تعد النقوش والأشكال الفنية مصدرًا تاريخيًا على مدار العصور المتعاقبة وذلك من أجل توثيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية، وفي تركيا نجد القبور العثمانية وما ينم عنها من حس وذوق فني لتعرف الناظرين مكانة ونسب وجنس الشخصيات وفضائلها، فهي مجسمات وأشكال مختلفة الصنع والطراز المتبع، كما تعطي لغة وإشارات لمضامين مرسومة أو مكتوبة بآيات قرآنية أو أبيات من الشعر والأدب أو تسرد واقعة تاريخية عاشها صاحب الشاهد المتوفى، وفي هذا التقرير نتعرف على أبرز الرموز والشواهد العثمانية.
الشاهد وجنسه
يدل الشكل الخارجي لشاهد القبر وأنواع الزينة الموجودة عليه على جنس المتوفى، فبينما يكون على شاهد الرجل ما يشبه القبعة أو العمامة، فإن شاهد قبر المرأة مزين بإكليل من الزهر، وهذه الأشكال محفورة على شكل “مزهرية” أو على شكل زهور مختلفة.
وشكل الزهرة يدل على هذا النصب والشواهد الحجرية تريد أن تقول شيئًا بلسان حالها لزائر المقبرة، فمثلًا نرى في كثير من هذه الأماكن نقش زوج من الزنبق بخمس أوراق وكأنها يد ضارعة ممتدة للدعاء، ونرى زينة الزهور موجودة إلى حد مّا على شواهد قبور الرجال، إذ كان شيخ الإسلام يضع زهرة أو وردة على طرف عمامته الكبيرة، وكان الكاتب يضع ريشة على عمامته.
الشاهد ومهنته
بالنسبة للأشكال فإن كان بحارًا فلا بد من وجود إشارة أو رمز أو شكل عن مهنته هذه على شاهد قبره، فقد يكون الرمز صورة سارية أو شراع أو مرساة أو شارة البحرية العثمانية، وإذا كان المتوفى كاتبًا ويعيش على قلمه تبرز إشارة مثل شكل لفائف الورق أو ريش وإن كان رسامًا فتجد شارة الريشة، أما إن كان عسكريًا فسترى على شاهد قبره إشارة إلى مهنته مثل سيف أو مدفع أو خنجر أو قذيفة، أما الضباط الذين وصلوا إلى رتب عالية في الجيش من خلال صور لأسلحتهم كما تتم الإشارة إلى رتبته العسكرية على جانبي شاهد القبر.
أول شارة في تاريخ الدولة العثمانية وضعت في عهد السلطان سليم الثالث، ونظرًا لكون هذه الشارة تحمل – إلى جانب الرموز العسكرية – رموزًا دينية ووطنية، فقد أحبها الشعب وتبناها، لذا استعملت بشكل كبير في تزيين شواهد القبور خاصة في العهود التي تلت عهد السلطان سليم الثالث، فالعديد من شواهد باشوات الدولة العثمانية مزينة بوسام المجيدي أو الحميدي.
الشاهد ومشربه
هناك بعض الأشكال والرموز في شاهد القبر تشير إلى مشرب المتوفى، فإن كان مولويًا يعمل في الزاوية حفر على شاهد قبره شكل عمامة مولوية، أما المنتسب الاعتيادي فيكتفى بحفر سكة مولوية على شاهد قبره، وإن كان من مريدي الطريقة القادرية فنجد على الشاهد زخرفة تسمى “زهرة القادرية”، وتتغير الزخارف المحيطة بالشكل الرئيسي حسب فروع هذه الطرق الصوفية، فمثلًا يُرمز للفرع الرومي للقادرية بشكل تاج ذي ثمانية رؤوس في وسطه زهرة الطريقة القادرية، وفي شاهد مريد لفرع آخر من هذه الطريقة نجد نجمة ذات ثماني عشرة زاوية. أما أتباع الطريقة السنبلية التي أسسها الشيخ “سنبل سنان” فتحفر على شواهد قبورهم شكل السنبلة كرمز لطريقتهم الصوفية.
