حين بدأت الثورة السورية عام 2011 وسط موجة احتجاجات الربيع العربي المطالبة بإسقاط أنظمة عربية في المنطقة وتغطية إعلامية عربية وأجنبية لاحقًا، لم يكن للسوريين نصيب في أن تُوثق انتفاضتهم إلا بعد مرور وقت طويل نسبيًا مقارنةً بالتغطية والاهتمام الذي نالته انتفاضات باقي الشعوب الثائرة، الأمر الذي دفع بالكثير ممن حملوا على عاتقهم واجب المساهمة في إيصال صوتهم والبحث عن حلول تساعدهم في منح انتفاضهم الزخم الإعلامي حول ما يحدث على أرض الواقع دون تشذيب، حتى ولو كان المحتوى لا يصلح للنشر عادة لناحية دقته الرديئة أو أنه لا يرقى للمعايير الصحفية، وبالطبع لم تكن فاتورة هذا العمل الشجاع بخسة، بل دفعها البعض من دموعهم ودمائهم.
وعلى الجانب الآخر عمل إعلام النظام السوري وما زال طوال السنوات التسعة الماضية على تغييب الحقيقة وتهميشها بكل ما أتيح له من طُرق حتى وإن كانت بالتهديد والترهيب وتلفيق التهم، لأهداف تتنوع من بينها تفريق الصفوف وزرع الفتنة بين الطوائف.
لكن لم تلبث الأمور أن خرجت عن سيطرته حين بدأ أفراد متفرقون من العامة بوهب أنفسهم كصحفيين ومراسلين دون أدنى خبرة بالعمل الصحفي أو استخدام الكاميرا والوقوف أمام الشاشة ليكونوا النواة الأولية لإعلام سوري حر يكون صوتًا للسوريين ويحمل على عاتقه توجيه الناس وتحفيزه وإيصال صوت الثورة وصورتها.
كانت شاشة الهاتف بصغرها وبدائيتها بين عامي 2010 و2011 نافذة الناشطين السوريين إلى العالم
مر الإعلام السوري الحر، بالكثير من التحولات والتغيرات الكبيرة التي أثرت سلبًا وإيجابًا على أدائه وصولًا إلى ما هو عليه اليوم، واستطاع تأدية المهمة المترتبة عليه في مواكبة الأحداث المتسارعة للثورة وتشكيل كيان نقابي موحد يجتمع تحته الصحفيون والإعلاميون والمصورون في محاولة للابتعاد عن صراع الممول والارتهان لفئة معينة أو فصيل.
الواقع في صورة المحمول
انتشر بين الشباب والفتيات المتظاهرين حين تأكدوا من أن لا أحد سيساعدهم في نقل صوتهم إلى الخارج والتواصل مع باقي المدن الثائرة، استخدام الهاتف المحمول لتصوير التظاهرات وما يتعرضون له من تصدي رجال النظام بالعصي الكهربائية بدايةً ومن ثم بالرصاص الحيّ.
إذ باتت شاشة الهاتف بصغرها وبدائيتها بين عامي 2011 و2012 نافذتهم إلى العالم يرسلون من خلالها المقاطع المصورة والصور والتسجيلات الصوتية وحتى إجراء مكالمات مع قنوات تليفزيونية عربية وعالمية وبث الاحتجاجات مباشرة بدقة لم تكن ترقى أحيانًا لبثها على الشاشة.
لعبت ظاهرة “المواطن الصحفي” أو “المراسل الصحفي” خلال هذه الفترة نجاحًا كبيرًا في نقل واقع الاحتجاجات السلمية إعلاميًا رغم اعتمادها على أناس هواة لم يحترفوا أو يلموا بأساسيات مهنة الإعلام من قبل، ولا يسعنا هنا إلا استذكار وجوه وجهود لم ينس الشعب السوري فضل أصحابها في توثيق أصغر وأخطر الأحداث معرضين أنفسهم وعائلاتهم إلى خطر محدق حتى دفع بعضهم أرواحهم ثمنًا له أمثال أنس الطرشة “الضجّة”، الشاب العشريني الذي لاحقه النظام واعتقله ثم تمكن أخيرًا من قتله بقذيفة هاون موجهة نحو سيارته عام 2012 في أثناء ذهابه إلى صديقٍ له في منطقة جورة الشياح بمدينة حمص للاستفادة من تقنية الإنترنت الفضائي لرفع الفيديوهات على منصة يوتيوب التي صوّرها سابقًا من حيّ الملعب في يوم جمعة “سننتفض لأجلك بابا عمرو”.
الشهيد الإعلامي أنس الطرشة خلال تغطيته لإحدى مظاهرات حي الملعب في مدينة حمص
نجح أنس مع كاميرته البسيطة والكثير من أشباهه من النشطاء والمصورين في إيصال صوت مظاهرات المدن المنتفضة بأفضل طريقة متوافرة للإعلام العربي في الوقت الذي كانت وحدة الخطاب والشعارات المرفوعة في باقي المناطق هي كل ما تحتاجه الانتفاضة لإكمال مسيرتها وشد أزر المدن ببعضها البعض.
