في مشقة رحلة النازحين بحثًا عن مأوى شمال سوريا

IMG_9646

بينما تتوافد آلاف العائلات من ريفي إدلب الجنوبي والشرقي وريف حلب الغربي، إلى مدن عفرين وإعزاز ومارع والباب بريف حلب الشمالي، والمخيمات على الحدود السورية التركية هربًا من جحيم القصف الذي يستهدف منازلهم، أمام تقدم قوات النظام واشتداد وتيرة العمليات العسكرية، أصبح من الصعب إيجاد مأوى أو خيمة على أقل تقدير، في ظل انخفاض درجات الحرارة.

رحلة البحث عن منزل

وصل أنس محمد جهجان (35 عامًا)، إلى مدينة الباب بريف حلب الشرقي في 21 من يناير/كانون الثاني، بعد رحلة طويلة استمرت لأيام متنقلًا بين البلدات والقرى الحدودية، حيث خرج من منزله مع أفراد أسرته من مدينة معرة النعمان نحو مدينة إدلب، إلا أن المدينة كانت مكتظةً بالسكان وغير آمنة ومن المرجح تعرضها للقصف، ورغم ذلك لم يستطع تأمين منزل لأسرته، ما دفعه إلى النزوح مجددًا إلى مخيم أطمة على الحدود السورية التركية.

أقام عند أقارب له لمدة يومين، ليعلن مجددًا الرحيل إلى مدينة عفرين، لكنه لم يستطع إيجاد منزل يأوي أسرته، لذلك وجد من السيارة الزراعية التي يقل بها عائلته مكانًا لقضاء الليلة، وفي الصباح توجه إلى مدينة إعزاز وبحث كثيرًا عن منزل إلا أن غالبية أصحاب المكاتب العقارية قالوا له: “المنازل مؤجرة ولا يمكنك العثور على منزل”، عاد إلى السيارة مع نهاية اليوم وأخبر عائلته أنه قرر التوجه نحو مدينة الباب، علّه يجد مكانًا لإيوائها، ثم استأنف رحلته مجددًا ومع حلول المساء وصل مدينة الباب، بدأ البحث عن منزل للإيجار من خلال سؤال المارة والمكاتب العقارية التي عرضت عليه بعضًا من المنازل المتوافرة لكنه فوجئ بارتفاع أسعارها.

صورة

يقول لـ”نون بوست”: “عرض عليّ أصحاب المكاتب العقارية منازل للإيجار في المدينة بأسعار تتراوح أسعارها بين 150 و200 دولار أي ما يعادل 210000 ليرة سورية للشهر الواحد، وهي أسعار مرتفعة للغاية بالنسبة لنا، وذهبت مجددًا أبحث عن عروض أخرى، حيث لم أستطع إيجاد منزل بأجر شهري مقبول، قررت قضاء هذه الليلة عند إحدى العائلات من مدينة الباب في انتظار يوم آخر ربما أجد ما أبحث”.

في صبيحة 22 من يناير/كانون الثاني، خرج أنس للبحث عن منزل بمساعدة أحد أبناء المدينة، استمر بالبحث بين الحارات لساعات عدة ليجد منزلًا مكونًا من غرفتين ومطبخ صغير، مقابل 100 دولار أي ما يعادل 105000 ليرة سورية للشهر الواحد، وأوضح أن مبلغ الإيجار هذا مناسب إذا تمت مقارنته مع الأسعار التي عرضت عليه في المكاتب العقارية الأخرى، إلا أنه يبقى مرتفعًا للغاية.

صورة

يواجه النازحون معاناة كبيرة في البحث عن منزل، في ظل استمرار توافد النازحين من جنوبي شرق إدلب وغرب حلب، إلا أن تحمل أسعار الإيجارات باتت صعبة جدًا، لأنهم لا يملكون عملًا إلا الأرض الزراعية التي يملكونها في بلداتهم التي هجروا منها مؤخرًا، ولذلك قلّت نسبة العائلات التي تستطيع تأمين منزل مخدم من الماء والكهرباء، التي تعتمد على دخل شهري أو تجاري لم يتوقف خلال هذه المرحلة.

