ترجمة وتحرير: نون بوست
نظّمت وحدة الدعاية الحكومية البريطانية حملات سريّة عبر الشرق الأوسط لعدة سنوات في أوج الحرب الباردة، حيث وزّعت الرسائل الإسلامية في محاولة لمواجهة انتشار الشيوعية. وتُظهر الوثائق الرسمية التي رفعت عنها السرية مؤخرًا أن إدارة أبحاث المعلومات، التي مثلت قسمًا سريًا في السابق لوزارة الخارجية البريطانية، أصدرت تكليفًا بإجراء سلسلة من الخطب التي استُنسخت ووُزعت في جميع البلدان الناطقة باللغة العربية. وتوضح الوثائق أن الوحدة رتّبت أيضًا لإدراج مقالات في المجلات التي تصدرها جامعة الأزهر في القاهرة، “لضمان أن يجعل كل طالب الجامعة خصمًا حازمًا للشيوعية”.
في محاولة للوصول إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس، نشرت إدارة أبحاث المعلومات في جميع أنحاء المنطقة سلسلةً من الروايات الرومانسية والبوليسية باللغة العربية، التي تضمنت رسائل معادية للشيوعية. وقد شددت هذه الرسائل على أن الشيوعية السوفيتية كانت ذات طابع إلحادي في الفلسفة والممارسة، وادعت أن موسكو تهدف إلى زرع الفوضى السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط.
سلطت الوثائق الضوء على الطريقة التي سيطرت بها الحكومة البريطانية سرًا على العديد من المحطات الإذاعية ووكالات الأنباء في الشرق الأوسط، أو أثرت عليها في الفترة الممتدة بين الأربعينيات وأواخر الستينيات. لقد أصبحت بعض تفاصيل هذه العمليات علنية بعد أن أُغلقت إدارة أبحاث المعلومات في سنة 1977. ومع ذلك، يبدو أن الشريحة الأخيرة من الوثائق التي رُفعت عنها السرية تُظهر أن إدارة أبحاث المعلومات كانت حساسة بشكل خاص بشأن ما أطلق عليه مسؤولوها اسم “العمليات الدينية”، التي حاولت الاستفادة من الإسلام كحصن ضد الشيوعية.
في الواقع، رُفعت السرية عن العديد من الوثائق التي تصنف سرية أو بالغة السرية بعد 50 أو 60 سنة. ومع ذلك، حُجبت بعض المقاطع من قبل الرقابة الحكومية قبل نشرها للعلن في الأرشيف الوطني للمملكة المتحدة.
الحيلة والرشوة والخطب
أُنشأت إدارة أبحاث المعلومات في سنة 1948 من أجل ضمان تواصل عمل هيئة صُممت في وقت الحرب والمسماة السلطة التنفيذية للحرب السياسية. على مدى السنوات الـ 29 المقبلة، أدارت إدارة أبحاث المعلومات عددًا من الصحف والمجلات ووكالات الأنباء ومحطات الإذاعة ودور النشر، من أجل نشر دعاية معادية للشيوعية لم يُذكر مصدرها في أنحاء كثيرة من العالم. ومع ذلك، تمثلت الطريقة المفضلة لدى إدارة أبحاث المعلومات في نشر القصص في الصحف المنشأة وإخفاء مشكلي الرأي العام بشكل سري.
وقد تحقق ذلك في بعض الأحيان عن طريق الحيل أو الرشوة، على الرغم من أن مسؤولًا كبيرًا في إدارة أبحاث المعلومات، جون بيك، حذّر من أن الرشوة قد لا تؤتي بثمارها دائمًا، حيث قال: “لدي شكوك جدية حول قيمة الرشوة كوسيلة لنشر مقالات معادية للشيوعية في الصحف. قيل لي إنه ما عدا في الأردن وربما في سوريا توزع صحف الشرق الأوسط – المفتوحة للرشوة – بصفة ضئيلة ويعد تأثيرها على الفرد ضئيلًا”.
