“محمد سالم باطوق في كل مكان تقريبًا” تختصر هذه الجملة، على مبالغتها، قصة الصعود المذهل للمهاجرين الحضارمة في إريتريا، والنجاح الذي نسجته عوامل متضافرة من الطموح والاقتصاد والسياسة، قبل أن تكتب تقلبات الأخيرة نهايتها الحزينة في سبعينيات القرن العشرين.
على عكس حالها الآن لطالما وصفت شبه الجزيرة العربية بأنها بيئة طاردة عمومًا، فقلة مواردها كانت تدفع السكان إلى النزوح، وكانت هذه الحركة تزداد بتأثير الجفاف والأوبئة والفيضانات، أو الحروب والاضطرابات السياسية والنزاعات العائلية.
لم يكن اليمنيون استثناءً من هذا، وتشهد الكثير من الآثار التاريخية على قدم وتأثير الوجود اليمني في القرن الإفريقي عابرًا البحر الأحمر الذي كان مجالًا حيويًا لانتقال البضائع والأفكار والأشخاص بين ساحليه.
ولكن منذ منتصف القرن التاسع عشر شهد البحر الأحمر وخليج عدن حركة تجارية ضخمة نتيجة “ثورة البخار” واستخدامها في النقل البحري وافتتاح قناة السويس (1869) التي حولت البحر الأحمر إلى أهم ممر مائي في العالم، وزادت من ثم أهمية بعض الموانئ الواقعة على ضفتيه، ومنها ميناء مصوع الإريتري الذي استحال قبلة للتجار من جنسيات مختلفة وفي طليعتهم حضارمة اليمن.
التجارة..قصة الصعود
شهدت مصوع تدفقًا كبيرًا من الحضارمة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبينما أحصى تقرير بريطاني عام 1858 وجود 23 تاجرًا حضرميًا في مصوع، لاحظ تقرير آخر في العام 1865 أن الحضارمة والهنود سيطروا على تجارتها.
انخرط المهاجرون في كثير من المهن والأعمال، فبجانب الحمالين والباعة الجوالين والعاملين في بناء السفن والجنود برزت مجموعة من كبار التجار استطاعوا الترقي من هذه البدايات، أو اجتذبت السوق المزدهرة حديثًا رؤوس أموالهم.
خلق نمو مصوع في ظل المصريين والإيطاليين فرصًا في قطاعات اقتصادية متنوعة، ويظهر دليل تجار مصوع عام 1912 أن أكثر الحضرميين نجاحًا من الناحية الاقتصادية كآل باطوق وباجنيد نافسوا التجار الهنود في اللؤلؤ والصدف والجلود والمنسوجات والدخن، في حين تاجر آخرون في الذرة والتوابل والتمر والعطور والمواد الغذائية والبقالة.
تشير أسماء شركات متعددة إلى انتقال النشاط التجاري للحضارم من مصوع إلى أسمرة العاصمة الجديدة (1899)
كما عمد هؤلاء التجار إلى استثمار أرباحهم في شراء العقارات، وتوضح المعاملات العقارية المسجلة في محكمة مصوع الإسلامية تملك مجموعة منهم عددًا كبيرًا من المتاجر والمنازل والأراضي بين أواخر ستينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته.
وقام الحضارمة بدور حيوي في مجال الشحن البحري المرتبط بالاستيراد والتصدير، وتُظهر قوائم القوارب المسجلة في مصوع في عامي 1901 و1908 أن عائلات كباجنيد وصافي كانت من بين ملاك القوارب الرئيسيين في الميناء، وكانت تستخدم هذه السفن لشحن البضائع عبر البحر الأحمر وصيد اللؤلؤ في أرخبيل دهلك، كما تم استخدامها في عمليات غير مشروعة كتهريب العبيد واللآلئ.
وكان للحضارمة دور كبير في قطاع البناء فعمّر محمد سليم باطوق 40 مبنى في مصوع ونحو 60 في أسمرة، وموّل أحمد عبيد باحبيشي، بين ثلاثينيات القرن الماضي وخمسينياته، بناء العديد من المباني العامة والتجارية والسكنية في أسمرة، وبعضها كانت فريدة من نوعها في التصميم والحداثة المعمارية.
وتشير أسماء شركات متعددة إلى انتقال النشاط التجاري للحضارمة من مصوع إلى أسمرة العاصمة الجديدة (1899)، وإلى داخل البلاد في مدن كقندع وكرن وأغوردات.
تبادل المنافع مع المستعمر
وجد المصريون ثم الإيطاليون الساعون لتطوير مستعمراتهم وجعلها مربحة اقتصاديًا في التجار الحضارمة وغيرهم طرفًا مناسبًا لتحقيق هذه الغاية، فنشأت لذلك علاقة قائمة على تبادل المنافع بين الطرفين، فصنع بعض التجار ثروات من خلال تزويد القوات الاستعمارية الإيطالية بأدوات حيوية مثل المواد المعدنية والماشية.