زار “نون بوست” أحد المكاتب العقارية في مدينة الباب شرقي حلب، والتقى هناك رئيس النقابة في المجلس المحلي أحمد الطالب الذي قال: “نقابة المكاتب العقارية تقدم كل خدماتها للوافدين، لكن المدينة مليئة بالسكان نتيجة نزوح أهالي محافظة إدلب والوافدين إليها من حمص ودرعا وريف دمشق، مما دفع عدد من العائلات للإقامة في منزل واحد لا يتسع إلا لعائلة، وأسعار الإيجارات ارتفعت بسبب ازدياد الطلب الهائل وارتفاع الدولار أمام العملة السورية، مما زاد من معاناة النازحين الذين لا يملكون ثمن نقلهم إلى المدينة”.

صورة

وأكد “استمرار عمليات النزوح والتهجير منذ عام 2017 حتى الآن نحو مدينة الباب، ساهم في ندرة المنازل الفارغة، بالإضافة إلى دمار عدد كبير منها وخروجها عن الخدمة، الأمر الذي دفع النازحين إلى ترميم أجزاء منها وتأمين مأوى لأسرهم”.

وعن دور النقابة في الحد من ارتفاع أسعار الإيجارات أوضح الطالب خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هناك عمليات استغلال من بعض المستفيدين، تحاول نقابة المكاتب العقارية التعاون معهم للوصول إلى سعر مناسب حتى يستطيع النازح تأمين مبلغ الإيجار، لكن الأمر لا يخلو من وجود ارتفاع في أسعار الإيجارات داخل المدينة، ووضع قيود أخرى كمدة إيجار لثلاثة أشهر”.

الخيمة بديلًا

كثيرًا ما فقد النازحون أملهم في الحصول على منزل وذهبوا لشراء خيمة معدة محليًا في ريف حلب بملغ مقبول نسبيًا، لجعلها مأوى على أطراف المدن والبلدات في ريف حلب.

صورة

أم محمد، 60 عامًا، سيدة سورية من قرية معصران التابعة لمدينة معرة النعمان، وصلت مع أسرتها مدينة مارع بريف حلب في أول فبراير/شباط، وتقيم في مخيم عشوائي قرب المدينة، لأنها لا تملك ثمن إيجار منزل داخل المدينة لذلك وجدت من الأراضي الزراعية مكانًا للإقامة.

تعرضت أم محمد مع أسرتها للنزوح عدة مرات متتالية خلال هذا العام، نتيجة الحملة الشرسة التي تشنها قوات النظام بدعم روسي، حيث انتقلت فور تعرض بلدة معصران للقصف إلى بلدة عنجارة في الريف الغربي من مدينة حلب، واستطاعت أسرتها تأمين منزل، إلا أن البلدة تعرضت لقصف قوات النظام وأصبحت هدفًا له، مما دفعهم للنزوح من جديد إلى ريف حلب الشمالي.

تقول لـ”نون بوست”: “لا نستطيع تأمين إيجار منزل، فنحن لدينا أرض زراعية محيط بلدة معصران، وبعض الأغنام تعيل أسرتنا وتأمن لنا حاجيات المنازل، إلا أن قصف قوات النظام بشكل مستمر للبلدة والسيطرة عليها لاحقًا دفعنا إلى الرحيل دون أن ننقل ممتلكاتنا”، وتساءلت السيدة: كيف نملك إيجار منزل ونحن لا يمكننا أن نشتري الحطب لإشعال المدفئة، في ظل هذا البرد؟ ورددت قائلةً: “الله يدفي علينا هالجو ما بدنا شي”.

وتزامنت موجات النزوح مع انخفاض في درجات الحرارة حيث وصلت إلى سالب 10، داخل بلدات ريف حلب، مما أدى إلى وفاة العشرات من الأطفال في المخيمات العشوائية متجمدين وآخرين اختناقًا في المدافئ التي تشتعل على البلاستيك، والنايلون. 

