رفض العديد من الفرنسيين جرائم بلادهم البشعة والمنافية للإنسانية في حق شعوب الدول المحتلة، ووقفوا في وجه دولتهم الاستعمارية إلى جانب تلك الشعوب المنتهك كرامتها، مضحين بحياتهم من أجل القضايا العادلة.
موريس أودان أحد هؤلاء الفرنسيين الذين ناضلوا ضد الاستعمار الفرنسي وانضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قادت المقاومة ضد الاحتلال، وضحى بحياته لأجل القضية الجزائرية.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست ضمن ملف “فرنسيون ضد الاستعمار“، سنتطرق لحياة هذا الأستاذ الفرنسي الذي أصبح رمزًا عالميًا لضحايا التعذيب خلال الثورة الجزائرية.
نشأة عسكرية
في الـ14 من فبراير/شباط 1932، ازدان فراش عائلة لويس أودان (1900-1977)، بمولود جديد اختار له اسم “موريس أودان“، مولود سيكون له شأن كبير في المستقبل، وسيبقى اسمه محفورًا في مخيلة أحرار العالم المناهضين للقوى الاستعمارية.
في وقت مولد موريس، كان والده – الذي ينتمي إلى أسرة متواضعة في ليون الفرنسية – يرأس لواء الدرك في المحمية الفرنسية بمدينة باجة غرب تونس، ليتم إرسال لويس أودان فيما بعد إلى فرنسا الكبرى، ثم لاحقًا إلى الجزائر التي كانت تستعمرها بلاده منذ أكثر من قرن.
في أثناء وجوده بالجزائر تأثر الشاب الفرنسي موريس أودان تأثرا بالغا بثورة الجزائر وتضحيات شعبها في سبيل استقلال بلاده
كون والده يعمل في الجيش الفرنسي، انضم موريس أودان باكرا إلى جيش بلاده، وفي سنة 1943، التحق أودان بالسنة الخامسة من المدرسة العسكرية الإعدادية بحمام ريغة الواقعة في محافظة عين الدفلى غرب العاصمة الجزائر.
عام 1946، تم قبوله في مدرسة أوتون سون ولوار التابعة لوزارة الدفاع الفرنسية، درس هناك سنتين حتى 1948، إلا أنه قرر التخلي عن عمله كضابط في الجيش الفرنسي وقرر العودة إلى الجزائر العاصمة لدراسة الرياضيات في معهد غوتييه.
تابع دراسته الجامعية في جامعة الجزائر، وفي شهر يونيو/حزيران 1953 حصل موريس أودان على الإجازة الجامعية في الرياضيات، ليتم تعيينه بعد ذلك في منصب مساعد أستاذ، وهو المنصب الذي عمله فيه لمدة سنة واحدة فقط.
التأثر بالثورة الجزائرية
في أثناء وجوده بالجزائر وتدريسه في جامعتها، تأثر الشاب الفرنسي موريس أودان تأثرًا بالغًا بثورة الجزائر وتضحيات شعبها في سبيل استقلال بلاده وخروج المستعمر الفرنسي الذي طال أمد بقائه فوق هذه الأرض الطيب أهلها.
كان موريس أودان يظن أن بلاده فرنسا رمزًا للحرية والمساواة والعدالة وهي الحافظ لهذه المبادئ والساهرة على نشرها بين الأمم، لكنه عاين عكس ذلك، واكتشف في أثناء وجوده بالجزائر زيف هذه الادعاءات الفرنسية.
عاين أودان همجية الاحتلال الفرنسي وجرائمه البشعة في حق الجزائريين المطالبين باستقلال بلادهم، وكان شاهد عيان على العديد من الجرائم المنافية للإنسانية هناك، ما جعله يعيد التفكير في جيش بلاده وموقفه منه، ليخلص في النهاية إلى ضرورة محاربته ومساعدة الجزائريين لنيل حقوقهم المنهوبة قسرًا.
انضم موريس أودان إلى الحزب الشيوعي الجزائري سنة 1951، إلى جانب العديد من الأوروبيين، هناك التقى رفيقة دربه جوزيت ليقررا الزواج، وكان كلاهما قد انضم للحزب الشيوعي الجزائري عام 1951، بعد أن كانا عضوين في خلية “لانجفين” التابعة لاتحاد طلاب الشيوعيين الجزائريين، خلال الدراسة الجامعية.