في المذكرة نفسها، لخّص بيك سبب توزيع مواد إدارة أبحاث المعلومات دون ذكر مصدرها، حيث أورد قائلا: “مهما كانت حججنا صحيحة، فإن كون هذه الحجج تنتمي إلينا تجعل العرب يشككون فيها. لا يمكننا التغلب على هذه الصعوبة إلا من خلال تقديم نفس الحجج من خلال وسيط عربي”.
أرست القوات الفرنسية-الإنجليزية في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 1956 بالقرب من بورسعيد وعثرت على منطقة قناة السويس.
على الرغم من التحذير الذي قدمه بيك، تواصَل استخدام الرشوة كوسيلة لتوزيع مواد الدعاية في جميع أنحاء المنطقة. على الرغم من تمويلها من نفس الميزانية غير المنشورة مثل تلك التي مولت أجهزة الاستخبارات البريطانية، إلا أن الوثائق الصادرة حديثًا تظهر أن إدارة أبحاث المعلومات تلقت تمويلًا من صناعة النفط. ذُكر في مذكرة وجهت لمدير إدارة أبحاث المعلومات، رالف موراي، في سنة 1954 والتي صنفت على أنها بالغة السرية: “صحيح أننا تلقينا في السنة الماضية مساعدة مالية سرية من شركات النفط”.
وأفاد كاتب المذكرة بأن الشرق الأوسط كان يشهد “ظهور حالة من الحرب الأيديولوجية الكاملة. وعلى الرغم من أن هذه المساعدة جديرة بالتقدير، إلا أن المبلغ لا يكفي تمامًا لاحتياجاتنا الأساسية”.
تحتوي الأوراق التي رُفعت عنها السرية حديثًا على عدد من الإشارات إلى “العمليات الدينية”. في كثير من الأحيان تهتم هذه المراجع بتمويل حملات الدعاية، بدلاً من وسائل إيصالها. وتقول إحدى الأمثلة على ذلك: “ستلاحظ أننا نقوم بتضمين مخصصات جديدة في الميزانية بمبلغ ألف جنيه إسترليني لتغطية ‘ العمليات الدينية'”.
مع ذلك، توجد بعض تفاصيل الحملات. في شباط / فبراير 1950 على سبيل المثال، وبعد مرور سنتين على إنشاء إدارة إنشاء المعلومات، أبلغ ممثلها في السفارة البريطانية بالقاهرة لندن بأنه “غالبا ما يُعترف بخطبة الجمعة باعتبارها واحدة من أهم وسائل نشر الدعاية في العالم الإسلامي. لقد ابتكرنا الآن خطة لضمان التعامل مع الموضوعات المعادية للشيوعية بشكل كافٍ. كُتبت سلسلة من الخطب هنا”.
استمر ذلك حتى بعد مرور 10 سنوات، وذلك استنادًا إلى مذكرة فائقة السرية من بيروت من تاريخ آب/ أغسطس 1960 جاء فيها: “نأمل في إنتاج كتيبين قصيرين أو منشورات عن الموضوعات الدينية. وسوف يُشرف على تأليفها الشيخ سعد الدين الطرابلسي، الذي كان يعمل سابقًا في محكمة بيروت الإسلامية (الشرعية) ويعمل في الوقت الراهن من محكمة زحلة الشرعية، وهو معروف بكونه مسلما تقيا. ستُوزّع ألفا نسخة من كل مطبوعة غير منسوبة إلى أي مصدر في جميع أنحاء العالم الناطق باللغة العربية (ما عدا العراق) وينبغي تسليمها إلى الشيوخ والشخصيات المسلمة البارزة الأخرى والمساجد والمؤسسات التعليمية الخاصة بالمسلمين”.
حسب ما ورد في الملفات، كان الوسيط بين وحدة الدعاية الحكومية البريطانية والشيخ الطرابلسي رجلا يدعى ريفيرا، على الرغم من أن هذا قد يكون الاسم الرمزي. أُطلق على وسيط آخر بين وحدة الدعاية الحكومية البريطانية والأفراد الذين وُصفوا بأنهم “عمال دينيون” في الملفات اسم طلعت دجاني، وهو لاجئ فلسطيني يعيش في بيروت. انتقل الدجاني في وقت لاحق إلى لندن، حيث حصل على وسام الشرف من الملكة في سنة 1979، ثم توفي في سنة 1992.