كما ساهموا بشكل أو بآخر في وضع النواة الأولية لصحافة المواطن وصحافة الهاتف المحمول في سوريا في الوقت الذي كان العالم فيه يختبر مدى قوة هذه الوسائل الدخيلة على الصحافة والإعلام، فكان الفيديو والصورة والتسجيل الصوتي ومكالمة الفيديو ومكالمات الصوت والبث المباشر التي استهلكت كلها بشتى الطرق سواء من عامة الناس أم حتى الناشطين.
ساهمت غرف التنسيق الإعلامية بعملها الجماعي في توحيد الجهود والحد من المخاطر المترتبة على العمل العشوائي
لكن مع تطور الأحداث وبالأخص حين تحولت الثورة نحو العسكرة، ازدادت الحاجة الاحترافية والمهنية الإعلامية لمواجهة الأساليب التي اتبعها النظام وحلفاؤه من حرب نفسية وسياسية، مما شكّل دعوة للكثير من العاملين في هذا الحقل لتوحيد جهودهم نظرًا لإيمان الكثيرين بجدوى العمل المؤسساتي المنظم واستيعابهم المخاطر المترتبة على العمل العشوائي.
غرف الإعلام المخبأة
اشتداد الحاجة إلى جسم إعلامي موحّد ومتكامل بخبرات ومهارات تقوى على مجاراة المستوى المتقدم الذي وصل إليه الإعلام بالأخص حين بات واضحًا أن مسير الثورة السورية لن ينتهي قريبًا، أدى لتشكيل غرف إعلامية تضم ثلة من الإعلاميين والنشطاء والصحفيين الذين يسعون لتطوير مهاراتهم وقدراتهم في سبيل الاستمرار بطريق الحرية على الأصعدة كافة، ولكي يكونوا صوتًا لأهداف الثورة.
وكانت هذه الغرف السرية في مرحلةٍ ما بمثابة “وزارة الإعلام الثورية” التي تعمل على تنسيق العمل الإعلامي وتوزيع الأدوار وتجنب المهاترات أو المنازعات الإعلامية البينية وتوحيد الجهود والحديث بلسان أهل كل منطقة أو مدينة على حدة.
خرج منها اتحاد تنسيقيات الثورة السورية وهو كما تعرّف موسوعة ويكيبيديا “منظمة تضم مجموعات تنسيق وناشطي الحراك الثوري الذي بدأ عام 2011 مهمته تمثيل الحراك المدني على الأرض سياسيًا وإعلاميًا وتنسيق وتوحيد العمل ميدانيًا، بالإضافة إلى تشكيل قاعدة لمجلس من شباب وناشطي الثورة لحماية أهدافها وضمان تحقيقها بشكل كامل، تم تأسيس الاتحاد وإصدار بيانه التأسيسي في الأول من يونيو/حزيران 2011 في العاصمة دمشق وكان يضم حينها أكثر من 216 تنسيقية ومجلس وتجمع ولجنة محلية.
أدخل العمل الجماعي شكلًا جديدًا من أشكال مقاومة نظام آل الأسد ألا وهو بدءهم بتوثيق أرقام الشهداء والجرحى وتسجيل الأحداث
عمل اتحاد تنسيقيات الثورة السورية خلال السنوات التسعة الماضية على نطاق واسع وممتد إلى جميع المناطق والمدن السورية المتضررة من ويلات القصف والدمار وحتى تلك التي باتت مستقرة ـ إلى حد ما ـ فوثقوا أعداد القتلى والجرحى وقدموا الأخبار والإحصاءات وكانوا مصدرًا موثوقًا للمعلومات.
كما تكلموا باسم المدنيين في كثير من الأحيان من خلال إصدار بيانات رفض أو اعتراض أو قبول، ولا يمكننا أن ننسى الدور الذي لعبته في بداية الحراك في تنظيم المظاهرات وتغطيتها إعلاميًا.
وإلى جانب كل هذا فقد أدخل العمل الجماعي شكلًا جديدًا من أشكال مقاومة نظام آل الأسد ألا وهو بدءهم بتوثيق أرقام الشهداء والجرحى وتسجيل الأحداث بالمكان والزمان وأعداد المتضررين بعد كل حادثة حتى باتوا ذاكرةً للمكان وأرشيفًا يحفظ الكثير من المعلومات والأحداث من تشويه المستقبل.
إعلام “يمثلنا”
دخل الإعلام السوري البديل مرحلةً جديدة كليًا بعد ظهور القنوات التليفزيونية الكبيرة وتشكيلها مصدرًا واسعًا يضم كل أشكال المحتوى الإعلامي، الذي لم يأخذ تحقيقه وقتًا طويلًا حقيقةً، بل كان سريعًا مقارنةً بما يتطلبه الأمر عادةً من وقت، فتشكلت العديد من القنوات التليفزيونية من بينها قناة أورينت التي كانت من أولى الشاشات السورية التي لازمت السوريين طوال سنوات ثورتهم التسعة الماضية، والتي أعلنت أنها ستغلق أبوابها خلال الأسابيع القادمة من هذا الشهر.
