخن لا سيما بعد السجال الإعلامي والسياسي بين البلدين الذي وصل إلى حاجز التلويح باستخدام القوة العسكرية هنا وهناك.
التحرك الأمريكي للحيلولة دون تفاقم الوضع أضفى حالة من الطمأنينة والارتياحية لا سيما على الجانب المصري الذي تربطه علاقات قوية مع إدارة دونالد ترامب، وهو ما دفع القاهرة لإلقاء الكرة في ملعب الأمريكان رغم الممارسات المثيرة للقلق من الجانب الإثيوبي التي تشير إلى مماطلة وتسويف عملية التفاوض.
البعض يرى أنه برفض أديس أبابا حضور الاجتماعات والتوقيع على المسودة الأولى للاتفاقية فإن الوساطة الأمريكية بهذا تكون قد دخلت غرفة الإنعاش في انتظار إعلان الوفاة بشكل رسمي، فيما ذهب آخرون إلى أن واشنطن لن تترك هذا الملف بصورة كلية في الوقت الراهن، وأنها ستعمل على تقريب وجهات النظر عبر الدعوة لجولات تفاوضية أخرى خلال الفترة المقبلة.
يبدو أن الجانب الإثيوبي بمباركة أمريكية يعزف على وتر تبريد الأجواء في القاهرة عبر التصريحات الإيجابية بين الحين والآخر، ثم العدول عنها مرة أخرى، لتستأنف جولات أخرى جديدة، وهي السياسة التي تلقى قبولًا لدى الإثيوبيين خاصة أنها تكسبهم المزيد من الوقت لإكمال البناء، وفي الجهة الأخرى فهي مستساغة لدى الجانب المصري الذي بات يعاني من ضعف موقفه منذ التوقيع على إعلان المبادئ مارس 2015.
الأصوات التي تغرد خارج السرب بشأن توتير العلاقة بين واشنطن وأديس أبابا بعد موقف الأخير، واحتمالية ممارسة الجانب الأمريكي ضغوطًا لإجبار الإثيوبيين على الخضوع للاجتماعات والتوقيع على الاتفاقية، تتمتع بنظرة أحادية ضيقة، تفتقد معها للموضوعية، فالعلاقات الأمريكية الإثيوبية أعمق بكثير من نظيرتها المصرية على عكس ما يتوقع البعض.
وبالعودة للوراء قليلًا نجد أن أمريكا كانت أحد أبرز الداعمين لفكرة بناء سد النهضة من بدايتها عام 1953، عندما اعتزمت إثيوبيا إنشاء سد كبير على النيل لتوليد الكهرباء، لذا استعان الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي بمكتب الاستصلاح الزراعي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية الذي قدّم دراسة مسحيةً على امتداد النيل الأزرق، تقترح 26 موقعًا صالحًا لإنشاء السدود، بينها الموقع الحاليّ لسد النهضة.
المركز الإقليمي لعلوم الفضاء بالأمم المتحدة، كشف ملامح هذا الدعم بصورة واضحة، حين أعلن لوسائل إعلام مصرية أن الولايات المتحدة تشوش على الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية لسد النهضة الإثيوبي، من خلال القمر الأمريكي المتاح لالتقاط الصور للسد “land sat 8″، لافتًا إلى أن واشنطن كانت تضع قناعًا أبيض على الصور، كي لا تتمكن مصر من متابعة مراحل بناء السد وتفاصيله.
الأمم المتحدة وبضغوط أمريكية كانت هي الأخرى من أبرز الداعمين لأديس أبابا، فعلى موقعها الرسمي الخاص بإفريقيا طالبت الدول الكبرى بدعم مشروع سد النهضة الذي وصفته بأنه مشروع شجاع في دولة من أفقر الدول في العالم، وهو الذي سيحولها لأقوى دولة في القارة.
وعلى الأرجح فقد كسبت إثيوبيا وقتًا إضافيًا بقبولها الوساطة الأمريكية، لتدخل المرحلة شبه النهائية من إتمام بناء السد، تزامنًا مع بدء ملء الخزان، وهي النقطة التي حصلت عليها عقب الدخول في ماراثون جديد من المفاوضات هذه المرة، هذا في مقابل حالة من الارتباك تخيم على المشهد المصري الذي يفقد يومًا تلو الآخر أوراق الضغط الخاصة به التي كان من الممكن أن تحفظ للمصريين حصتهم المائية لولا التنازل عنها على مدار السنوات التسعة الماضية.