ترجمة وتحرير نون بوست
بسبب انخفاض أسعار السفر والتنقل بين الدول وسهولته، بالإضافة إلى الفوارق الهائلة في الدخل بين البلدان، قررت أعداد غير مسبوقة من الناس اقتلاع أنفسهم عن جذورهم والسفر، هناك الآن أكثر من 230 مليون شخص حول العالم يعيشون خارج البلاد التي وُلدوا فيها، 46 مليون منهم يعيشون في الولايات المتحدة، ليس غريبًا أن ينتقل الناس من الأماكن الأفقر إلى البلدان الغنية، في أغنى 18 دولة في العالم، يشكل المهاجرون قرابة 16٪ من مجموع السكان، وإذا قررت إضافة الأجيال الثانية، أي هؤلاء الذين يعيشون الآن في الدول الغنية بعد أن هاجر آباءهم، فإن النسبة ستكون أكبر كثيرًا! فمثلاً في عام 2010، كان 13٪ من سكان الولايات المتحدة قد ولدوا خارجًا، لكن 24٪ من آباء الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة كانوا قد وُلدوا خارج الولايات المتحدة.
سابقًا، أنتجت تجارب الهجرة الجماعية نتائج جيدة، لكلا المهاجرين والدول المستضيفة على حد سواء، الكم الهائل من المهاجرين الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة قبل 1914، ومنهم المسيحيين العرب واليونانيين والهنغاريين والإيطاليين واليابانيين ويهود روسيا وحتى الإسكندانفيين، جميعهم تم استيعابهم بسرعة وساهموا في الازدهار الاقتصادي في أمريكا، وبالمثل حدث ذلك بعد الحرب العالمية الثانية في أستراليا وكندا ونيوزيلندا.
لكن سيكون من الخطأ تعميم هذه التجربة وافتراض تكرارها لجميع المهاجرين، فهناك أسباب للاعتقاد أن الذين يهاجرون الآن إلى كل من الولايات المتحدة وأوروبا سيعانون من مشاكل أكثر كثيرًا مما عاناها أسلافهم المهاجرين، وفي الوقت نفسه لن يستفيدوا الاستفادة ذاتها من الهجرة بسبب التوترات الاجتماعية واتساع الفجوة الاقتصادية في البلدان التي يحلون فيها.
عملية الاستيعاب الناجحة مع المهاجرين القدامى غالبًا ما يُساء فهمها، فصحيح أنهم استطاعوا تحقيق مساواة في الدخل مع السكان الأصليين خلال جيل واحد أو جيلين، لكن الكثيرين يتجاهلون معدلات الحراك الاجتماعي وسرعته خلال تلك الفترة مقارنة بما نعيشه الآن.
تشير آخر الإحصاءات أن معدلات الحراك الاجتماعي منخفضة للغاية، فلكي تنتقل العائلة من مستوى اجتماعي مختلف، فإن هذا يحتاج إلى مُضي بين 7 و10 أجيال من الأحفاد وأحفاد الأحفاد، في السويد على سبيل المثال، لا يزال أحفاد نبلاء القرن الثامن عشر يعيشون من بين أعلى الفئات الاجتماعية، نسبة الأطباء والمحامين والأثرياء من بينهم أعلى من أي طبقة أخرى، في المملكة المتحدة، من أرسل ابنه إلى أوكسفورد أو كامبردج للدراسة، فإن احتمالات دخول أحفاده إلى نفس الجامعات أكبر بأربعة أضعاف من غيرهم في بريطانيا.
المهاجرون الذين تم استيعابهم في مجتمعهم الجديد في بلدان مثل الولايات المتحدة غالبًا ما كان يتم اختيارهم لأفضليتهم، مهاجرو الدول الإسكندنافية الذين استقروا في أمريكا لم يكونوا يائسين في بلدانهم على الإطلاق! كانوا يعرفون القراءة والكتابة، ربما كانوا فقراء في بعض الأحيان، اليهود الذين هاجروا من روسيا كانوا فقراء بالتأكيد، لكنهم كانوا من ضمن النخبة المثقفة في بلادهم الأم.