من جهته، قدّم ممثل عن وحدة الدعاية الحكومية البريطانية توضيحًا في لندن مفاده أن عملية الطرابلسي برمتها ستكلّف نحو 8800 ليرة لبنانية، أو نحو ألف جنيه إسترليني في السنة.
على الرغم من استبعاد العراق من هذه الحملة، إلا أن البلاد كانت في بعض الأحيان موضوع عمليات دينية تابعة لوحدة الدعاية الحكومية البريطانية. ففي سنة 1953، مثلا، كتب مقر وحدة الدعاية الحكومية البريطانية إلى عميله في بغداد، قائلًا: “نود أن نعرف المزيد عن “مخططاتكم” التجريبية “لنشر الدعاية السرية في الأماكن الشيعية المقدسة نظرًا لأنها قد تعرض أفكارًا يمكن استخدامها خارج العراق. هل يرتبط المخطط باقتراح الحزب الحاكم جعل خطب الجمعة المُعدّة في بيروت متاحة لبعض الرموز الدينية الشيعة؟”.
لقد رأى المسؤولون في وحدة الدعاية الحكومية البريطانية فرصة أخرى للاستفادة من “العمليات الدينية” في العراق في أعقاب محاولة اغتيال رئيس وزراء البلاد عبد الكريم قاسم أثناء مروره ببغداد في تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 1959.
عراقي يقرأ صحيفة تابعة للحزب الشيوعي، في الرابع عشر من تموز/ يوليو سنة 2007 في بغداد، تحمل صورة على الصفحة الأولى للجنرال عبد الكريم قاسم خلال احتفال لإحياء ذكرى انقلاب سنة 1958.
حيال هذا الشأن، أشارت الوحدة إلى وجود “إحياء ديني ملحوظ” في أعقاب محاولة الاغتيال. “اكتشف العمال الذين شاركوا في أعمال الهدم بالقرب من موقع محاولة الاغتيال قبر ولي صالح، وقد حظيت هذه القصة بتغطية إعلامية واسعة النطاق وقدّمت جوهرًا للاعتقاد السائد بأن رئيس الوزراء قد حُفظ بشكل عجيب. واُتفق على أن تكون هناك ميزة في تعميم القصة على نطاق أوسع. “لقد ظهرت ملصقات دينية في بغداد، ولا بدّ من النظر في إمكانية تضاعفها”.
عمليات التأثير والتعطيل
في نيسان/ أبريل التالي، عُقد مؤتمر في بيروت لضباط وحدة الدعاية الحكومية البريطانية المتمركزين في الشرق الأوسط. وتُظهر دقائق ما وُصفت بأنها “جلسة مقيدة بشأن الدعاية السرية” أن رالف موراي “أدرج الأهداف التي ينبغي لنا أن نسعى إلى تعطيلها أو التأثير عليها”. وكانت الأحزاب الشيوعية ووكالات الدعاية المعارضة من بين الذين تعرّضوا إلى التعطيل. كان هذا في وقت كان يُعتقد فيه أن المطابع داخل السفارات السوفيتية تنتج 10 آلاف نسخة من صحيفة تحمل عنوان “أخبار” كل يوم.
من جهة أخرى، يعد الشباب والنساء والنقابات المهنية ومنظمات المعلمين والقوات المسلحة والزعماء الدينيين من بين المتأثرين بهم. وقد أوضح ممثل السفارة البريطانية في بغداد أن العراق “أصبح في الوقت الراهن هدفًا مهمًا للمواد الدينية”، وعند هذه النقطة وفي هذه اللحظة، يضغط ضباط وحدة الدعاية الحكومية البريطانية المتمركزون في عمان والخرطوم “بشدة للحصول على لوازم الخطب والمقالات الدينية، التي قالوا إنهم قادرون على وضعها بسهولة”.
