تواصل تركيا حملاتها العسكرية التي شرعت في تنفيذها ضد النظام السوري منذ نحو عشرين يومًا بغرض إجباره على العودة إلى الأوضاع المتفق عليها بموجب تفاهمات “سوتشي” مع روسيا، وتأمين حزام إستراتيجي بعمق ثلاثين كيلومترًا شمالًا لمنع تدفق مزيدٍ من النازحين إليها، غير أن تطورًا نوعيًا جديدًا طرأ على المشهد بالأمس، حينما أعلنت أنقرة تطوير عملياتها العسكرية وإكسابها صفةٍ رسمية أمام المجتمع الدولي، تحت اسم “درع الربيع”.
الإعلان التركي عن العملية العسكرية الجديدة جاء ردًا على مهاجمة طائراتٍ يرجح أنها تابعة للنظام السوري لإحدى النقاط العسكرية في إدلب يوم الخميس الماضي، مما أسفر عن مقتل مالا يقل عن 36 جنديًا تركيًا وإصابة العشرات. وقد سبق إطلاق هذه العملية تمهيدٌ سياسي متسارع من جانب الرئيس التركي الذي قال في كلمةٍ رسمية مصورة إن تركيا دخلت إلى الأراضي السورية لأغراض دفاعية مستجيبةً لنداءات الشعب السوري، بينما ولجت باقي الدول الأخرى إلى سوريا لأغراض استعمارية واقتصادية، كما أكد في سلسلة تغريدات على حسابه الرسمي بموقع “تويتر” أن بلاده مقبلةٌ على مرحلةٍ تاريخية فاصلة تشبه في إجراءاتها وأهميتها ما قام بها أسلافه منذ نحو 100 عام لحماية الحدود التركية.
درع الربيع
بمجرد شروع تركيا في حمل الدرع وقتال النظام السوري بالطريقة التي يعرفها، أخذت أخبار الإنجازات العسكرية تترى رأسًا من أرض المعركة، حيث أكد ناشطون ميدانيون ما أعلنه الجيش التركي من إسقاط قواته لطائرتين حربيتين تتبعان للنظام في سماء مدينة إدلب.
تقول المصادر العسكرية التركية إن التحول النوعي الخطير في إسقاط الطائرات الحربية التابعة للنظام، بعد أن شهد الأسبوع الماضي إسقاط نحو ثلاث مروحيات مماثلة، يعود إلى استعانة سلاح الجو التركي بمقاتلات الصف الأول من طراز “إف 16” (بلوك 50) مسلحة بصواريخ “أمرام” (جو – جو) وصواريخ “سوم” (جو – أرض) التي تستطيع ضرب أهداف العدو من مسافةٍ آمنة جدًا تقدر بـ250 كيلومترًا والأمر لا يتعلق هذه المرة بتطور قدرات المعارضة السورية، كما كانت الحال في الأسبوع الماضي.
يبدو أن القيادة العسكرية التركية رفضت الإعلان الرسمي عن مقتل عدد كبير من جنودها في سوريا يوم الخميس الماضي
وفور بث مقاطع إسقاط طائرات نظام الأسد، عبر كثير من مؤيدي الثورة السورية في المناطق المحررة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي عن ارتياحهم الشديد بعد أن شاهدوا “الصقور” التي طالما حصدت أرواحهم واستهدفت الأفران والمشافي بالبراميل المتفجرة تتهاوى إلى حتفها، مستعينين بالمفارقة المشهدية “لأول مرة نرى قوات النظام تراقب السماء خوفًا من القصف.. لقد تغيرت الأحوال”.
الحصيلة الأولية لخسائر الطيران السوري بعد الضربة الجوية التركية تقدر بمقاتلتين “سوخوي 24” كانتا تؤديان مهامهما اليومية في قصف مناطق المعارضة التي تعج بالمدنيين في إدلب، وتشير المصادر إلى وجود احتمالية كبيرة لتعرض مقاتلة ثالثة للإصابة من أصل أربع مقاتلات كانت تحلق معًا، وتعتبر “سو – 24” على نحو دقيق “قاذفة تكتيكية” من الجيل الثالث، يعود تاريخ تطويرها إلى الفترة من 1967 إلى 1993، وتستطيع حمل 8 أطنان من الصواريخ الجوالة والقنابل الموجهة بالليزر، إلى جانب الطيران بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهي نفس الطائرة الروسية التي اتهمت موسكو الأتراك بإسقاطها منذ خمسة أعوام.
