يرتبط لقب “الرافعي” في أذهان الكثير من المصريين بالأديب مصطفى صادق الرافعي، أحد أقطاب الأدب العربي في القرن العشرين، غير أن شريحة كبيرة – حتى من بين المهتمين بالتاريخ الحديث – لا يعرفون كثيرًا عن عبد الرحمن الرافعي مؤرخ الحركة القومية في المحروسة.
لم يكن الرافعي مجرد مؤرخ في مسيرة التاريخ المصري، بل يعد صاحب مدرسة خاصة في التأريخ وكتابته، وذلك منذ بداية انخراطه في العمل السياسي فيما عرف بالحركة القومية الوطنية منذ الحملة الفرنسية على مصر وحتى ثورة يوليو 1952، هذا بخلاف تاريخه الكبير الذي تنقل فيه من المحاماة للصحافة ثم العمل السياسي، برلمانيًا ثم وزيرًا قبل أن يتحول إلى أحد أبرز صفوف المعارضة الوطنية رغم انتمائه للحزب الحاكم.
وعلى مدار 30 عامًا كاملة، استطاع الرافعي توثيق التاريخ المصري في حلقات متتالية، بدأ كتابتها عام 1929، وعبر 16 عنوانًا سجل خلاها مراحل الدولة المصرية القومية التي كان يؤمن بها دائمًا ويرى أنها حقيقة لا جدال عليها وأن الشخصية المصرية متفردة ومستقلة رغم كل أشكال الغزو والاحتلال.
ورغم ما قدمه الرجل من إضافة كبيرة للمكتبة القومية والتاريخية المصرية، فإنه تعرض لحملة ممنهجة من الانتقادات والاتهامات، بعضها حملت معاني التشكيك في وطنيته، ورغم ذلك استطاعت كتاباته الخالدة أن تجعل منه أحد أبرز الأعلام في سجل التأريخ المصري، فيما يتعامل البعض مع مؤلفاته كونها مراجع ذات مصداقية كبيرة في توثيق الحركة القومية المصرية.
في حجر العدالة
ما كان للرافعي أن يتبوأ هذه المكانة دون أن يكون هناك حاضنة أسرية ساعدته في إثراء تكوينه الشخصي والعقلي بقيم الوطنية والعدالة، إذ ينتمي إلى أسرة كريمة ترجع أصولها إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وقد هاجر أجداده الأقربون من الشام إلى مصر في السنوات الأولى من حكم محمد علي، واشتغل معظم أفراد هذه الأسرة بالعلم والقضاء.
انتقلت أسرة الرافعي إلى القاهرة، وهناك التحق بمدرسة الحقوق، وقت أن كانت الحركة الوطنية في أوجها بفضل السياسي مصطفى كامل
نشأ عبد الرحمن المولود في الـ8 من فبراير 1889 بحي الخليفة بالقاهرة، في كنف والده الشيخ عبد اللطيف بن مصطفى بن عبد القادر الرافعي الذي كان يعمل في سلك الفتيا والقضاء بعد تخرجه في الأزهر، ثم تلقى تعليمه في المدارس الحكومية، حيث دخل مدرسة الزقازيق الابتدائية سنة 1895، فمدرسة القربية الابتدائية بالقاهرة، ثم مدرسة رأس التين الابتدائية سنة 1898 عندما انتقل والده إلى الإسكندرية حيث عمل مفتيًا للمدينة، وفي هذه المدينة أمضى الرافعي سنين الدراسة حتى أنهى المرحلة الثانوية سنة 1904.
وبعد الثانوية انتقلت أسرة الرافعي إلى القاهرة، وهناك التحق بمدرسة الحقوق وقت أن كانت الحركة الوطنية في أوجها بفضل السياسي مصطفى كامل الذي قاد زعامة تلك الحركة في مواجهة الاحتلال، وكان بمثابة الزعيم الروحي للشاب اليافع الذي انضم للحزب الوطني بمجرد إنشائه 1907 ليبدأ نشاطه السياسي في السنة الثالثة من مدرسة الحقوق.
وبعد تخرجه من الحقوق عمل الرافعي بالمحاماة، حيث تدرب في مكتب محمد علي علوبة بأسيوط فترة قليلة لم تتجاوز شهرًا واحدًا، لبى بعدها دعوة السياسي الشهير محمد فريد للعمل محررًا بجريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني، حيث بدأت معها حياته الصحفية فيما تعمقت صلته بالزعيم السياسي حتى رحيله عام 1919.
الانخراط في السياسة
كانت ثورة 1919 نقطة انطلاق الرافعي لمضمار العمل السياسي، حيث شارك في الأنشطة المناهضة للاحتلال، متنقلًا بين المنصورة والقاهرة والزقازيق، بل تجاوز فكرة المشاركة السياسية إلى الجهاد بالسلاح، وهنا يذكر مصطفى أمين أن الرافعي كان عضوًا مهمًا في الجهاز السري للثورة، وكان عضوًا في المجلس الأعلى للاغتيالات.