علاوة على ذلك، توضح الملفات أن العديد من الحكومات في المنطقة تتعاون مع وحدة الدعاية الحكومية البريطانية وستساعد في توزيع الخطب ونشر مقالات الصحف والمجلات. كما أكد عميل تابع لوحدة الدعاية الحكومية البريطانية في بغداد “أن الجيش العراقي كان هدفًا مهمًا”، واقترح أنه قد يتم اتخاذ الترتيبات اللازمة لإجراء زيارة إلى المملكة المتحدة من قبل ضباط مختارين، وعلى ما يبدو أن الرحلة تُنظّم من طرف هيئات ليس لها صلة واضحة بالحكومة البريطانية. كما أشار إلى أن نفس الأنباء كانت تُستخدم في البصرة لطباعة كل من الصحف الشيوعية وغير الشيوعية، وقال إن “الاستخدام الحكيم لبعض الحوافز المالية من شأنه أن يعطّل سير عمل الصحف الشيوعية في حال كان ذلك مرغوبا فيه”.
تم إطلاع المندوبين على الجهود الدعائية التي يبذلها الأعضاء الآخرون في حلف بغداد: تحالف الحرب الباردة بين إيران والعراق وتركيا وباكستان والمملكة المتحدة الذي تم حله في سنة 1979. وقد تمتعت إدارة أبحاث المعلومات باتصالات واسعة النطاق مع حكومات حلف بغداد، حيث قدمت موادا دعائية ودعمًا فنيا. وقيل للمندوبين إن “الأتراك هم فقط الذين ينشطون في ممارسة هذه العملية بالفعل، حيث تمكنوا من نشر ما يصل إلى 25-30 مقالا شهريا من إعداد لجنة من الكتّاب في الصحافة التركية”.
وأخيرا، تم إبلاغ المؤتمر السري بأن “حكومة صاحبة الجلالة” كانت تدير صحيفتين في البحرين: “الخليج”، وصحيفة “الخليج تايمز” الشقيقة التي تصدر باللغة الإنجليزية. وتشير فقرة في محضر الجلسة إلى أن المندوبين قالوا إن هذه الصحف “استثنائية”، وفي هذا القسم “فضلت إدارة أبحاث المعلومات العمل من خلال موظفي الصحف الثابتة”. وهذا المحضر من بين الوثائق التي تم الكشف عنها وتسليمها إلى الأرشيف الوطني للمملكة المتحدة. ولكن بعد مرور ستين عاما منذ انعقاد المؤتمر، تظل الفقرة اللاحقة غامضة.
جمال عبد الناصر وأزمة قناة السويس
من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أواخر الستينات، يبدو أن الحكومات البريطانية المتعاقبة استخدمت المعلومات الاستخباراتية والحملات الدعائية في محاولة للحفاظ على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية في الشرق الأوسط في الوقت الذي كانت تناضل من أجل الاحتفاظ بنفوذها.
وقد أظهرت الكشوفات السابقة عن أنشطة إدارة أبحاث المعلومات أنه بينما كان بعض كبار الدبلوماسيين البريطانيين في المنطقة متحمسين للغاية، كان آخرون متشككين، خشية أن يؤدي فضح أمرهم إلى تفاقم المشاعر المناهضة لبريطانيا.
هذا ما حدث بالضبط، عندما كان البريطانيون على وشك لعب دورهم الأخير في رمي النرد الإمبراطوري: في سنة 1956، في مصر. كانت إدارة أبحاث المعلومات نشطة للغاية في مصر منذ تأسيس المنظمة. وجاء في وثيقة من إدارة أبحاث المعلومات كتبت في القاهرة في سنة 1950، ما يلي: “إن الظروف في مصر أشبه بأرض خصبة مناسبة لزرع الشيوعية”. ومضى الكاتب في تسليط الضوء على “سوء التوزيع الحاد بين الأغنياء والفقراء” وتركيز ملكية الأراضي في أيدي نسبة صغيرة من السكان.
مع ذلك، قال الكاتب: “إن هذه الورقة تتطرق إلى توظيف الحملات الدعائية المستوحاة من بريطانيا. وهي لا تتعامل مع المشكلة الأكثر أهمية المتمثلة في العمل الإيجابي لمعالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي من المرجح أن تساعد في انتشار الشيوعية”.