ثم ما لبثت هذه الرقعة أن اتسعت لاحقًا لتضم وسائل إعلامية أخرى من راديو وصحف ومواقع إلكترونية ومنصات في مواقع التواصل الاجتماعي بأشكال وأسماء لا حصر لها.
يقع على الإعلام والصحافة الدور الأكبر في توجيه هذا الجيل وتقديمه وقضيته إلى العالم والعمل على تغيير الرأي العام تجاه القضية السورية
وبسبب الدور الذي يلعبه الإعلام كسلطة لا يمكن ردعها ولا توقع مدى التأثير الذي يحدثه، وبالإضافة إلى أنه اليوم قائد للوعي يوجه نحو زاوية ما ويزيح النظر عن أخرى، يخفي واقعًا ويمكّن زيفًا، إلا أن هذا لا ينفي كونه سيفًا ذا حدين يتسبب في واحد من أكبر تحديات إعلام الثورة السورية ألا وهو أن الإعلام السوري الحر اليوم ليس حرًا بالمعنى الكامل.
ولا أعتقد حتى هذه اللحظة أنه يمكن لنا البت بنجاحه أو تقديمه على أنه النموذج المثالي لإعلام الثورة السورية لأنه ما زال يقع في صراع يتمثل في لغة الممول “المالك” الحقيقي له، وهو أمر لا يمكن تجاهله لأنه ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ يعتبر إعلامًا موجّهًا باتجاه معين ومدروس، لذلك فإن مسمى “إعلام الثورة” هو صيغة غير مكتملة بصورتها الحاليّة ـ ما عدا قلة قليلة من الاستثناءات ـ وهذا أيضًا لا ينفي أن الإعلام السوري استطاع وما زال أن ينقل الحدث ويساهم في تقديم الثورة للعالم العربي والأجنبي بأفضل ما عنده وبشتى الطرق.
الإعلام كفعل مقاومة مستمرة
تقبل الثورة السورية اليوم على منعطفات خطيرة، أولها خطر المحو وتشويه الماضي ودفنه كواحدة من أهداف النظام التي تتلخص في محاولات استرجاع علاقاته مع دول الجوار والعالم، وهنا تزيد المسؤولية الفردية والجمعية على جيل الثورة في المقاومة والثبات على ما بدأوا به.
فيما يقع على الإعلام والصحافة الدور الأكبر في توجيه هذا الجيل وتقديمه وقضيته إلى العالم والعمل على تغيير الرأي العام تجاه القضية السورية، ويمكن تحقق هذه المقاومة في العديد من المناهج أبرزها العمل على إنشاء مؤسسات إعلامية ذات بنية سليمة تركز على الهوية السورية الشاملة لجميع السوريين بعيدًا عن التقسيمات التي تؤدي إلى التفرقة وتراشق التهم، إلى جانب التذكير المستمر بحق العودة للاجئين المطرودين من أراضيهم الذين يسعى النظام لاستبدالهم بطوائف وجنسيات أخرى كإيران وروسيا ما يمثل تغييرًا ديموغرافيًا كبيرًا، والعمل على زرع روح الدفاع عن هذه الحقوق واستعادتها بحملات توعوية إعلامية لضمان استعادة ما تم سلبه.
الخيارات عديدة سواء في حقل الإعلام أم غيره ويمكن تحققها بالعمل الجماعي المنظم ووضع خطط محكمة بعيدة المدى
على عاتق الإعلام السوري الثوري مهمةً ليست بالسهلة، وربما لا يقوم بها كل إعلام عادي لأن المرحلة التي تعيشها سوريا والشعب السوري ليست بالعادية ولا يوجد في التاريخ مثالًا يُحتذى به، ورغم هذا ما زال لدينا الكثير لفعله من خلال التركيز على الشرائح الثلاثة المختلفة التي ينقسم إليها الشعب السوري حاليًّا وهي: السوريون الموجودون داخل سوريا سواء كانوا من المعارضين لنظام الأسد أم حتى من المؤيدين، والسوريون المقيمون خارج سوريا، والعالم بشكل كامل لتوجيه كل واحد على حدة. وهي مسؤولية تحملها المؤسسات الإعلامية ومنظمات التدريب وحتى الإعلاميين أنفسهم بشكل متساوٍ.
يمكن لنا دائمًا فعل الكثير والعمل على استعادة ما سلب منا بالقوة، فالخيارات عديدة سواء في حقل الإعلام أم غيره ويمكن تحققها بالعمل الجماعي المنظم ووضع خطط محكمة بعيدة المدى.
تمكين جذوة الثورة السورية في ذاكرة الأجيال الجديدة وترسيخها في ذاكرة العالم الجمعي من خلال الاستعانة أكثر بصناعة الأفلام والوثائقيات وغيرها من أنواع المحتوى هي شكل من أشكال المقاومة وحماية الذاكرة الثورية التي أثبتت بالفعل قدرتها على الانتشار وجلب اهتمام وتفاعل العالم من حولها بالوصول إلى مستويات متقدمة في جوائز ومسابقات عالمية.