وانضم العديد منهم إلى جهود السلطات الاستعمارية الإيطالية في تطوير الإنتاج الزراعي شمال مصوع، فحصل السيد حسن محمد الصافي عام 1905 على امتياز قدره 300 هكتار من الأراضي في وقيرو للزراعة، كما حصل محمد سليم باطوق عام 1908 على 906 هكتارات أخرى في وقيرو أيضًا وللأغراض نفسها.
واستفاد الحضارمة في توسيع تجارتهم من محاولة الإيطاليين تبييض صورتهم بعد جرائمهم في ليبيا من خلال التسهيلات للمسلمين في إريتريا، لكن كانت هذه العلاقات في مرحلة لاحقة عاملًا مؤثرًا في تكوين موقف عدائي من شريحة من أهل البلاد ضد المهاجرين الحضارمة.
بصمات في المجال الديني
كان للحضارمة دور كبير في نشر المذهب الشافعي في ساحل شرق إفريقيا عمومًا، وبجانب العلماء والدعاة شغل بعضهم مناصب مهمة داخل المجال الديني في إريتريا، وعلى سبيل المثال كان عضوان من عائلة عيدروس قاضيين في محكمة مصوع الإسلامية في فترات مختلفة من القرن التاسع عشر.
وكان لهم نشاط ملحوظ في المجال الوقفي، وأول مجلس للوقف في مصوع عام 1882 كان برئاسة المصري حسن موسى العقاد والحضرمي الشيخ عبد الله باجنيد، وفي أوائل القرن العشرين ترأس محمد سليم باطوق الوقف للمستعمرة بأكملها، كما كان ابنه سالم رئيسًا لمجلس الأوقاف بين عامي 1923 و1931. أما أحمد باحبيشي فشغل منصب نائب رئيس مجلس الأوقاف في أسمرة ، وعمل عن كثب مع المفتي التاريخي لإريتريا الشيخ إبراهيم المختار (1909-1969)، الذي كان يدعو لإصلاحات تعليمية وقضائية واسعة.
دعم الحضارمة المؤسسات العلمية الدينية بشكل فعال فساهم آل باحبيشي في تمويل توسيع وتجديد جامع الخلفاء الراشدون في أسمرة، بإنشاء أجنحة جديدة ومكتبة ومبنى لسكن الطلاب، وافتتاح المعهد الديني الإسلامي في 1944، وإلى جانب العديد من المساجد في مدن مختلفة ينسب إليهم تأسيس مدرسة الجالية العربية عام 1942.
إستراتيجيات الاندماج
تشير بيانات الإحصاء إلى تزايد مستمر للمهاجرين العرب ومنهم الحضارمة في مصوع، فقد تضاعف عددهم ثلاث مرات تقريبًا، من 358 فردًا عام 1886 إلى 924 عام 1910 (من إجمالي 4335 نسمة). ووفقًا لتعداد 1931 كان إجمالي سكان مصوع 9300 بلغ نسبة العرب منهم 29%، بينما ارتفع عدد العرب في مستعمرة إريتريا إلى نحو 5500 معظمهم من اليمنيين، وقدر عدد العرب في إريتريا عام 1952 بنحو 10000-12000، وفي عام 1958 أفاد القنصل الأمريكي في أسمرة بوجود نحو 6000 بين حضرمى ويمني في أسمرة وحدها.
عمد أبناء العائلات الثرية المهاجرة إلى الزواج من عائلات ساحلية إريترية نافذة دينيًا أو سياسيًا، في إستراتيجية لترسيخ أقدامهم وتعزيز المكانة الاقتصادية
ورغم هذا لم يعمد الحضارمة إلى الانغلاق دون المجتمع في إريتريا، واتبعوا إستراتيجيات تساعد على اندماجهم فيه، من ذلك ما تظهره تسجيلات الزواج في محكمة مصوع الإسلامية من تزايد نسب الزواج بين المهاجرين والإريتريات من طبقات المجتمع المختلفة، ولم يكن اختلاف الدين يقف عائقًا حاسمًا أمام هذا النوع من العلاقة.
وعمد أبناء العائلات الثرية المهاجرة إلى الزواج من عائلات ساحلية إريترية نافذة دينيًا أو سياسيًا، في إستراتيجية لترسيخ أقدامهم وتعزيز المكانة الاقتصادية للطرفين، وقد ربطت هذه العلاقة على سبيل المثال عائلة حمدون بعائلة عد شيخ، وصافي ببيت قاضي، وصافي بسفاف في قندع.
وبينما يُعتقد أن شراء الحضارمة الواسع للعقارات كان ضمن إستراتيجيات ترسيخ وجودهم في البلاد، يميل باحثون إلى أن حضورهم البارز في المجال الوقفي كان مثالًا للكيفية التي استطاعوا بها الحصول على رأس مال رمزي مكنهم من تطوير نفوذهم وأهلهم لأداء أدوار قيادية في المؤسسات الحديثة لمسلمي إريتريا.