بدلا من ذلك، شرح الكاتب أن إدارة أبحاث المعلومات كانت تستهدف الطلاب في جامعة الأزهر بحجة أنه “من بينهم الأئمة الذين يدعون إلى خطبة الجمعة في كل مسجد مصري؛ ومعلمي اللغة العربية في المدارس الثانوية؛ وكل المعلمين في مدارس القرية؛ والمحامون المتخصصون في القانون الإسلامي”.
في الواقع، كانت المنظمة أيضا تتولى ترتيب “إنتاج مسودات باللغة الإنجليزية من الروايات الغرامية أو البوليسية أو الروايات الحماسية، التي تجسد الحملات الدعائية المناهضة للشيوعية ولكنها تتبع نظيراتها المحلية بأكبر قدر ممكن من الدقة في العرض، وما إلى ذلك. “ستقوم إدارة أبحاث المعلومات، في القاهرة، بترتيب إعادة كتابة المسودات باللغة العربية من قِبل المخترقين المحليين، ونشرها محليا”.
رسم كاريكاتوري أنتجته وحدة حرب نفسية بريطانية أثناء أزمة السويس سنة 1956. وجاء في البيان: “لكن الناصر قال إن سلاحنا الجوي يسيطر على سماء مصر”.
كانت هذه الوحدة تتولى أيضا “التحقيق في جدوى إنتاج قصص قصيرة من مجلات الحب أو القصص المثيرة (من نحو ألفي كلمة) مع تطور مناهضة الشيوعية”.
كانت الوكالة العربية للأنباء تكتسي أهمية بالغة بالنسبة لإدارة أبحاث المعلومات في القاهرة، وهي تعد من بين المنظمات الإعلامية التي أسستها الاستخبارات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. وعلى غرار وكالات الأنباء الأخرى ومحطات الإذاعة التي تم تأسيسها في بيروت وطرابلس والشارقة والبحرين وعدن، أصبحت الوكالة العربية للأنباء تحت سيطرة إدارة أبحاث المعلومات بعد تأسيسها في سنة 1948.
نظريًا، بدا الأمر وكأن الوكالة العربية للأنباء كانت جزءًا من هيلتون براس، وهي شركة ضخمة تابعة لإدوارد هيلتون – وهو بارون إعلامي في فليت ستريت. في واقع الأمر، وافقت شركة هيلتون على السماح بتغطية عمل إدارة أبحاث المعلومات وجهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6). بالإضافة إلى توزيع الأخبار الحقيقية، التي جمعها الصحفيون المصريون والبريطانيون، نشرت الوكالة الحملات الدعائية التي أصدرتها لإدارة أبحاث المعلومات، وأصبحت قاعدة لضباط جهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6) الذين تقمصوا أدوار الصحفيين.
في آذار/ مارس 1956، مع تدهور العلاقات بين المملكة المتحدة ومصر بشكل حاد، أصدرت وزارة الخارجية البريطانية تعليمات إلى إدارة أبحاث المعلومات لتحويل تركيزها بعيدا عن الشيوعية ونحو الحكومة التي يقودها جمال عبد الناصر، الذي شارك في عمليات دعائية ضد البريطانيين لبضع سنوات.
في تموز/ يوليو التالي، بعد تأميم ناصر لشركة قناة السويس، التي سيطرت على الممر المائي الذي اعتبره البريطانيون المسار الرئيسي لإمبراطوريتهم، زادت وتيرة الدعاية البريطانية وجهود التجسس تحت غطاء الوكالة العربية للأنباء.
كان أنتوني إيدن، رئيس الوزراء البريطاني، مقتنعًا منذ فترة طويلة بأن ناصر كان تحت تأثير الكرملين على الرغم من أن همفري تريفيليان، السفير البريطاني بالقاهرة، لم يوافق على ذلك، وقد بدأ جهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6) يفكر في إمكانية اغتيال الرئيس المصري. وقد كان الغاز السام وآلة الحلاقة الكهربائيّة أحد الخيارات لتنفيذ عملية الاغتيال.
