جرائم فرنسا البشعة في حق شعوب الدول المستعمرة وتنكرها لمبادئ الحرية والمساواة التي تدعي ترويجها بين دول العالم، جعل العديد من الفرنسيين والأوروبيين ينضمون لصفوف الثوار الأحرار لمقاومة الاستعمار الفرنسي.
ضمن هؤلاء نجد هنري مايو، أحد الفرنسيين الذين ساندوا ودعموا القضية الجزائرية خلال الثورة التحريرية، مؤسسًا رفقة مجموعة صغيرة ما عرف بـ”مقاتلين من أجل التحرير” بجبال الونشريس لمقاتلة الفرنسيين.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف “فرنسيون ضد الاستعمار“، سنتطرق معًا لشخصية هنري مايو الذي كرس حياته من أجل القضية الوطنية وساعد الجزائريين لنيل استقلال بلادهم.
الانضمام إلى الحزب الشيوعي
في الـ11 من شهر يناير/كانون الثاني 1928، عرفت منطقة “سالومبي” التي تعرف حاليًّا باسم المدنية، ميلاد هنري مايو لأبوين معمرين. تابع دراسته الابتدائية في المدرسة العمومية بالحي، حيث تعرف على فرناند إفيتون الجندي الفرنسي الذي انضم لاحقًا إلى جيش التحرير الجزائري وآمن باستقلال هذا البلد العربي وضحى بحياته حتى تعيش الجزائر الحرة.
سنة 1943، انضم هنري مايو إلى الشبيبة الشيوعية بالجزائر العاصمة حيث شغل منصب الأمين العام لاتحاد الشبيبة الديمقراطية الجزائرية، وهو منظمة ديمقراطية تضم جزائريين وجزائريين ذوي أصول أوروبية، كما نشط في الحزب الشيوعي الجزائري.
في أثناء عيشه بالجزائر، عاين هنري مايو جرائم فرنسا الاستعمارية في حق السكان الأصليين للجزائر
سنة 1947، تحصل الشاب هنري مايو على شهادة الدراسات التجارية بالمدرسة العليا للتجارة بالجزائر، ليشتغل بعد ذلك مباشرة محاسبًا في يومية “الجزائر الجمهورية” المقربة من الشيوعيين في الجزائر المناهضين للاستعمار الفرنسي.
أبريل/نيسان 1948، التحق مايو بالخدمة العسكرية في منطقة الحراش (بلدية في ضواحي الجزائر العاصمة)، في وحدة القطار، ثم انضم بعد ذلك إلى المدرسة العسكرية بشرشال في الجزائر، رغم أنه كان “مدرجًا” كشيوعي من الأمن العسكري.
في يناير/كانون الثاني 1949، تمت ترقيته إلى رتبة “ضابط صف” بعد فترة تدريب، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1955 تم تعيينه في الكتيبة 57 مشاة بمليانة، برتبة ضابط صف بحري، وقد كان محصورًا في المهام الإدارية بسبب آرائه السياسية، رغم أنه كان مسؤولًا عن إدارة الأسلحة والذخيرة.
معاينة جرائم الاستعمار الفرنسي
في أثناء عيشه في الجزائر، عاين هنري مايو جرائم فرنسا الاستعمارية في حق السكان الأصليين للجزائر، حيث كان شاهد عيان على القمع الوحشي وجرائم فرنسا البشعة في حق الجزائريين الساعين لاستقلال بلادهم وضمان كرامتهم وحريتهم بعيدًا عن القوى الاستعمارية.
كان مايو شاهدًا على القمع الذي أصاب الجزائريين المسلمين بعد مذبحة الشمال القسنطيني، إذ شنت السلطات الفرنسية حملة توقيف وقمع واسعة استهدفت الآلاف من المدنيين الجزائريين وأحرقت المباني وقصفت القرى جوًا وبرًا، وسلحت الأوربيين الذين شكلوا ميليشيات وعمدوا إلى الاعتداء على المدنيين الجزائريين العزل.
كما كان حاضرًا على مجزرة ملعب فيليب فيل في سكيكدة (ملعب 20 من أغسطس حاليًّا)، حين حشرت قوات الاحتلال الآلاف من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وأعدمت العديد منهم، وقد ذهب ضحية هذه الحملة الانتقامية للسلطات الاستعمارية، العسكرية والمدنية والمليشيات الفاشية، ما يقارب الـ12000 جزائري.
هذه الجرائم الفرنسية البشعة، كان لها أثر كبير على هنري مايو ومواقفه تجاه الفرنسيين والجزائريين، حيث اختار أن يصطف إلى جانب الشعب الجزائري الذي يناضل لأجل نيل استقلال بلاده والعيش بكرامة داخل أرضه.
عملية مايو.. تهريب شاحنة أسلحة للمقاومين
قرر مايو الانخراط في صفوف المقاومة المسلحة والدفاع عن حق الجزائريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم بعيدًا عن وصاية المستعمر الفرنسي، في ذلك الوقت كان جيش التحرير الوطني الجزائري يعاني في الجبال من نقص حاد في التموين بالسلاح.