صورة

نزح نحو مليون شخص من إدلب

الناطق باسم منسقو الاستجابة شمال سوريا محمد الحلاج أخبر “نون بوست”: “أن عدد النازحين وصل نحو مليون شخص بينهم 556 ألف طفل و259 امرأةً و216 رجل، انتشروا على الحدود السورية التركية ومنطقتي درع الفرات وغصن الزيتون”، وأكد قائلًا: “هؤلاء النازحون يواجهون معاناة صعبة في ظل غياب شبه تام للمنظمات الإنسانية، مع فقدان بلداتهم وقراهم للأمن والخدمات الطبية والتعليمية، وسيطرة النظام على بعضها”.

مساعدة أهل الخير

وبينما ترتفع أسعار إيجارات المنازل نشأت عدة جمعيات خيرية في مدن الباب وإعزاز ومارع في ريف حلب الشمالي، عملت على تأمين منازل وأغطية ومواد تدفئة للنازحين الوافدين إلى هذه المدن، حيث اعتمدت هذه الجمعيات على تبرعات من رؤوس الأموال في المنطقة، واستطاعت تأمين مئات الأسر خلال الشهرين الماضيين.

صورة

أبو عبد الله نازح من مدينة سراقب شرق إدلب إلى مدينة الباب حصل على منزل مدفوع الإيجار لمدة ثلاثة أشهر، من جمعية “أهل الخير” التي شكلها شبان المدينة لتأمين مراكز إيواء ومنازل مؤقتة للنازحين.

وخلال لقاء “نون بوست” مع أبو عبد الله قال: “فور وصولنا إلى مدينة الباب، استقبلنا عدد من الشبان ونقلونا إلى أقبية أُنشئت كمراكز إيواء مؤقتة، وخلال أيام استلمت منزلًا صغيرًا أقيم به مع أسرة أخرى”، وأضاف: “قدمت لنا حملة أهل الخير مواد تدفئة ومواد غذائية، وكذلك تأمين إيجار المنزل لمدة ثلاثة أشهر متتالية، ويعتبر مكان الإقامة جيد نسبيًا إلا أننا نواجه الكثير من المعوقات أبرزها ارتفاع أسعار الكهرباء ونقص الماء”.

مصطفى بطحيش، مراسل صحفي، يعمل مع شبكة نداء سوريا، وهو أحد القائمين على حملة أهل الخير في مدينة الباب شرقي حلب قال لـ”نون بوست”: “عمل فريق حملة أهل الخير على جمع التبرعات من أهالي المدينة بالإضافة إلى تبرع عدد من الأهالي بمنازلهم لإيواء النازحين، وبلغ عدد المستفيدين من الحملة نحو 100 عائلة نازحة من جنوبي إدلب، من أصل ألف عائلة وصلت مدينة الباب”.

وأضاف: “تم تأمين فرش للنازحين في المنازل ومراكز الإيواء بالإضافة إلى حصص تحتوي على مواد غذائية، وكذلك توفير الماء والخبز بشكل يومي، بالإضافة إلى تبرع أحد التجار بطرود ألبسة بقيمة 10 آلاف دولار أمريكي”، وأكد “الحملة مستمرة، وتسعى إلى توفير إيجارات منازل أخرى من خلال جمع التبرعات، وتمديد عقود الإيجار للمستفيدين”.

الأهالي أنشئوا في مدينة مارع جمعية خيرية لمساعدة الوافدين إلى المدينة وتأمين منازل لهم، حيث عملت الجمعية على تأمين منازل غير مجهزة وترميمها لإقامة النازحين بها، مقابل إقامة النازح مدة ثلاثة أشهر بشكل مبدأي دون إيجار، وبمساعدة بعض المنظمات، كما تؤمن لهم المستلزمات الأساسية من تدفئة ومواد إغاثية وخبز وماء، وكذلك في مدينة إعزاز أنشأ المجلس المحلي جمعية المحسنين في المدينة لمساعدة النازحين والفقراء، حيث قدمت للنازحين مساعدات مماثلة.

آلاف العائلات السورية فتحت منازلها أمام النازحين الجدد وشاركتهم طعامها وشرابها وملبسها، وعلى الرغم من صعوبة الحياة في فصل الشتاء بمناطقهم بالأخص وضنك العيش فإنهم عملوا على مساعدة بعضهم البعض، وكانوا صفًا واحدًا في مأساة مستمرة ذاق ويلاتها كل سوريّ يعارض نظام الأسد.