بدلاً من ذلك، ومع بدء أزمة السويس، اعترض أنتوني إيدن على مؤامرة القتل، وقرر البريطانيون الانخراط في عدة أشهر من الحرب النفسية في القاهرة، ثم التدخل العسكري.
وقع إنشاء جهاز إرسال راديو جديد وقوي في العراق، وإذاعة برامج من المحطات العربية في جميع أنحاء المنطقة التي كانت بشكل سري تحت السيطرة البريطانية، وهي العملية التي كانت لفترة قصيرة يطلق عليها اسم الإرسال الرمزي “إكس”.
كما خطط البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون لغزو مصر واحتلال المنطقة المحيطة بقناة السويس، حيث بدأ التدفق المستمر من المتخصصين في دعاية إدارة أبحاث المعلومات وجهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6) في الظهور في مكاتب الوكالة العربية للأنباء في القاهرة.
صورة من الخمسينيات تظهر الرئيس المصري جمال عبد الناصر (يسار) مع رئيس الوزراء السوري فارس الخوري في القاهرة.
لم يمر هذا الأمر دون أن تلاحظه الحكومة المصرية، ففي أغسطس/آب، وقبل أسابيع فقط من الغزوات، تم إيقاف جميع عمليات الوكالة، والتقارير الإخبارية ونشر الدعاية وجمع المعلومات الاستخبارية، بشكل مفاجئ. داهمت الشرطة السرية المصرية مكاتب الوكالة ومنازل العديد من موظفيها. كما اتُهم 11 مصريًا بأنهم جواسيس يعملون لصالح ضباط المخابرات السرية المتمركزين في الوكالة، واحد منهم يدعى سيد أمين محمود وهو مدرس، أُعدم وسُجن ابنه الذي يعمل ضابطًا بحريًا مدى الحياة.
تعرض اثنان من عملاء جهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6) اللذين ساعدا في إدارة الوكالة إلى استجواب مطول ثم سجنوا. وحوكم آخرون في غيابهم، ووقع طرد دبلوماسيين بريطانيين وأربعة صحفيين. ومع ذلك، نجا رئيس الوكالة البريطانية، الذي كان أيضًا مراسلًا لصحيفة الإيكونوميست وصحف التايمز بلندن، من الاعتقال. يبدو أن الحكومة المصرية كانت تزوده بمعلومات مضللة وترغب في استمرار عمله.
في هذا الحدث، أنشأت إدارة أبحاث المعلومات وكالة عربية جديدة للأنباء، من مكاتب في بيروت، مع موظفين في لندن والقاهرة وعمان ودمشق.
بحلول سنة 1960، وفقًا لأحد الملفات التي رفعت عنها السرية، كان عدد قليل من الأشخاص الذين يعملون في مقر الوكالة في بيروت يدركون أن الحكومة البريطانية تسيطر عليها، وقد وقع تحذير موظفي إدارة أبحاث المعلومات، “لذلك يتعين عليهم توخي الحذر في تعاملهم” معهم.
في آذار/ مارس من تلك السنة، كتب كبير ضباط إدارة أبحاث المعلومات بالسفارة البريطانية في بيروت إلى لندن ليقول: “فيما يتعلق بعمليات المعلومات السرية لدينا، أعلق أهمية كبرى على الوكالة العربية للأنباء. لا شك في أنهم يؤدون العمل الأكثر فائدة في جميع أنحاء المنطقة ويديرون مكتبًا جيدًا هنا”.
رويترز والبي بي سي نيوز
تكشف الوثائق التي رُفعت عنها السرية مؤخرًا الطريقة التي أقنعت بها الحكومة البريطانية في الستينات من القرن الماضي وكالة “رويترز” للأنباء، بالسيطرة على العمليات التي تديرها إدارات أبحاث المعلومات، وهما وكالات الأنباء الإقليمية (الموجودة في الشرق الأوسط) والأخرى (الموجودة في أمريكا اللاتينية). وفي ثمانينات من القرن الماضي، تم الكشف عن العلاقة بين “رويترز” وإدارة أبحاث المعلومات.