أما المهاجرون الذين وصلوا إلى المهجر وهم في مستويات اجتماعية منخفضة، فقد لاقوا صعوبة كبيرة في اندماجهم في مجتمعهم الجديد، يظهر هذا في الولايات المتحدة مثلاً من خلال أحفاد المهاجرين الفرنسيين الذين عاش أجدادهم في ولاية لويزيانا قبل أن تشتريها الولايات المتحدة من فرنسا، ورغم الأجيال المتعددة التي عاشت من أحفاد الفرنسيين في الولايات المتحدة إلا أن وضعهم المتوسط أقل من الوضع المتوسط للأمريكيين، هذا من الممكن تقديره بعدد الأطباء لكل ألف شخص، إذا طبقنا هذا المعيار، فإنه سيكون هناك 1.6 طبيب لكل ألف شخص من أصل فرنسي في أمريكا، مقابل 3.5 طبيب لكل ألف في أمريكا ككل.
الأمر ليس له علاقة بالسياسات الاجتماعية في أمريكا، فالكاثوليك والأيرلنديين والإيطاليين شهدوا تمييزًا علنيًا أقسى مما لاقاه الفرنسيون.
الأدلة تشير كذلك إلى أن الجماعات المهاجرة تميل إلى الإبقاء على الوضع الاجتماعي الذي جاؤوا به؛ فبسبب صعوبة الحصول على تأشيرات الدخول إلا لمن يثبت لديهم المهارات التي يحتاجها سوق العمل الأمريكي، فقد حافظ المهاجرون مثل الأفارقة والصينيون والمسيحيون العرب على مستوياتهم الاجتماعية خاصة وأنه بوصولهم إلى الولايات المتحدة وعملهم فيها، كانوا قد خطوا أول خطوة للدخول إلى الطبقات العليا في مجتمعاتهم الأصلية.
النمط نفسه يتكرر في أوروبا، ففي الستينات والسبعينات قامت ألمانيا والنمسا وبلجيكا والدنمارك وسويسرا بخلق برامج عمل لتوظيف العمال غاير المهرة وتدريبهم وتسليمهم وظائف التصنيع الأساسية، غالبًا ما كانوا يحضرونهم من المناطق الريفية الفقيرة في تركيا. اليوم، أبناء هؤلاء المهاجرين يؤدون بشكل سيء في دروس الرياضيات واللغة، وهو مؤشر يمكن اعتماده كمعبر عن وضع اجتماعي أقل.
وعلى نفس المنوال، البلدان التي اختارت مهاجريها من بين النخبة، لذلك فإن الأفارقة والهنود والصينيين المهاجرين إلى بريطانيا على سبيل المثال، يتفوقون على نظرائهم البريطانيين.
الولايات المتحدة تواجه تحديًا كبيرًا، هو تكون طبقة دنيا غير مسبوقة من المهاجرين اللاتينيين القادمين من المكسيك وأمريكا الوسطى، الجدول أدناه يدل على التحصيل العلمي في الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عامًا في الولايات المتحدة عام 2009، أحفاد المهاجرين اللاتينيين يتسربون من المدرسة بمعدلات أكبر كثيرًا من المنحدرين من الجماعات المهاجرة الأخرى.
وبالمثل، فإن عدد السكان اللاتينيين هم الأقل احتمالاً لإكمال التعليم العالي أو دخول الجامعة.
هذا النمط يظهر بوضوح أكبر في كاليفورنيا، حيث المهاجرون الجدد أكثر عددًا مما عليه النسبة في الولايات المتحدة ككل، هناك افتراض يقول إنه بزيادة الدعم الاجتماعي للمهاجرين، مثل جعل الالتحاق بالتعليم أسهل أو مجانيًا، فإن ذلك سيسمح للمهاجرين اللاتينيين باللحاق ببقية المواطنين، لكن هذا ليس مؤكدًا، فالنموذج السويدي مع الأتراك لا يقول ذلك، هذا ما ظهر في معدلات التحصيل لدى أبناء الأتراك.
تحب الولايات المتحدة أن تعتز بالصورة التي رسمتها لنفسها على أنها بلد الفرص للجميع، البلد الذي تدعو العالم المنهك ليدخلها، لكن الصورة ليست وردية على الإطلاق، والولايات المتحدة ليست استثنائية في معدلات الحراك الاجتماعي، إن هذه التركيبة من الممكن أن تؤدي إلى إحضار المزيد من المهاجرين ودفع المزيد للهجرة، لكن الحقيقة أن الحلم الأمريكي كان دائمًا مجرد وهم، الاستمرار في محاولة اللحاق بهذا الوهم لن يؤدي إلا إلى نتائج اجتماعية وخيمة سيعاني منها المهاجرون ودول المهجر.
المصدر: فورين آفيرز