دخلت الأزمة السياسية الممتدة منذ عشرة أعوام بين مصر وإثيوبيا على ملف سد النهضة منعطفًا خطيرًا، بعد إعلان أديس أبابا الانسحاب من المفاوضات الثلاثية الأخيرة التي أقيمت يومي الـ27 والـ28 من فبراير/شباط الماضي، ورفض الانصياع إلى الاتفاق النهائي الذي وقعت عليه القاهرة منفردةً بالأحرف الأولى خلال هذه الجولة.
وقد صعدت الحكومة الإثيوبية لهجتها العدائية في هذا الملف، من خلال إعلان شروعها في ملء الخزان خلال أربعة أشهر، مبررةً ذلك بكون السد والأرض والمياه، جميعهم ينتمون إلى إثيوبيا، ومن ثم فإنه “لا قوة تمنع بلادنا من استكمال سد النهضة”، كما قال غيو أندرغاشيو وزير الخارجية الإثيوبي.
ومع بوادر انسداد هذا المسار الذي عولت عليه مصر في إنقاذ المفاوضات ومستقبلِ العلاقات بين البلدين، حيث بدأت المحادثات الثلاثية في واشنطن، منذ الـ6 من نوفمبر الماضي استجابةً لطلب القاهرة بتدخل الولايات المتحدة والبنك الدولي كوسطاء بموجب اتفاق المبادئ الذي وقعت عليه البلدان الثلاث المعنية (مارس/آذار 2015)، نتيجة لتعثر المفاوضات البينية التي استمرت خمسة أعوام ونزوع إثيوبيا الأحادي نحو التلويح بالاستعداد للحرب، مع بوادر هذا التعثر، رجح كثيرٌ من المتابعين اقتراب لجوء القاهرة إلى الخيار العسكري ضد سد النهضة، بغرض حماية حصتها، الضعيفة أصلًا، من نهر النيل.
وعلاوة على المستجدات الأخيرة المتعلقة بالانسحاب الإثيوبي والتصعيد الكلامي الحاد، فقد استند أنصار اقتراب الحل العسكري في تحليلهم إلى انعقاد لقاء كبير بين السيسي وقيادات عسكرية رفيعة مؤخرًا.. فما حقيقة هذا الاجتماع؟
فخ التزامنية
يوم الثلاثاء، الموافق الـ8 من مارس/آذار الحاليّ، وبالتزامن مع هذه التوترات المتعلقة بهذا الملف، قال المتحدث باسم رئاسة الجمهورية في مصر السفير بسام راضي، إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ترأس اجتماعًا موسعًا لقيادات القوات المسلحة بمقر الأمانة العامة لوزارة الدفاع، بحضور كل من وزير الدفاع الفريق محمد ذكي ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق محمد فريد.
وفور نشر هذا البيان، التقطت وسائل الإعلام هذا الخيط كي تربط بينه وبين المستجدات السلبية بخصوص ملف سد النهضة، معتمدةً في ذلك على إبراز إحدى العبارات الواردة في متن البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية، التي تقول إن الرئيس “أكد ضرورة الاستمرار في التحلي بأعلى درجات الحيطة والحذر والاستعداد القتالي، وصولًا إلى أعلى درجات الجاهزية لتنفيذ أي مهام توكل إليهم لحماية أمن مصر القومي”، للإيهام بأن الجيش بدأ يستعد للحرب المقبلة.
يشبه هذا التأويل المتعسِف ما حدث مؤخرًا أيضًا مع تصريحات الفريق محمد ذكي وزير الدفاع المصري، حينما قال: “القوات المسلحة على قلب رجل واحد” إبان أحداث سبتمبر، التي شهدت مطالبات من المقاول محمد علي إلى الجيش بالانحياز للشارع والقبض على السيسي، حيث فسر كثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي هذه التصريحات ساعتها كإشارة ضمنية على انحياز الجيش للمتظاهرين واستجابته لدعوة المقاول، بيد أن ما حدث في الواقع فعلًا، أن هذه التصريحات جرى اجتزاؤها إعلاميًا من سياقها، واستغلال تزامنها (Correlation) مع الأزمة، على طريقة الانحياز التأكيدي (Conformation Bias) للإيهام بعكس الحقيقة.
فالوزير الذي اعتقل الرئيس الأسبق محمد مرسي حينما كان قائدًا للحرس الجمهوري وشارك في أحداث مجلس الوزراء ضد المتظاهرين وقت أن كان قائدًا لقوات المظلات، كان قد عاد لتوه من رحلة خارجية إلى قبرص لبحث ترتيبات إطباق الحصار على تركيا في ضوء التحالف العسكري الرباعي المكون من مصر واليونان وقبرص و”إسرائيل” بمنطقة شرق المتوسط، وقد التقى عقب هذه الزيارة ببعض الوحدات العسكرية الخاصة من الصاعقة والمظلات والبحرية لتفقد جاهزيتها والتشديد على تلقينها رواية النِظام السياسي نحو الأحداث، مؤكدًا أن القوات المسلحة على قلب رجل واحد “خلف القيادة”، وأن الجيش “سيتصدى بكل حسم لكل من تسول له نفسه المساس بأمن واستقرار مصر”، هذا ما لم تقله هذه المنصات حينها.
