ترجمة وتحرير: نون بوست
أثار الكشف عن مشاركة وكالة الاستخبارات المركزية سرًا في ملكية الشركة الرائدة عالميا في مجال آلات التشفير، والتلاعب بتلك الأجهزة للتجسس على أكثر من 100 دولة اشترت منتجاتها لأكثر من نصف قرن، عددًا من الأسئلة التاريخية والأخلاقية. هل كان المسؤولون الأمريكيون على علم بالأحداث الرئيسية في تاريخ العالم الحديث؟ متى علموا بذلك؟ كيف تصرف صانعو السياسة الأمريكيون بناء على المعلومات الاستخباراتية التي وقع جمعها؟ هل كان على المسؤولين الأمريكيين “كشف أو وقف انتهاكات حقوق الإنسان التي تتجلّى أمامهم؟”، كانت هذه أهم التساؤلات التي طرحها غريغ ميلر الصحفي التابع لصحيفة “واشنطن بوست”. هل كان يجب على الولايات المتحدة التجسس على الأصدقاء والأعداء على حد سواء؟
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا لم يقع الإجابة عليه، وهو “ما الذي ينبغي أن تفعله الولايات المتحدة مع المجموعة الهائلة من الاتصالات التي وقع اعتراضها والتي حصلت عليها وفكّت تشفيرها، بالإضافة إلى الآلاف من تقارير المخابرات السرية التي ولدتها تلك الاعتراضات؟”.
في الواقع، هذه الملفات منسيّة في مرافق المعلومات الحساسة المقسّمة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي. وتمثّل المستندات المخفية تاريخًا مقموعًا، إذ لديها القدرة على إحراز تقدم كبير في السجل التاريخي، ليس فقط فيما يخصّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة وإنما أيضًا في الأزمات والأحداث العالمية الرئيسية (الحروب والانقلابات والهجمات الإرهابية واتفاقات السلام) على مدار أكثر من خمسة عقود. ولكن قيمتها للتاريخ، والدروس التي تزخر بها، سوف تصبح واضحة فقط إذا، وعندما، تُرفع السرية عن هذه الوثائق وتُصبح في متناول الجمهور.
“لا يمكننا تأكيد أو نفي وجود مثل هذه المستندات”، هذا هو الرد النموذجي والرسمي الذي قدمته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووكالة الأمن القومي على المطالبات بحرية المعلومات، التي تسعى إلى إصدار وثائق سرية حول العمليات السرية وبرامج التجسس السابقة، وخاصة تلك التي تنطوي على استخبارات الإشارات. في الحقيقة، يقع جمع استخبارات الإشارات، أو المعروفة في لغة مجتمع الاستخبارات باسم “سيغينت”، من عمليات الإرسال عبر الهاتف والتلكس والبريد الإلكتروني والأقمار الصناعية وغيرها من أشكال الاتصالات الإلكترونية. ولعل أكثر سر مقدس تحتفظ به وكالات التجسس هو كيفية حصولها على هذه المعلومات.
تؤكد الفحوصات التي أجراها ميلر وبيتر مولر في الإذاعة العامة الألمانية “زد دي إف” في شباط/ فبراير، وجود سجل ورقي من وثائق سيغينت غير العادية كُتبت على مدى 50 سنة. من خلال التسريبات، تمكن هؤلاء المراسلون من الوصول إلى سجل الكالة المخابرات المركزية المؤلف من 96 صفحة، بالإضافة إلى سجل شفوي جمعه ضباط من وكالة الاستخبارات الألمانية، يوضح كيفية سيطرة تلك الحكومات على الشركة السويسرية، كريبتو إي جي، التي صنعت آلات التشفير. كان اسم هذه العملية هو “روبيكون”، بينما يُعرف تاريخ الوكالة المخابرات المركزية عنها باسم “مينيرفا” الرمزي والمعين للشركة.
يصف التاريخ السري كيف أن “صفقة بالمصافحة” بين بوريس هيغلين، مؤسس ومالك شركة كريبتو إي جي، ووليام فريدمان، الأب المؤسس للتشفير الأمريكي، أنشأت نظاما في أوائل خمسينات القرن الماضي سمح لوكالة الأمن القومي بأن تُحدّد للشركة البلدان التي ينبغي أن تبيعها أجهزة اتصالات “يمكن فك تشفيرها” وأخرى تبيعها آلات غير قابلة للاختراق.