وفي 1923 رشح الشاب الثوري نفسه في انتخابات مجلس النواب عن دائرة مركز المنصورة (شرق) وهي أول انتخابات أجريت حسب دستور 1923، وفاز حينها أمام مرشح حزب الوفد، وقد شكل مع زملائه من أعضاء الوطني كيان المعارضة في مجلس النواب وتولى رئاسة هذا الكيان بالمجلس.
لكن بعد استقالة سعد زغلول من رئاسة الحكومة، حلّ المجلس نفسه، وظلت الدولة دون مجلس نواب لفترة لعامين، حتى عاود نشاطه مرة أخرى في 23 من مارس 1925 لكن لم يكد يجتمع حتى تم حله في اليوم نفسه، وظلت الحياة النيابية معطلة بعد هذا الحل نحو 8 أشهر، حتى اجتمع المجلس النيابي من تلقاء نفسه في 21 من نوفمبر 1925، واتفقت الأحزاب على توزيع الدوائر الانتخابية فيما بينها، ولم يخصص للرافعي دائرته السابقة، وأصر حزب الوفد على أن تكون دائرة مركز المنصورة من الدوائر التي يسمح فيها بالمنافسة بين الوفد والحزب الوطني، ونتيجة لذلك انسحب الرافعي من الترشح لمجلس النواب.
وفي هذه الفترة من حياته، انشغل البرلماني الشاب بعلاقة التاريخ القومي بالوعي القومي من ناحية، وبنشوء وتطور الدولة القومية الحديثة من ناحية أخرى، لذا كان من أوائل الذين دعوا لتطوير الزراعة وتنمية الريف ورفع مستوى الحياة الريفية في العالم العربي كشرط للنهوض الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.
في عام 1949 تولى وزارة التموين في حكومة حسين سري الائتلافية، وقد أثار توليه الوزارة لغطًا شديدًا
وفي الوقت ذاته طالب بتدعيم أسس الاستقلال السياسي، هذا بجانب أنه يعتبر أول من دعا إلى ربط الريف بحركة التصنيع وبنظام التعليم العام في منظومة متكاملة تستهدف تنمية شاملة لا غنى عنها وكذلك حماية الاستقلال الوطني، وظل الرافعي طيلة 14 عامًا بعيدًا عن الحياة النيابية قبل أن يعود إليها بالتزكية.
في عام 1949 تولى وزارة التموين في حكومة حسين سري الائتلافية، وقد أثار توليه الوزارة لغطًا شديدًا حيث إنه فعل ما كان يدين به غيره، فقد تزعم يومًا الجبهة المعارضة في الحزب الوطني ضد رئيسه حافظ رمضان عندما قبل الاشتراك في الوزارة سنة 1937.
وأمام الهجوم الشديد الذي تعرض له لتوليه الوزارة بما يخالف مبادئ الحزب آنذاك، برر الرجل هذا الموقف برغبته في كشف الأساليب الاستغلالية التي كانت تمارسها شركة السكر وأصحاب شركات الغزل والنسيج، وعلى أي حال فلم يمكث في الوزارة إلا أشهر قليلة.
وبعد حركة الضباط الأحرار في 1952 تم إشراكه في إعداد دستور خاص بالبلاد، كما تم تعيينه نقيبًا للمحامين سنة 1954 بعد قرار الحكومة بحل مجلس نقابة المحامين المصرية التي اجتمعت جمعيتها العمومية في 26 من مارس 1954، وقررت مطالبة حكومة الثورة بعودة الجيش إلى ثكناته وترك السياسة للسياسيين، ليواجه الرافعي هجومًا جديدًا بسبب توليه المنصب يشابه بشكل كبير ما تعرض له عام 1949 حين تولى وزارة التموين.
دعم الدولة العثمانية
تبنى الرافعي عددًا من المواقف السياسية التي خرجت من رحم إيمانه بالحركة القومية، حيث أبدى تحفظًا كبيرًا على عرض قضية مصر أمام الاحتلال في الخارج، مؤمنًا أن حقوق الشعب مهضمومة الحق لا تأتي بالاستنجاد بـ”العالم المتمدن”، وعليه كان لا بد من مواجهة الاستعمار بالقوة وتوحيد الرؤى.
واتساقًا مع هذه الفكرة دافع عن الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر في هذا التوقيت، كما أيد وجهه نظر حزبه (الوطني) في تعضيد فكرة الجامعة الإسلامية والدعوة لها والالتفاف حولها، وهي المواقف التي أثارت الكثير من الجدل وقتها.
لم يقف تأييده للدولة العثمانية عند حاجز الدعم السياسي فقط، بل عزز ذلك بالعمل والجهد، فعندما نشبت الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا سنة 1911، وانتهت بوقوع ليبيا في قبضة الاحتلال الإيطالي، جمع الرافعي مع رجال حزبه التبرعات لتدعيم قوة الدولة العثمانية والدعوة على صفحات الجرائد للتطوع إلى جانب إخوانهم في طرابلس، وعندما سقطت الخلافة العثمانية عل يد أتاتورك كان الرافعي واحدًا ممن اشترك في اللجان التي قامت لإحياء الخلافة الإسلامية.