إن كانت مصر تريد إرسال رسالة ردع إلى إثيوبيا، فلا يعني اقتراب الحرب بالضرورة
وبالمثل فقد تجاهل الإعلام، سواءً كان تابعًا للنظام مستفيدًا من الدعاية السياسية للدولة أم خصمًا للنظام مفتقدًا للمهنية التحريرية أم أهوج منتشيًا بحالة التصعيد على مواقع التواصل الاجتماعي، متن البيان الرسمي الصادر عن رئاسة الجمهورية بخصوص موضوع هذا الاجتماع الذي كانت خطوطه العريضة وكلماته المفتاحية، هي: “سيناء ومكافحة الإرهاب وحماية حدود الدولة والشرطة المدنية”، بينما كانت إشارته الوحيدة التي جرى إبرازها عن “الجاهزية لتنفيذ أي مهام توكل إليهم لحماية الأمن القومي”، مذيلةً بالمركب الإضافي: “في ظل التحديات الراهنة التي تموج بها المنطقة”، مما يعني أن الاجتماع، في حدود المعلن، لم يكن له علاقة بملف سد النهضة من الأساس.
وعلى الأرجح فإن هذا الاجتماع الذي ظهر فيه السيسي مبتسمًا على درجة عالية من الارتياح، يتعلق بعدد آخر من الملفات والمستجدات التي يمكن قراءتها من خلال بيان الاجتماع، مثل زيارة وزير الدفاع الأخيرة إلى باكستان وتصاعد وتيرة العمليات الإرهابية في شمال سيناء مؤخرًا بالتزامن مع الذكرى الثانية للعملية الشاملة “سيناء”، وبحث نتائج زيارة مدير المخابرات اللواء عباس كامل، إلى الثلاثي الشمال إفريقي، المغرب وتونس والجزائر، بغرض إحباط مساعي كل من تركيا وقطر فيما يخص النزاع في ليبيا.
وكما هو معلوم، فإن قرارات الحرب الإقليمية الواسعة على غرار ما يتمناه البعض ضد إثيوبيا لا تُتخذ على شاشات التليفزيون في حضور عدد كبير من “كاميرات” الإعلام ولا يتم التحذير منها مسبقًا إذا كانت النية قد عُقدت بالفعل لتنفيذها بنجاح، وإنما أقصى ما في الأمر، إذا صح “الافتراض” بأن الملف الإثيوبي كان حاضرًا على جدول أعمال الاجتماع من دون إشارةٍ مباشرة إليه في البيان المرفق، فإن مصر كانت تريد إرسال رسالةٍ “ردع” إلى إثيوبيا، لا تعني اقتراب الحرب بالضرورة، كما يقول أحمد الباز الباحث في العلوم السياسية وعضو هيئة التحرير بمركز “الإنذار المبكر” للتنبؤ بالأزمات.
الاتصال الأمريكي
ومن ضمن ما تجاهل الإعلام مضمونه أيضًا، نظرًا لتعارضه مع وجهة النظر القائلة بأن حربًا ما تلوح في الأفق، كان الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي حدث في نفس يوم اجتماع السيسي بالقيادات العسكرية.
يحدد الاتفاق الأخير قواعد واضحة لملء السد وتشغيله وسبل مواجهة سنوات الجفاف
بحسب نص بيان الرئاسة تعليقًا على هذه المكالمة الهاتفية، “فقد أعرب الرئيس الأمريكي عن تقديره لقيام مصر بالتوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق الذي أسفرت عنه جولات المفاوضات حول سد النهضة خلال الأشهر الماضية، باعتباره اتفاقًا شاملًا وعادلًا ومتوازنًا، مؤكدًا أن ذلك يدل على حسن النية وتوفر الإرادة السياسية الصادقة والبناءة لدى مصر، مؤكدًا استمرار الإدارة الأمريكية في بذل الجهود الدؤوبة والتنسيق مع مصر والسودان وأثيوبيا بشأن هذا الملف الحيوي، وصولًا إلى انتهاء الدول الثلاث من التوقيع على اتفاق سد النهضة”.
إذًا يقول هذا البيان بوضوح إن الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة في الرئيس ترامب الذي تجمعه علاقة ودية مع الرئيس السيسي، باتت منحازة إلى مصر في خلافها مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، خاصة بعد انسحاب أديس أبابا من المفاوضات متجاهلةً بذلك البلد المضيف والبنك الدولي، وهو ما يعني أن موقف مصر “السياسي” بات في أفضل حالاته منذ اندلاع هذه الأزمة، رغم مضي إثيوبيا في أعمال الإنشاءات على الأرض.