بعد أن اشترت الحكومتان الأمريكية والألمانية الشركة مقابل 5.75 مليون دولار في سنة 1970، “سيطرت واشنطن على جميع جوانب عمليات شركة كريبتو تقريبا”، من بينها “قرارات التوظيف، وتصميم تقنيتها وتخريب خوارزمياتها وتوجيه أهداف المبيعات”، وذلك وفقا لتقرير تابع لصحيفة “ذا بوست”.
علاوة على ذلك، وقع مراقبة استراتيجيات مصر التفاوضية خلال محادثات السلام سنة 1978 مع إسرائيل بقيادة الرئيس جيمي كارتر في كامب ديفيد، والملالي الإيرانيين خلال أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران سنة 1979، وأكثر من 19 ألف رسالة مشفرة خلال الحرب العراقية الإيرانية. وقد أرسلت الولايات المتحدة رسائل أرجنتينية وقع اعتراضها إلى حليفتها بريطانيا خلال حرب فوكلاند سنة 1982.
انتقلت وكالة الأمن القومي أيضًا إلى فصل الوثائق التي تبرع بها فريدمان لمعهد فرجينيا العسكري
في أمريكا اللاتينية، وهي سوق رئيسي لآلات شركة كريبتو، سمح برنامج مينيرفا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالاستماع إلى الجنرالات وهم يخططون لانقلابات في تشيلي والأرجنتين وأوروغواي والبرازيل وباراغواي وبوليفيا، ثم شنّت الوكالة “حروبا قذرة” من القمع التي تلت ذلك. مكّنت الآلات المزوّرة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أيضا من مراقبة الاتّحاد الشرير لأجهزة الشرطة السرية في تلك الدول، وهي عمليّة عُرفت باسم “عملية كوندور”، التي دبرت مهمات سرية مثل عمليات ترحيل واغتيالات عبر الحدود ضد معارضين في أمريكا اللاتينية وأوروبا وحتى الولايات المتحدة.
إن المعلومات الاستخباراتية التي وقع جمعها حول عملية كوندور تحمل قيمة إنسانية تتجاوز أهميتها التاريخية. هذه السجلات لديها القدرة على تسليط الضوء على مصير ضحايا كوندور، الذين لا يزال العديد منهم مختفين. من المرجح أن تتضمن الوثائق أدلة من شأنها أن تساعد في مساءلة مرتكبي تلك الجرائم وغيرها من جرائم حقوق الإنسان من الناحية القانونية والتاريخية مع استمرار المحاكمات في بلدان مثل الأرجنتين وشيلي. ربما كان الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للمصالح الأمنية الأمريكية، أن وثائق كوندور تكشف عن أسباب فشل مسؤولي الاستخبارات الأمريكية في ردع عمل إرهابي دولي في شوارع واشنطن: 21 أيلول/ سبتمبر 1976، حيث انفجرت سيارة مفخخة أدت إلى مقتل سفير التشيلي السابق أورلاندو ليتيلير وزميله البالغ من العمر 25 عامًا، روني كاربين موفيت.
ظلت الحكومة متسترة على هذه الأسرار لعقود من الزمن. ومن جانبها، قاومت وكالة الأمن القومي طلبات مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل للمساعدة في التحقيق حول اغتيال ليتيلير موفيت، كما اشتكى يوجين بروبر، المدعي العام بوزارة العدل، في مذكرة سرية (رفعت عنها السرية لاحقًا) بعد أكثر من سنة من وقوع الهجوم الإرهابي، قائلا: “إنه لأمر مؤسف للغاية أن تمتلك إحدى وكالات حكومتنا معلومات ذات صلة بعملية القتل هذه ولا تمدنا بها”.
