لا زالت المخاوف من تحول فيروس كورونا الجديد إلى كارثة عالمية. تفتح كل الملفات المسكوت عنها، وتطال اتهاماتها كل شيء، وتصل إلى كل مكان في العالم بدايةً من الدول المجاورة للصين كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج، مرورًا بدول أوروبية وإفريقية، وصولًا إلى أقصى غرب العالم، في الولايات المتحدة وكندا وبعض دول أمريكا الجنوبية.
حتى أن العولمة بكل أشكالها وألوانها لم تسلم من تبعاتها وباتت في مرمى الاتهامات من جديد، ولكن في المقابل هناك أنصار يدافعون عنها، ويتمسكون بها، ويعتبرونها فرصة لإعادة الحسابات مرة آخرى.
لماذا نتهم العولمة دائمًا؟
في كل كارثة عالمية، ينظر العالم على الفور إلى العولمة، ويشير إليها بأصابع الاتهام، ويحجز لها الدور الأكبر في المسئولية، باعتبارها السبب الأول للتجمع الدولي، وزيادة تنقل سكان العالم.
تتهم العولمة وخاصة من خصومها، بكونها تلعب دورًا مركزيًا في تشكيل المشهد العالمي للأمراض المعدية، ببساطة لأن تباين القدرات بين الدول، لن يمنعها من الانفتاح والتعاون والتنافس بأساليب وآليات لا تناسبها، وبالتالي لن يكون لديها القدرة على مراقبة الأعداد المتزايدة باستمرار من الأشخاص المتنقلين، أو رصد مخاطر الأمراض المعدية، التي تنقلها الأغذية وعمليات التبادل الاقتصادي المتعلقة بالتجارة في جميع أنحاء العالم.
وكورونا الجديد ليس الوباء الأول الذي يفتح باب الانتقادات على العولمة، فقد كان هناك حمى الضنك التي اجتاحت جميع أنحاء العالم، وفيروس العوز المناعي البشري (HIV) في روسيا، والانتشار العالمي للسل المقاوم للأدوية (TB)، وغيرهم من الأمثلة، ولهذا يرفض مناهضو العولمة أي جدال أو رهانات مستقبلية على تحسن الاقتصاد العالمي، والظروف الاقتصادية للدول.
في هذه المنطقة من الجدل، توجد العديد من الحجج المنطقية،؛ فالبلدان الفقيرة لازلت كما هي، والعنف في تزايد، وما زالت نفس الأمراض قائمة، والسوق الحر لم يفلح في انتشال غير المؤهلين فكريًا وتعليميًا وثقافيًا للفكرة، بل على العكس، ساهم في تشريد أعداد أكبر من الناس، بحثًا عن عمل يحسن من نوعية الحياة.
في أعتى البلدان الديمقراطية، والتي تملك البنية التحتية المتطورة للصحة العامة، أثبتت التجربة أنها لاتستطيع تلبية احتياجات الرعاية الصحية للسكان المتنقلين قبل وصولهم وبعده، ولهذا كان ملف اللاجئين، والخوف من الأمراض والأوبئة، من أهم الأسس التي تبني عليها الحكومات الشعبوية الأوروبية مواقفها الرافضة لكل مصادر التهديد لها، في وقت لاتزال فيه تحاسب باقي بلدان العالم وخاصة النامية على عدم اتباع شروط عولمتها القاسية، رغم معرفتها بأنها بحكم مواردها وموقعها الحالي من الحضارة المادية لن تكون هذه الدول إلا حصالة لمن يملك المقومات الكاملة للمنافسة بكل أدواتها.
إشكاليات العولمة في ملف الأمراض والأوبئة، التي تحولت إلى ظواهر عالمية، ناقشتها دراسة حديثة نشرت بمجلة “Science Advances”، واختبرت سلالة مرض السل، وهو الأكثر شيوعًا على مر الزمن، ووجدت أنه بدأ في أوروبا عام ألف بعد الميلاد، قبل الانتشار إلى الخارج، كما تتبعت أيضًا انتشار السلالات المقاومة منه للمضادات الحيوية، وكشفت أن الولايات المتحدة نفسها كان لديها فجوة خطيرة في انتشار السل بين سكانها، المولودين في أمريكا عن المولودين خارجها، وفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها .
في إفريقيا، انتقلت الأمراض المعدية من جمهورية الكونغو إلى البلدان المجاورة، أوغندا وملاوي وجنوب إفريقيا، ليس فقط بسبب النزاعات المسلحة، والهجرة الجماعية منها، ولكن أيضًا بسبب الأغذية والمنتجات المتصلة بأنظمة التجارة العالمية.
ورغم ادعاء البعض أن الأمراض المحلية الناتجة عن تردي الاشتراطات الصحية وخاصة في البلدان الفقيرة أخطر بكثير من الوافدة إليها، إلا أن الكثير من التجارب الدولية تنفي هذا الادعاء وخاصة إذا مانظرنا إلا وباء “السيكلوسبريا” الذي اجتاح أمريكا الشمالية في نهاية التسعينات، بسبب “توت ملوث” مستورد من جواتيمالا.
تكررت المأساة في أمريكا قبل عامين، بسبب الخس المستورد، وعاد نفس المرض ليجتاج سلسلة مطاعم ماكدونالدز الشهيرة، لدرجة أن إدارة الصحة العامة في ولايتي أيوا وإيلينوي الأمريكيتين، رصدت ما يقرب من إصابة 100 حالة إصابة بعدوى السيكلوسبورا بسبب تناول سلطة المطاعم العالمية، وعلى الفور لجأت الشركة إلى وقف بيع السلطات في نحو 3000 فرع بالولايات المتحدة لتهدئة الرأي العام، وللمساهمة في محاصرة المرض، لحين الاعتماد على مزود آخر للخس.
الذكريات المريرة للعالم في الأوبئة، والتي قتلت الملايين على مدار التاريخ، يطرحها للواجهة من جديد تزايد معدلات الإصابة بفيروس كورونا بين الدول، ومن المتوقع حال إعلانه وباء عالميًا أن يضرب الاستقرار العالمي ويكبد العالم خسائر بشرية كبيرة، وتحميل الاقتصاد العالمي بأعباء ثقيلة قد يحتاج سنوات لاحصر لها لتعويضها.
وهنا تكمن مشكلة العولمة، فرغم الساحة العالمية التي أوجدتها، والفرص والنمو الاقتصادي الذي تبع ذلك، إلا أن الفوائد لا يتم توزيعها بالتساوي، وفي المقابل تتعاظم المخاطر على البلدان الأضعف، وخاصة المخاطر الصحية.
لماذا الخوف الكبير من العولمة؟
في مقابل الرأي المناهض للعولمة، تجادل التيارات الليبرالية والمخلصة للسوق الحر والعولمة والانفتاح الاقتصادي، وترى أن العولمة مجني عليها، باعتبارها ظاهرة ليست جديدة على العالم، بل يعود السوق الحر والتجارة العالمية عبر القارات وحركة الأشخاص إلى ما لا يقل عن 2000 عام، حيث عصر طريق الحرير القديم، والعصر الروماني، وطرق التجارة العالمية من أوروبا إلى آسيا وأمريكا الشمالية.
تعتبر الليبرالية أن العولمة الحالية، ليست أكثر من نظام حديث يكثف التجربة التاريخية للتعاون بين البشر، بل أن العولمة نفسها هي السبب الرئيسي للتعاون العالمي للقضاء على الفيروسات والأوبئة، فهنا كل دولة تخدم قيمة إنسانية أكبر منها، عندما تشترك مع العالم في نموذج أكبر، يتيح لمن يريد التفوق أن يتدرب ويتعلم ويبتكر، وتتاح له فرصة الشراكة متعددة الجنسيات، ومع المؤسسات المالية العالمية، وبالتالي من يريد مبارحة العالم النامي، ستكون الفرصة أمامه سانحة لذلك، بشرط فهم ما الذي تفرضه عليه مسؤوليات التعاون من جهد مستمر والتطور للأفضل دائمًا، وإلا ما معنى المنافسة!