يحدد الاتفاق الأخير الذي وقعت عليه القاهرة وتتبناه واشنطن والبنك الدولي، بحسب تأكيدات الخارجية المصرية، قواعد واضحة لملء السد وتشغيله، وسبل مواجهة سنوات الجفاف وآلية فعالة متفق عليها لفض النزاع وتفاصيل تأمين جسم السد والاحتياطات البيئية، بما يضمن لإثيوبيا تشغيل السد وتوليد الكهرباء، ويحمي دولتي المصب من أي خطر “جسيم” في المياه، أو أي أخطار أخرى ناتجة عن بناء السد وتشغيله.. فلم تُقبل مصر على الحرب وقد تحسن موقفها التفاوضي إلى الحد الذي جعل الولايات المتحدة بنفسها تنوب عنها كما قالت أثيوبيا في معرض تبرير انسحابها من المفاوضات؟
الحل العسكري
لا شك أن الدولة المصرية تجهزت لجميع السيناريوهات، بما فيها الحل العسكري، فقد تضمنت الصفقات العسكرية الأخيرة اهتمامًا ملحوظًا بالحصول على عدد كافٍ من الطائرات التي تستطيع التحليق لمسافات طويلة، والقيام بأعمال الحرب الإلكترونية وإخماد الدفاعات الجوية المعادية، وأداء مهمات القصف الأرضي باستخدام حمولات ضخمة من الصواريخ والقنابل الذكية المضادة للتحصينات، مثل الطائرة الفرنسية “رافال” التي تعاقدت مصر عليها من فرنسا واستلمت بعضًا منها مؤخرًا.
كما لوح العميد ياسر وهبة، المتحدث غير الرسمي باسم القوات المسلحة والصديق المقرب من السيسي بالحل العسكري في عدد من المناسبات، كان أبرزها خلال مراسم افتتاح قاعدة “برنيس البحرية” المطلة على حدود مصر الجنوبية والقريبة من البحر الأحمر، التي تُشغِل تشكيلات متنوعة من المقاتلات، بحضور السيسي ولفيف من القيادات السياسية الخليجية.
سيتعين على السيسي انتظار وفاء واشنطن بوعدها في ممارسة أقصى ضغط سياسي ممكن على أديس أبابا
ولكن المؤكد أيضًا أن السيسي، بشكل شخصي، يتحفظ على الحل العسكري النهائي، اتساقًا مع ما صدره عن نفسه من تفضيل للحلول السلمية في الحياة بشكل عام، وفي هذا الملف بشكل خاص – إذ لا يزال كثيرٌ من المصريين يتهمونه بتضييع حقوق مصر المائية بالتوقيع على إعلان المبادئ الذي يعني اعترافًا رسميًا بحق إثيوبيا في بناء السد – واستقراءً لمواقفه السابقة المعارضة لـ”خشونة” الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، في هذا الملف، الذي اشتهرت عنه عبارة “إذا نقصت قطرةٌ من مياة النيل، فدماؤنا هي البديل”، معتبرًا هذا النهج ضارًا أكثر مما هو مفيد، وأبعد ما يكون عن الطرق الصحيحة غير الشعبوية في التدرج بإدارة الأزمات، ومحذرًا الإعلام من أتباعه.
كما أنه يعلم أيضًا، وهو الآمر الناهي في البلاد، حجم المشاكل والقلاقل السياسية والأمنية المتوقعة من صدور أي قرار يقضي باغتيال حلم الأمة الأثيوبية في التنمية والخروج من الفقر عبر تصدير الكهرباء المولدة من سد النهضة إلى الجيران، فهذا القرار الذي سيرفع أسهم السيسي في مصر إلى السماء، قد يؤدي إلى اشتعال الداخل الإثيوبي الهش، بما يؤثر سلبًا على الأمن والاستقرار في القارة بأكملها.
ومن أجل الموازنة بين الرغبة في حماية النهر الذي وهب مصر الحياة وتسجيل نفسه في دفاتر القادة العسكريين العظام والحصول على صك أبدي بحكم البلاد وتغريم إثيوبيا التي تتلاعب بالقاهرة ومخاوف المصريين منذ عشرة أعوام ثمنًا باهظًا، والإقرار بحق إثيوبيا في التنمية دون الإضرار بأشقائها في القارةِ وشركائها في النهرِ الكريم حمايةً لاستقرار الجميع واحترامًا للمسارات الدبلوماسية، سيتعين على السيسي انتظار وفاء واشنطن بوعدها في ممارسة أقصى ضغط سياسي ممكن على أديس أبابا، خلال الأربعة أشهر المقبلة، بغرض إجبارها على الالتزام بنتائج الجولات التفاوضية الأخيرة والموافقة على الاتفاق النهائي الذي وقعت عليه مصر، إذ لن يكون الانصياع إلى الغطرسة الإثيوبية خيارًا مقبولًا لمصر بعد هذا التوقيت.