موّلت الحكومة البريطانية عمليات “رويترز” من خلال هيئة الإذاعة البريطانية. وشرعت في دفع رسوم للبي بي سي لعمليات الخدمة العالمية. في المقابل، دفعت بي بي سي بدورها مبالغ إضافية لـ “رويترز” لتلقيها أخبارها.
في حين وافقت إدارة أبحاث المعلومات على عدم ممارسة رقابة على الخط التحريري لوكالة “رويترز”، فإن الوثائق التي رُفعت عنها السرية تُبين أنها اعتقدت أنه بإمكانها تحقيق “قدر من التأثير السياسي”.
لا تزال بعض عمليات إدارة أبحاث المعلومات للحرب الباردة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سرية، بينما تبقى العديد من ملفاتها القديمة محظورة لأسباب تتعلق بالأمن الوطني.
في الحقيقة، لم تُنقل جميع الوثائق التي نشرت في “رويترز” ووكالة الأنباء العربية إلى الأرشيف الوطني البريطاني. فعلى سبيل المثال، تعد إحدى الوثائق التي يرجع تاريخها إلى سنة 1960، والتي تتضمن وصف دليل “التفاوض من جديد بشأن العقد بين رويترز ووكالة الأنباء العربية”، من بين ملفات إدارة أبحاث المعلومات التي لا تزال سرية. كما وقع حجب وثيقة أخرى من قبل وزارة الخارجية البريطانية معروفة بأنها تتضمن وثائق من سنة 1960 تحت عنوان “إدارة أبحاث المعلومات: شاشة التلفزيون الأردني”.
تتعلق الملفات المحجوبة الأخرى بالمجهودات المبذولة لنشر مواد إدارة أبحاث المعلومات عبر وكالة المغرب العربي للأنباء بعد إنشائها في سنة 1959، أو تحمل عناوين مثل “إدارة بحوث المعلومات: النقابات العربية”. وتصنف العديد من عناوين إدارة أبحاث المعلومات على أنها سرية في حد ذاتها، ويدرجها الأرشيف الوطني للمملكة المتحدة ببساطة تحت “تم حجب العنوان”.
الإضرار بالسمعة؟
كانت الولايات المتحدة أيضًا متحمسة للدعاية في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة. وفي الواقع، تشجع المواد التي تم إنشاؤها وتوزيعها من قبل خدمة المعلومات الأمريكية على الترويج لفكرة القيم الغربية والإسلامية المشتركة بدلاً من مهاجمة الشيوعية.
تتعلق جميع الوثائق التي نُزع عنها طابع السرية مؤخرًا بالحملات البريطانية، بيد أنه بعد تعرض إدارة بحوث المعلومات للإغلاق في سنة 1977- جزئيًا، لأن الكثير من الناس قد أصبحوا على وعي بوجودها وفعاليتها – يظل هناك سؤالان. أولا، هل كان لحملاتهم تأثير على مواقف الناس وسلوكهم؟ خلال الحرب الباردة، كان العديد من الدبلوماسيين البريطانيين في الشرق الأوسط يُشككون في جهود إدارة أبحاث المعلومات، حيث جادل البعض منهم مرارًا وتكرارًا بأن الشيوعية لم يكن لها إلا شعبية محدودة في المنطقة، وأن القومية العربية تشكل تهديدًا أكبر لمصالح المملكة المتحدة أكثر من موسكو.
ساورت بعض مبعوثي بريطانيا الشكوك حتى في العراق – الذي كانت إدارة أبحاث المعلومات تعتقد أنها تبدو فيه أكثر عرضة للنفوذ الشيوعي من مصر. في سنة 1955، كتب أحد الدبلوماسيين من بغداد إلى إدارة الأبحاث المعلومات موضحا: “ليس لدى العرب وسيلة للتحقق من دقة ادعاءاتنا حول أخطاء النظام الشيوعي … لكن لديهم الوسائل، كما يعتقدون، للتحقق من الدعاية الروسية حول شر فرنسا وبريطانيا في الخليج العربي وشمال أفريقيا. وحسب تجربتنا، بالكاد من الممكن لفت انتباه الوعي السياسي العراقي في النظام الشيوعي على الإطلاق”.