الشاهد وأشكال معبرة
ولم يكتف العثمانيون بالتعريف عن المتوفيين بالأشكال الأخرى، بل إن أهم شيء يمكن عمله للميت هو الدعاء له عند المرور بالقبر وهو السبب الأكثر أهمية لإقامة شواهد القبور العثمانية على جانب الطريق ووجود الزائر في المدينة هو الرغبة في الدعاء وتذكيره بالموت بأية “إنا لله وإنا إليه راجعون” كما يكتب على قبرة الفاتحة أو كلمة “الله” التي ترمز للتوحيد أو دعاء “جعل الله قبره روضة من رياض الجنة”.
فأصحاب هذا الفن نجحوا في ترجمة الدعاء وبعض الرسوم لفواكه الجنة التي ذكرت بالقرآن من عناقيد العنب والنخل والتمر والرمان، واستمر اهتمام العثمانيين بتزيين شواهد القبور حتى السنوات الأولى من إعلان الجمهورية وإعلان تغيير الأبجدية من الأحرف العثمانية إلى اللاتينية.
أشهر الشواهد والمقابر العثمانية
تظهر هذه الشواهد بشكل بارز في أغلب القبور التاريخية، فعند زيارتنا لقبور مؤسسي الدولة العثمانية المشيدة بالشواهد العريقة والزخارف والآيات القرآنية نجد ضريح مؤسس الدولة العثمانية السلطان عثمان غازي بن أرطغول الذي يجاوره ضريح ابنه السلطان أورهان غازي اللذين يقعان بولاية بورصة شمال غربي تركيا، ويقع الضريحان في حديقة طوب هانة بمنطقة عثمان غازي التي تضم أيضًا برج الساعة ونصبًا تذكاريًا لشهداء حرب الاستقلال.
كما يوجد مقبرة أيوب الشهيرة نسبة إلى قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الواقع بمنطقة أيوب في إسطنبول، وكان كبار رجال الدولة والأعيان يفضلون أن يتم دفنهم في المنطقة لما لها من قيمة معنوية لقبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري، ولعظمة هذه المنطقة يتطلب الدفن الحصول على إذن خاص من الجهات المختصة، ومن أشهر الشخصيات المدفونة هناك السلطان محمد الخامس (رشاد) والصدر الأعظم صوقوللو محمد باشا وشيخ الإسلام عرياني زاده أحمد أسعد أفندي، إضافة إلى مقابر منطقة بايزيد وتضم أضرحة كل من السلطان محمود الثاني وعبد العزيز وعبد الحميد الثاني.
تظهر الحكومة التركية عناية كبيرة بتلك القبور، فتوفر لها العمال الذين يعملون على نظافتها
أما القبر الأشهر الذي يتوافد عليه آلاف العرب والسياح الأجانب يوميًا قبر السلطان أحمد الأول وهو الذي أمر بتشييد جامع السلطان أحمد “المسجد الأزرق” كأكبر جوامع مدينة إسطنبول، وضع قبره في فناء هذا المسجد، كذلك قبر مصطفى الأول وسليم الثاني اللذين دفنا في فناء مسجد “أيا صوفيا” وقبر سليمان القانوني الذي دفن بالقرب من مسجد السليمانية في إسطنبول.
وفي القسم الآسيوي توجد مقبرة كراجة أحمد وتُعتبر من أكبر وأقدم المقابر في المدينة إذ تم إنشاؤها في منتصف القرن الـ14 ولها 7 أبواب تقع على جهات مختلفة، وتتألف من 12 قسمًا مختلفًا يتبع كل منها جماعات دينية مختلفة، وتظهر الحكومة التركية عناية كبيرة بتلك القبور، فتوفر لها العمال الذين يعملون على نظافتها وترتيبها وحمايتها، إضافة إلى توفير أجهزة خاصة بلغات مختلفة في بعض المقابر التي يقصدها السياح الأجانب.
ارتباط تاريخي وقومي
“نون بوست” التقى الصحفي والباحث في التاريخ العثماني عامر سليمان الذي اعتبر أن ثقافة شواهد القبور متجذرة لدى الأتراك القدماء قبل قدومهم إلى وسط آسيا واعتناقهم الإسلام، حيث كان أتراك الغوكتورك يضعون على رأس قبورهم حجارة على أشكال الإنسان وأحيانًا أشكال حيوانات ويطلق على شواهد القبور تلك اسم (بالبال) وبعد اعتناقهم الإسلام واستبدلوها بأشكال ورموز فنية إسلامية وآيات من القرآن الكريم.