كان للرافعي موقف مناهض للثورة العرابية وقائدها أحمد عرابي حيث اعتبرها سببًا رئيسيًا في دخول الإنجليز مصر
ومن مواقفه أيضًا مهاجمة أسلوب المفاوضات مع المحتل الإنجليزي، حيث كان يرى أنه لا استقلال مع وجود قوات أجنبية على أرض بلاده، وقد نادى بالمقاومة وعارض معاهدة 1936 التي أبرمتها الحكومة المصرية مع إنجلترا، وقال إنها تسجل الحماية البريطانية على مصر وتقرر الاحتلال وتجعله مشروعًا، فضلًا عن أنها تضع على عاتق مصر من التكاليف والأعباء المالية لتحقيق أغراض إنجلترا الحربية ما تنوء به مواردها.
ومن القضايا التي شغلت فكره أيضًا، قضية وحدة وادي النيل، حيث كان يرى أن “السودان جزء من مصر وأنه بالنسبة لها مثل الإسكندرية أو قنا لا يمكن فصل أي منها عن مصر، وأن قضية السودان أجدر من مسألة فلسطين بجهودنا، وأن مصر شغلت عن قضية السودان الحيوية بقضية فلسطين وهو ما استغلته السياسة الاستعمارية لتنفيذ برامجها الانفصالية عن السودان”.
كان للرافعي موقف مناهض للثورة العرابية وقائدها أحمد عرابي، حيث اعتبرها سببًا رئيسيًا في دخول الإنجليز مصر، وفي كتابه “الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي” وصف عرابي قائلًا: “كان ذكاؤه محدودًا، وكان على جانب كبير من الغرور، والاعتداد بالنفس، وكان يعول كثيرًا على أقوال المنجمين والعرافين، وهذه جوانب ضعف كبيرة في شخصيته”، ويعتبر البعض أن علاقته الوثيقة بالحزب الوطني وتأثره الكبير والواضح بأفكار مصطفى كامل ساهمت في صياغة وجهة نظره تلك.
مؤرخ الحركة القومية
رغم جهده المؤثر في مسار الحركة الوطنية على مدار سنوات طويلة، فإن شهرة الرافعي الحقيقية استمدها في المقام الأول من كتاباته التاريخية، التي لقيت إقبالًا على الاطلاع عليها، وكان لها دور محوري في تشكيل عقلية الأجيال التاريخية لا سيما من الشباب، عزز ذلك ما كان يتمتع به من طهارة اليد وإخلاص في العمل.
وعلى مدار 30 عامًا من عمره سجل الرافعي تاريخ مصر في حلقات متتالية كتبها في 16 عنوانًا يوثق مراحل الدولة المصرية القومية، إلا أن تلك السلسلة لم تسلم من النقد والاتهام بعدم الالتزام بالمنهج التاريخي الصارم، وانحيازه للحزب الوطني الذي ينتمي له، وتأريخه للأحداث من خلال هذه النظرية الحزبية، وتعاطفه الشديد مع مصطفى كامل، وإسباغه عليه كل مظاهر النبوغ والعبقرية والبراءة من كل سوء، وهي الاتهامات التي توقع معها البعض أن تؤثر بشكل كبير في مكانة تلك المؤلفات لدى رجل الشارع، وهو ما لم يحدث.
ظلت مكتبته خير شاهد على ما قدمه الرجل من إسهامات كبيرة في تشكيل وعي الشباب والأجيال القادمة
وفي الوقت الذي كانت تجيش فيه الحملات للنيل من كتب الرافعي، كانت مؤلفاته تنتشر في ربوع مصر مثل النار في الهشيم، وذلك رغم تكدس الساحة التاريخية وقتها بعظماء المؤرخين مثل محمد شفيق غربال ومحمد صبري السربوني ومحمد فؤاد شكري وأحمد عزت عبد الكريم.
أثرى الرافعي المكتبة العربية بعشرات الكتب، أهمها: حقوق الشعب ونقابات التعاون الزراعية وتاريخ الحركة الوطنية وتطور نظام الحكم في مصر وعصر محمد علي والثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي ومصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال ومقدمات ثورة 23 يوليو 1952.
وظل مؤرخ الحركة القومية المصرية علامة بارزة في سجلات التأريخ المصري حتى بعد وفاته في 3 من ديسمبر 1966، حيث ظلت مكتبته خير شاهد على ما قدمه الرجل من إسهامات كبيرة في تشكيل وعي الشباب والأجيال القادمة بالفكرة القومية والدفاع عن الأوطان والشعوب في مواجهة الاستعمار أيًا كانت أشكاله.