يدافع مؤيدو العولمة عن إيجابياتها التي خلقت مراقبة عالمية للامراض والأوبئة، وخلقت برامج مشتركة للتدريب على الصحة العامة، وفق العناصر الرئيسية للصحة العامة والقانون الدولي، كما طورت العولمة مفاهيم عدة لفهم ودراسة الأمراض المعدية الناشئة، وتشير بالبنان إلى الدور الحاسم للعالم أجمع في مواجهة وباء فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز).. فالعالم الجديد لامكان فيه أن تبقى وحيدًا، أو تحاول الانفصال عنه.
يقترح أنصار العولمة تطوير تعاون طويل الأجل، وتطوير الشراكات بين القطاعين العام والخاص بين الدول والمنظمات الإقليمية وغير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات، وإيجاد صيغ مرضية لمفاهيم المنافع العامة، خاصة فيما يتعلق بتطوير المنتجات ونشر المعرفة، فالعالم ليس في حاجة للتقوقع والإنغلاق على الذات، طالما كان بإمكانه تطوير التفكير العالمي، والاستناد إلى أسس أكثر عقلانية مكافحة الأمراض المعدية، والثقة في العلم وليس الحدود السياسية، وإنشاء المزيد من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وتحديد مهمتها في سياق أكثر عالمية من خلال اتباع نهج عالمي للأمراض المعدية.
يرفض أنصار العولمة العودة لفترة ما قبل التاريخ، حيث كان سكان العالم أقل، والأمراض تنتهي بنفسها بعد أن تبيد ما تريد من الأعداد، ولكن بعد تزايد أعداد البشر على هذا النحو، وتغير بنية المجتمع وتسارع حركة الأشخاص، ازدادت الأوبئة ومع منتجات الحداثة التي يستهلكها الجميع، أصبح هناك الكثير من مسببات الأمراض، التي تظهر حتمًا مع نمو المراكز الحضرية والثورة الرقمية، مما يعني تزايد الامراض وتهديداتها بالتبعية، الأمر الذي يستلزم جهود عالمية لمواجهتها.
في عالم اليوم متعدد الأقطاب، لن يكون سهلا التقوقع، بل سيكون الدور الأكبر للحكومات القوية الفاعلة
يراهن هؤلاء على الثورة الصناعية الرابعة التي توفر أدوات جديدة وقوية لمحاربة الأوبئة، من حيث المعرفة العلمية والبيولوجية التي تزيد من فهم العالم لمسببات الأمراض، ويشير البعض إلى تحالف CEPI الذي تم إنشاءه لمواجهة التهديد العالمي للأوبئة من خلال العمل الجماعي، فأي نظام آخر يمكنه فعل ذلك؟ يسأل أنصار العولمة.
في عالم اليوم متعدد الأقطاب، لن يكون سهلًا التقوقع، بل سيكون الدور الأكبر للحكومات القوية الفاعلة، إجراء المزيد من التحالفات مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص، للعمل سويًا من أجل الاستعداد للتهديد العالمي للأوبئة، والذي تشير تقديرات أجراها المكتب الوطني الأمريكي للأبحاث الاقتصادية في عام 2016 إلى أن التأثير السنوي المتوقع للوباء سيتجاوز 700 ألف حالة وفاة، وخسائر اقتصادية تبلغ حوالي 500 مليار دولار، وبالتالي هناك حاجة للاستثمار في الاستعداد للوباء، لا إدارة الوجه وغلق الحدود السياسية والجغرافية، كما تفعل الدول حاليًا بدلا من إيجاد طريقة للحل هذه الأزمة أو الوقاية منها على أقل تقدير.