ويبدو أن القيادة العسكرية التركية رفضت الإعلان الرسمي عن مقتل عدد كبير من جنودها في سوريا يوم الخميس الماضي، قبل أن تثأر لهم أولًا في أرض المعركة، حيث أوكلت أنقرة هذه المهمة في حينها إلى والي “هاتاي” الحدودية مع سوريا دون تعليق منها، بينما أشارت وزارة الدفاع إلى هذه العملية لأول مرة، يوم الأحد، بالتزامن مع الإعلان عن عملية “درع الربيع”، كما رصد سعيد الحاج الباحث في الشؤون التركية.
رد النظام السوري
اعترف النظام السوري على غير العادة بخسائره الجوية الفادحة، ونقلت وكالة سانا الرسمية عن مصدر عسكري قوله: “في تمام الساعة 13:25 من هذا اليوم، وبينما كانت طائرتان سوريتان تنفذان مهمة ضد التنظيمات الإرهابية المسلحة في منطقة إدلب، اعترض الطيران الحربي التركي الطائرتين وأسقطهما فوق الأراضي السورية، وقفز الطيارون بالمظلات بسلام”.
ويبدو أن نظام الأسد لم يكن ليعترف هذا الاعتراف، لولا تمكنه من إسقاط إحدى المسيرات التركية من طراز “أنكا إس” في سماء إدلب، حيث يستبعد محللون عسكريون قيام قوات المعارضة السورية بإسقاطها، نظرًا للاختلاف الكبير في التصميم بين الطائرات المسيرة التركية التي تعرفها هذه الفصائل جيدًا والمقاتلات التي يستخدمها الروس والسوريون عادةً من طرازات “سوخوي” و”ميج”، بيد أن السبب في احتفائهم بإسقاطها كما تظهر المقاطع، هو وقوع حطام الطائرة التركية بشكل عشوائي في مناطق نفوذهم، كما ترجح المصادر.
ومما يرجح هذه الرواية، علاوةً على تبني النظام مسؤولية إسقاطها، شن سلاح الجو التركي هجمات انتقامية ضد منصات الدفاع الجوي الروسية التابعة للنظام السوري، مما أسفر عن تدمير ثلاث منظومات متطورة، في سابقة تُسجل باسم المسيرات التركية التي تنجح في استهداف منظومات دفاعية صُنعت خصيصًا لإسقاطها.
فشلت قوات الأسد في اقتحام مدينة “الصنمين” الواقعة بمحافظة درعا، بعد محاولة تقدم مباغتة بآليات عسكرية ومقاتلين سابقين من الجيش الحر
وقد عزا الباحث المعروف في الشؤون الأمنية توم كوبر نجاح المسيرات التركية في تحقيق معظم أهدافها خلال العملية العسكرية ضد نظام الأسد بكفاءة شديدة إلى اهتمام أنقرة البالغ بعمليات التشويش والإعاقة والحرب الإلكترونية (ECM)، مشيرًا إلى أن الجانب التركي لم ينجح في جبر الحالة المعنوية التي تأثرت سلبًا بالضربة الأخيرة وحسب، بل تمكن أيضًا من تسويق منتجاته الهجومية تسويقًا عمليًا في سوق السلاح، مقابل إحباط سمعة منتجات خصمه غير المباشر في هذه المعركة، روسيا، التي طالما صدرت إلى العالم أسطورة تفوق وسائل الدفاع الجوي التي تصنعها وقدرتها على التصدي للأسلحة الغربية.