عندما تفطنت إلى هذه الوثائق، انتقلت وكالة الأمن القومي أيضًا إلى فصل الوثائق التي تبرع بها فريدمان لمعهد فرجينيا العسكري، مسؤول هيغلين التابع لوكالة الأمن القومي، وتصنيفها. وفي الآونة الأخيرة، أثبت حفظة الأسرار أنه من الممكن أن يتم رفع السرية عن المستندات المتعلقة بكريبتو إي جي واستخبارات الإشارات، حتى وإن كان ذلك بإجراء تعديلات واسعة النطاق – دون الإضرار بالمصالح الأمنية الأمريكية. كما قامت وكالة الأمن القومي برفع السرية عن الأمثلة القديمة الخاصة بموجز إشارات المعلومات الاستخباراتية اليومية التي قد تتضمن معلومات تتعلق بمشروع مينيرفا.
كجزء من مبادرة الرئيس باراك أوباما للحكومة المفتوحة، نشرت وكالة الأمن القومي في سنة 2015 حوالي 7600 وثيقة تتعلق بحياة فريدمان المهنية، بما في ذلك النسخ الخاضعة للرقابة من اتصالاته مع هيغلين في خمسينيات القرن العشرين. إن وكالة الأمن القومي “تجري بشكل دوري” مراجعات خاصة “لفئات من السجلات، مثل خليج تونكين ويو إس إس ليبرتي والمعاهدة البريطانية الأمريكية، وتنشر هذه السجلات”، وذلك حسب ما ورد في البيان على موقعها على الإنترنت، “ووفقا لمبادرة الحكومة الفيدرالية المفتوحة، سوف نحدد الموضوعات والسجلات التي تحظى بمصلحة عامة”.
المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي يفهمون قيمة التاريخ واستمرار أهمية هذه الوثائق
لا شك أن مستندات مينيرفا لا تخلو من “المصلحة العامة”، فضلا عن المصلحة العامة العالمية. ومع تسليط الضوء الآن على تاريخ واحدة من أكثر عمليات التجسس نجاحًا، فإن وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية من الممكن أن تجري “مراجعة خاصة لمواضيع محددة” للوثائق على هذا النحو:
أولًا، تستطيع وكالة الاستخبارات المركزية أن تراجع بسرعة تاريخ مينيرفا الموثق في 96 صفحة وإلغاء السرية عنها. وبعد أن تسربت، لم تعد هذه العمليات سرية الآن. وهذا من شأنه أن يسمح للحكومة الأمريكية بأن تنسب الفضل لنفسها ليس فقط لإنجازات المخابرات في مينيرفا ولكن أيضا لجعل التاريخ متاحا للتدقيق العام.
ثانيًا، تستطيع وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن توحد الملفات التي كانت بمثابة أساس لتاريخ مينيرفا وتراجع هذه السجلات لتكشف عنها السرية طيلة العامين المقبلين.
أخيرًا، يمكن للوكالات أن تقسم المستندات إلى عدة استعراضات خاصة تتعلق بمواضيع معينة: مجموعة حول عملية كوندور، وأخرى حول أزمة رهائن إيران، ومجموعة أخرى حول الحرب العراقية الإيرانية وما إلى ذلك. وستتضمن كل مجموعة الاتصالات غير المشفرة ذات الصلة بتلك الموضوعات وتقارير المخابرات النهائية التي اعتمدت على تلك المقاطع.
من الممكن تحديد موعد لسلسلة من الإصدارات، مماثلة لتلك التي قامت بها وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية في الماضي، طيلة العقد القادم. ويمكن إعطاء أولوية خاصة للوثائق المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية وغيرها، وتقديمها للسلطات القانونية التي تقوم بملاحقة الجرائم المعادية للإنسانية قضائيا.
من الواضح أن المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي يفهمون قيمة التاريخ واستمرار أهمية هذه الوثائق. ولهذا السبب، تم إنفاق الكثير من الوقت والجهد وموارد دافعي الضرائب لتجميع تاريخ مينيرفا، وذلك لمساعدة الجيل القادم من مسؤولي الاستخبارات على فهم دروس الماضي وآثارها على المستقبل. ومن المفترض أن يتم مشاركة هذا التاريخ الداخلي على أساس “الحاجة إلى المعرفة”.
وتجدر الإشارة إلى أنه من حق عامة الناس معرفة هذه الحقائق والاطلاع عليها. فقد نفذت عمليات استخبارات مينيرفا لتعزيز أمننا الوطني. أما الآن، أصبح من الممكن أن تُستخدم هذه السجلات لتأمين تاريخنا.
المصدر: واشنطن بوست