وعن أكبر المقابر الإسلامية في العالم يؤكد سليمان أن مقبرة الميدان السلجوقي في منطقة آخلات بولاية بتليس التركية، إحدى أكبر المقابر التي بدأت مع بداية الدولة العثمانية والمكللة بأشكال شواهد القبور المتعارف عليها، حيث وصلت ذروة اهتمامها في القرن الخامس عشر.
لشواهد القبور التي شيدها العثمانيون لغة خاصة يمكن لمن يفهمها أن يعرف الكثير عن الشخص المدفون في القبر بمجرد النظر إلى الرموز المنقوشة
كما بيّن سليمان أهمية شواهد القبور في الدولة العثمانية التي اهتم بها العثمانيون وجعلوا من مظاهرها مصادر ثقافية تاريخية وتشير من خلالها إلى تطور فن الزخرفة والخط العربي والشعر، وهي جزء من الذاكرة الوطنية وحلقة وصل بين الماضي والحاضر وتوثق الحياة الاجتماعية والثقافية في تلك الفترة.
وتبقى الشواهد تحفةً فنيةً وأماكن متميزة بقيت تعبر عن أصالتها وقدمها منذ قرون، إذ تغنى بها الشعراء الأتراك حيث يقول الشاعر التركي الشهير يحيي كمال بياتلي: “ليس هناك شعر أكثر محلية ووطنية ويعبر عن الهوية أكثر من شواهد القبور، لأنها تحكي لنا من نحن”، ويقول الأديب التركي الكبير نهاد سامي بانارلي: “إذا أردتم أن تروا هيبة وعظمة الحضارة يكفي أن تنظروا إلى المقابر وشواهد القبور بمنطقة أيوب سلطان في إسطنبول”، ويقول شاعر آخر اسمه تونج ألب: “شواهد القبور تعد متحفًا ومعرضًا فنيًا يجمع فنون النحت والنقش والخط والشعر في مكان واحد.
لشواهد القبور التي شيدها العثمانيون لغة خاصة يمكن لمن يفهمها أن يعرف الكثير عن الشخص المدفون في القبر بمجرد النظر إلى الرموز المنقوشة على شاهد القبر حتى دون أن يقرأ ما هو مدون على الشاهد، وفق ما أورده الباحث سليمان.
دلالات العمامات المختلفة
يشير الباحث التاريخي سليمان إلى ظهور فن “حجر الشاهد” في تلك الحقبة، فكان شاهد القبر الذي يعلوه عمامة ملفوفة (مضلعة) يدل على أن المدفون بالقبر من كبار رجال الدولة والقصر وقد استخدمت هذه العمامة بكثرة في القرن السادس عشر وتكثر أمثلتها بالمقابر الموجودة بمنطقة أيوب سلطان في إسطنبول، وشكل العمامة أو القبعة من أكثر الأشياء التي تعلو شواهد القبور ولكل منها دلالة مختلفة على مهنة صاحبها والطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها.
وعن أشكال العمامة الفنية يقول سليمان: “تتنوع العمامات وفق حجمها، فالعمامة المتوسطة للعلماء والقضاة والأئمة، والعمامة الكبيرة لكبار العلماء وشيخ الإسلام وقاض العسكر (قاضي القضاة) والقضاة الذين خدموا بمكة والمدينة، أما القبعة العالية ذات الشكل المخروطي فتوضع على شواهد قبور الصدر الأعظم وقائد الأسطول وكبار الوزراء، بينما شواهد قبور جنود الانكشارية فيعلوها مغفر (خوذة) وتحوي شواهد قبور البحارة على رموز مثل الشراع والمرساة وصاري السفينة”.
ويشرح سليمان شواهد القبور التي يعلوها طربوش وتدل على الفترة الزمنية التي عاشها وعلى مهنة صاحب القبر في الغالب، فقد بدأ استخدام الطربوش في عهد السلطان محمود الثاني، والطربوش الضيق من الأعلى وأوسع من أسفل يدل على عهد السلطان عبد العزيز.
ويضيف “عندما شاع ارتداء طربوش في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في نفس الشكل ولكنه أطول قليلًا وانعكس ذلك أيضًا على أشكال الطربوش التي تعلو شواهد القبور، أما شواهد قبور منتسبي الطرق الصوفية فيعلوها عمائم صغيرة تختلف أشكالها باختلاف الطريقة الصوفية”.