وتحت تأثير الضربات الجوية التركية الناجحة التي أدت إلى إخراج مطار “النيرب” العسكري عن الخدمة، وامتدت لتشمل بعض مواقع النظام الواقعة في أجزاء من نطاق طريق (M5) الدولي الإستراتيجي، قالت مصادر عسكرية سورية إن قوات الدفاع الجوي سوف تغلق المجال الجوي شمال البلاد، فيما يعتقد أنه تلويحٌ روسي جديد باستهداف الطائرات التركية، حيث أردفت وكالة “تاس” الروسية الرسمية على موقع “تويتر” بتغريدةٍ مقتضبة تقول: “روسيا لا يمكنها أن تضمن سلامة سلاح الجو التركي في سوريا”، وكما هو معروف، فإن قاعدة “حميميم” الجوية الروسية التي تعلق صورة الرئيس فلاديمير بوتين في غرفة عملياتها، تتولى (عادة) التنسيق بين مختلف أسلحة الجو العاملة في المجال السوري.
وبالتزامن مع هذه التطورات، فشلت قوات الأسد أيضًا في اقتحام مدينة “الصنمين” الواقعة بمحافظة درعا، بعد محاولة تقدم مباغتة بآليات عسكرية ومقاتلين سابقين من الجيش الحر، أسفرت عن مقتل 10 من قوات النظام، برصاص المعارضة، وأدت إلى مقتل أحد المدنيين نتيجةً للقصف العشوائي.
إيران
وفي نفس التوقيت، بمدينة “قم” الإيرانية تحديدًا، شهد ضريح “فاطمة المعصومة” تشييع جنازة 21 مقاتلًا من لوائي “زينب” و”فاطميون” المعروفين بالنزعة الطائفية المتشددة، بعد أن استهدفتهم المسيرات التركية في أثناء اجتماعٍ عسكري مشترك مع قياداتٍ تابعة للنظام في محور سراقب، يوم الجمعة، خلال هجمات الرد الأولية على الاعتداء السوري، التي شملت أيضًا مقتل تسعة من عناصر حزب الله اللبناني، قبل الإعلان الرسمي عن انطلاق عملية “درع الربيع”.
وفي تصريحاتٍ لما يعرف بـ”المجلس الاستشاري الإيراني”، تنصل المجلس من تعاونه مع النظام السوري في عمليات هجومية بإدلب، متهمًا القوات التركية بالهجوم على مقر الاجتماع، رغم إبلاغه بوجود عناصر إيرانية تساعد النظام في استعادة بعض أجزاء طريق “M5” السريع وصد هجوم معاكس من عناصر أجنبية على الطريق، معتبرًا أن تعليمات صمت السلاح ما زالت سارية المفعول، وملوحًا في الوقت ذاته بإمكان استهداف القوات التركية المرابطة في مرمى نيران “لجان المقاومة” الإيرانية منذ شهر بموجب تفاهمات “أستانا”.
تركيا لم تطلق حملتها العسكرية الجديدة بغرض الانتقام لمقتل عناصرها فقط، وإنما اتساقًا مع المبدأ السياسي القائل بأن التفاوض تحت النار يمنح صاحبه مساحاتٍ تفاوضية أوسع
ويأتي هذا التصريح بعد اتصال هاتفي جمع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني، مساء السبت، دعا فيه الأخير إلى استضافة بلاده لقاءً ثلاثيًا عاجلًا (يشمل سوريا) لبحث “الوضع المعقد للغاية” بمدينة إدلب، مؤكدًا أن ذلك التعاون الثلاثي يحظى بأهمية خاصة على شتى الأصعدة، ولم ترد تركيا حتى الآن على هذه المساعي الإيرانية بالقبول أو الرفض، وما زالت عمليات “درع الربيع” مستمرة.
ويسود في وسط المحللين السياسيين إجماعٌ على أن تركيا لم تطلق حملتها العسكرية الجديدة بغرض الانتقام لمقتل عناصرها فقط، وإنما اتساقًا مع المبدأ السياسي القائل بأن التفاوض تحت النار يمنح صاحبه مساحاتٍ تفاوضية أوسع، حيث ينتظر جميع أطراف المعركة ما سيؤول إليه اللقاء المرتقب بين أردوغان وبوتين في موسكو، يوم الجمعة القادم، الذي سيحدد بشكل كبير ما إذا كانت تركيا ستنجح في إقناع الروس بالعودة إلى أوضاع “سوتشي” المبرمة منذ عامين، أو سيزداد المُعقدُ تعقيدًا بين الجارتين اللتين تجمعها مصالحٌ عسكرية واقتصادية ضخمة.