الخروج الكبير
شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تزايد المشاعر الوطنية في إريتريا، وطرح ذلك أسئلة على الإريتريين والجاليات على حد سواء بسأن مدى إريترية أو عدم إريترية الأخيرين.
وتضافر الاقتصاد والسياسة في تضييق نطاق المرونة التي استوعبت الآخرين داخل البلاد، حيث أدى الركود الاقتصادي والتنافس بين الجهات الاقتصادية الفاعلة في الأربعينيات إلى النظر بعين الريبة للنجاح التجاري للحضارمة، والشعور بأنهم يستغلون موارد بلد كان ولاؤهم له مشكوكًا فيه، ولا سيما عند ربط ذلك بعلاقاتهم بالسلطات الاستعمارية المتعاقبة، ممّا أدى إلى أعمال عنف متكررة بحقهم وبحق ممتلكاتهم.
زاد ذلك الشحن ضدهم نتيجة النشاط السياسي المحموم الذي شهدته إريتريا في تلك الفترة، الذي تركز حول مشروعين أساسيين: الاتحاد مع إثيوبيا ومثّله حزب الإندنت، والدولة الإريترية المستقلة ومثّله حزب الرابطة الإسلامية، الذي سانده الكثير من الحضارمة وبرز من بين صفوفهم ياسين باطوق أحد مؤسسي الرابطة والمحرر الصحفي لجريدتها “صوت الرابطة”، وبرز كذلك محمد عثمان حيوتي.
وبين عامي 1947 و1949 اشتد الصراع بين الاتحاديين والاستقلاليين وزادت حدة الهجمات مع تدهور المناخ السياسي، ونتيجة لموقف الحضارمة من الإثيوبيين قام الوحديون على سبيل المثال بنهب وتدمير المزارع والمستودعات والمساكن الخاصة لعائلات مثل باطوق وصافي التي تم ربطها بالرابطة الإسلامية.
في ديسمبر/كانون الأول 1950 أقرت الأمم المتحدة الاتحاد الفيدرالي بين إريتريا وإثيوبيا، ممّا أجبر الاستقلاليين ومنهم الحضارمة إلى اعتماد إستراتيجية جديدة تعمل على الدفاع عن الأبعاد التعليمية والدينية والثقافية للحياة الإسلامية في إريتريا الفيدرالية، فانتُخب ياسين باطوق عضوًا في الجمعية الإريترية منذ عام 1950، و تم انتخابه نائبًا لرئيس بلدية مصوع 1958، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته عام 1967.
مع تطور حرب التحرير واتساعها مكانًا وزمانًا في إريتريا شهدت البلاد موجات لجوء نحو بلاد الجوار شملت كل أطياف السكان
ونتيجة لمخالفة حكومة الإمبراطور هيلي سلاسي التدريجية للقرار الفيدرالي انتهاءً بإعلانها إريتريا المحافظة الرابعة عشرة اندلعت ثورة مسلحة في سبتمبر/أيلول 1961، حظيت بمساندة عربية واسعة، وضايقت الحكومة بشكل متزايد وصريح التجار العرب الذين اتهموا بدعم جبهة التحرير الإريترية، كما أدى تدمير طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الإثيوبية في مطار فرانكفورت في 1969 على أيدي مقاتلي جبهة التحرير المدعومين من سوريا إلى خروج المظاهرات المعادية للعرب، وتصاعدت في أسمرة الدعوات لطردهم من البلاد، كما حُشدت الصحافة أيضًا في هذه الحملة.
نتيجة لكل هذا غادر الآلاف إريتريا وعاد جزء منهم إلى اليمن، واستقر كثيرون وعلى وجه الخصوص كبار التجار في دول الخليج التي بدأت تشهد الحقبة النفطية ولا سيما السعودية، حيث أصبحوا من كبار أقطاب الأعمال هناك.
تلت هذه الموجة موجة أخرى إثر سقوط نظام هيلي سيلاسي (1974) وقيام نظام ماركسي لينيني في إثيوبيا بقيادة منغستو هيلي ماريام، عمد إلى تأميم الممتلكات الخاصة ممّا دفع أكثر الباقين إلى اختيار مهاجر جديدة للارتحال إليها.
مع تطور حرب التحرير واتساعها مكانًا وزمانًا في إريتريا شهدت البلاد موجات لجوء نحو بلاد الجوار شملت كل أطياف السكان، غير أن فئة محدودة من الحضارمة ظلت في إريتريا شاهدة على صفحة من الوجود العربي في القرن الإفريقي، وأن الطائرات التي تقلع من إريتريا لتقصف اليمن الآن ليست الأداة الوحيدة للتفاعل بين ضفتي البحر الأحمر.