يوم 4 من أبريل/نيسان 1956، يقرر الضابط برتبة عريف في صفوف الجيش الفرنسي هنري مايو تحويل شاحنة عسكرية بها نحو 300 بندقية ورشاش ومسدس وأكياس من القنابل وكميات كبيرة من الذخيرة الحربية وأجهزة اتصال إلى جبال منطقة عين الدفلى، حيث كان ينتظره ثوار جزائريين.
غادرت الشاحنة المحملة بالأسلحة ثكنة “مليانة” في الساعة 7 صباحًا، متجهة إلى الجزائر، وكان هنري مايو رئيسًا للقافلة، بعد توقف دام ساعتين عند إحدى المنشآت الإقليمية للمعدات، حيث تم تفريغ جزء من الأسلحة، وتحويل الشاحنة باتجاه غابة بانيم غرب الجزائر العاصمة، حيث تم نصب كمين هناك من بعض المقاتلين الشيوعيين.
تم نقل الأسلحة إلى مجموعة من الشباب الشيوعي التي تشكلت في منطقة الدوق أورليان – التي تسمى حاليًّا مدينة الشلف نسبة إلى وادي الشلف الذي يمر بالمنطقة – تحت مسؤولية عضو من المكتب السري للحزب الشيوعي الجزائري، عبد القادر بابو.
آمن هنري مايو طيلة حياته القصيرة بالقضية الجزائرية وكان ناشطًا ملتزمًا بها وضحى بنفسه من أجل استقلال الجزائر
بعد الانتهاء من هذه العملية كتب هنري مايو في رسالة بعثها للصحافة ونشرتها جرائد فرنسية: “لست مسلمًا ولكنني جزائري من أصول أوروبية، أعتبر الجزائر وطني وعلي أن أقوم نحوه بكل واجباتي كباقي أبناء الجزائر، من خلال تزويد المحاربين الجزائريين بالأسلحة التي يحتاجونها في كفاحهم التحرري، إني واع كل الوعي بأني بهذا الموقف أقدم مصالح بلدي وشعبي”.
عقب هذه العملية مباشرة، أسس هنري مايو رفقة مجموعة صغيرة تنظيمًا مسلحًا أطلق عليه اسم “مقاتلون من أجل التحرير”، بجبال الونشريس لتنضم إليها لاحقًا مجموعات أخرى من تلمسان والأوراس قصد تشكيل النواة الأولى للمقاتلين الشيوعيين.
و”مقاتلون من أجل التحرير”، هي منظمة عسكرية محظورة تابعة للحزب الشيوعي الجزائري، تضم فرنسيين وأوروبيين بينهم محارب قديم قاتل في إسبانيا مع الجمهوريين، انضم أعضاؤها لاحقًا إلى صفوف جبهة التحرير الوطني، بعدما رفضت هذه الأخيرة أي نشاط مسلح ينضوي تحت راية أخرى غير رايتها ومواز لنشاطها.
أشرف مايو على العديد من التفجيرات والعمليات المسلحة التي استهدفت القوات الفرنسية المتمركزة في الجزائر، وكبدها العديد من الخسائر في صفوفها، فقد آمن بضرورة استقلال الجزائر وخروج المستعمر الفرنسي من الأرض التي ولد وترعرع فيها.
تصفية مايو
هذه العمليات العسكرية ضد المستعمر الفرنسي، جعلت هذا الأخير يلاحق هنري مايو ميدانيًا وقضائيًا، ففي يوم 22 من مايو/ أيار 1956، حُكم على هنري بالإعدام غيابيًا بتهمة الخيانة من المحكمة العسكرية في الجزائر، إلا أنها لم تتمكن من القبض عليه لتنفيذ حكمها الجائر.
في الـ5 من يونيو/حُزيران 1956، فوجئت مجموعة تتكون من 8 مقاتلين تابعين لمنظمة “مقاتلون من أجل التحرير” بقيادة هنري مايو، كانت تتمركز بالقرب من منطقة الدوق أورليان، باقتراب قوات عسكرية فرنسية منها.
عندما رأى المقاتلون عناصر الجيش الفرنسي تقترب منهم، كان الأوان قد فات، فقد تمت محاصرتهم بالكامل لذلك قرروا الانقسام إلى ثلاث مجموعات، تمكنت المجموعة الأولى من الهروب قبل وصول الجنود الفرنسيين فيما أجبرت المجموعة الثالثة على الاختباء.
أما المجموعة الثانية التي كانت تضم المقاتل الفرنسي المولود في الجزائر هنري مايو فقد قررت القتال والتصدي للجنود، لكن تم القضاء على جميع أعضائها بما فيهم هنري المحكوم بالإعدام، الذي كان يحمل هويتين مزيفتين.
عقب قتله بغابة بني بودوان بولاية الشلف، عرض الجنود الفرنسيون جثمان هنري مايو الملطخ بالدماء ولعدة ساعات بساحة بلدة لامارتين (الكريمية حاليًّا)، لتثبت السلطات الاستعمارية حجم جرائمها الوحشية في حق المدافعين عن استقلال الجزائر.
آمن هنري مايو طيلة حياته القصيرة بالقضية الجزائرية وكان ناشطًا ملتزمًا بها وضحى بنفسه من أجل استقلال الجزائر، ففرنسا لم تكن بطلة للحرية بالنسبة له، بل كانت على النقيض من ذلك، مناهضة للحرية والمساواة والكرامة، لذلك وجب قتالها وإعادة الأرض إلى أهلها.