بالنظر للخلف، لا يزال عدد من المؤرخين متشككين بنفس القدر. فيفيان كينروس، مؤلف كتاب “علم المحاربين” الذي سيصدر قريباً عن معركة القلوب والعقول في الشرق الأوسط، يعتقد بأن محاولات إيدين لتشويه صورة ناصر في سنة 1956 تركته يبدو بلا أمل، ودفعت بريطانيا إلى إجراء عمل عسكري كارثي. يقول كينروس إن حرب الدعاية الفاشلة ساهمت في “انهيار عام لسمعة بريطانيا فيما يتعلق بالأمانة والتعامل العادل في المنطقة”.
من جهته، خلص جيمس فوغان، المحاضر في التاريخ الدولي بجامعة أبيريستويث التي تقع في ويلز، والذي درس على نطاق واسع دعاية الحرب الباردة الغربية في الشرق الأوسط، إلى أن “تاريخ الدعاية البريطانية في مصر يُبين أن تراجع النفوذ البريطاني كان ظاهرة متطورة، وذلك قبل سنوات عديدة من اتخاذ عبد الناصر قرار تأميم شركة قناة السويس”.
أما السؤال الثاني فهو: ماذا حدث بعد إغلاق إدارة أبحاث المعلومات سنة 1977؟
قدم عدنان أبو عودة إجابة مثيرة للاهتمام على هذا السؤال، علما بأنه شغل منصب وزير الإعلام في حكومة العاهل الأردني الملك الحسين بن طلال بن عبد الله. كان أبو عودة تحت مراقبة إدارة أبحاث المعلومات في ذلك الوقت. وكان من الفلسطينيين الذين خدموا الشرطة السرية الأردنية وتدرج في المناصب إلى أن تم اختياره لهذا المنصب من قبل الملك.
فلسطينيون فدائيون استولوا على موقعهم، يراقبون محيط قلعة عجلون، في يوم 22 كانون الأول/ ديسمبر سنة 1970.
في ذلك الوقت، كانت المملكة تمر بأزمة كبيرة، تُعرف باسم سبتمبر الأسود، عندما هاجمت القوات المسلحة الأردنية منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وطردتها من مخيمات اللاجئين في الأردن. حُلت الأزمة عندما تم نقل المقاتلون الفلسطينيون الذين اشتهروا باسم الفدائيين إلى سوريا. وفي مقابلة مع موقع “ميدل إيست آي” في سنة 2018، شرح أبو عودة ظروف إرساله إلى إنجلترا في أوائل سبعينيات القرن الماضي، لتدريبه من قبل إدارة أبحاث المعلومات.
حيال هذا الشأن، قال أبو عودة، إنه أثناء عمله كضابط للمخابرات اتصل به مدير المخابرات المعين حديثًا في البلاد، ليخبره بأن صاحب الجلالة يريد منه أن يذهب إلى لندن ليلتحق بدورة في إدارة أبحاث المعلومات. فأجبته: ما هي إدارة أبحاث المعلومات؟ حينها لم أكن أعلم شيئا بشأنها”.
في وقت لاحق، أرسل أبو عودة إلى إنجلترا لدراسة الحرب النفسية في الأكاديمية العسكرية. وفي حديثه عن ذلك قال: “كان الملك يُهيئني لأصبح وزيرًا للإعلام بناءً على نصيحة من جهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6). وقد علمتني إدارة الأبحاث المعلومات أساليبهم وطرقهم. وعندما أصبحت وزيراً للإعلام، قُمت بتدريب شخص أو اثنين على كيفية القيام بذلك”.
على الرغم من عدم وجود أي تأكيد في ملفات إدارة الأبحاث والمعلومات التي رُفعت عنها السرية، إلا أنه يبدو من الممكن تمامًا أنه قبل حلها، دّربت المنظمة مسؤولين حكوميين آخرين في جميع أنحاء المنطقة.
المصدر: ميدل إيست آي