كان أودان كثير التردد على رابطة الطلاب المسلمين، هناك ازداد حبه للجزائريين، وإيمانه بعدالة القضية الجزائرية وحق الشعب في تقرير مصيره دون وصاية من أحد، فبالنسبة له أصبح استقلال الجزائر أمرًا مسلمًا لا رجوع فيه.
مناهضة الاستعمار الفرنسي
أصبح موريس أودان جزءًا من الأقلية الفرنسية المناهضة للاستعمار في الجزائر، فقد ناهض الفكر الاستعماري وعمليات الجيش المحتل في الجزائر ضد أصحاب الأرض وسكان البلاد الأصليين، خاصة في أثناء معركة الجزائر 1957.
لم يكن نضال “أودان” عسكريًا مثل بعض مناضلي الحزب الشيوعي في منظمة “مقاتلون من أجل التحرير”، بل كان نضالًا سياسيًا سلميًا، فقد كرس حياته للدفاع عن الجزائر ومساندة شعبها في وجه المستعمر الفرنسي الغاشم.
في بداية الحرب الجزائرية، لجأ موريس أودان إلى فرنسا، هناك ساعد الكثير من المناضلين الجزائريين ودعم الثورة، ففي سبتمبر 1956، نظم أودان مع شقيقته شارلي وشقيق زوجته كريستيان بونو عملية نوعية، حيث أشرفا على عملية تسلل سري إلى الخارج للأمين العام الأول للحزب الشيوعي الجزائري العربي بوهالي.
خلال التحقيق مع موريس استعملت أساليب ووسائل مريعة للتعذيب منها الصعق بالكهرباء واستخدام ما سمي وقتها “مصل الحقيقة”، لكن دون جدوى
عاد بعد ذلك إلى الجزائر، هناك استقبل في مارس/آذار 1957 زعيمًا شيوعيًا آخر وهو بول كاباليرو، أحد أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي، حين قدم إلى الجزائر لتلقي العلاج من الطبيب المغاربي جورج حجاج، أحد أعضاء الحزب الشيوعي الجزائري.
خلال وجوده في الجزائر، أمن السكن للعديد من المناضلين وسهر على إيواء عدد كبير منهم إما للعلاج أو للهرب من الجنود الفرنسيين الذين يلاحقون الثوار للنيل منهم وإخماد ثورة التحرير الجزائرية التي ندلعت في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
الاختفاء في ظروف غامضة
تنامي أعمال موريس أودان المساندة للثورة الجزائرية، جعله ملاحقًا هو أيضًا من الاحتلال الفرنسي، بتهمة إيواء أعضاء ناشطين في “الحزب الشيوعي الجزائري”، الأمر الذي جعله يتوارى عن الأنظار قليلًا، إلا أن بطش المحتل لحقه.
في الـ11 من يونيو/حزيران 1957، اقتحمت فرقة من المظليين التابعة للجيش الفرنسي منزل موريس أودان بحي ساحة أول مايو في قلب الجزائر العاصمة واقتادته بالقوة إلى مبنى مهجور في حي الأبيار بأعالي المدينة، ولم يعد بعد ذلك فقد اختفى نهائيًا.
تزامن القبض على أودان، مع إطلاق السلطات الفرنسية عملية عسكرية بقيادة الفرقة العاشرة مظلات في الجيش الفرنسي في مدينة الجزائر العاصمة ضد مقاتلي “جبهة التحرير الوطني”، للقضاء عليهم بعد أن تكبد المستعمر الفرنسي خسائر بشرية كبيرة في صفوفه.
في هذه المعركة كلف القائد الجنرال جاك ماسو كلًا من العميد روجيه ترانكييه والقومندان بول أوساريس بقيادة الهجوم المضاد، هجوم أشرف فيه أوساريس على “التحقيقات المعززة” وهو مصطلح يعني في لغة اليوم “التعذيب”.
تم القبض على موريس أودان والتحقيق معه للتعرف على شبكات المقاتلين الجزائريين، باعتباره أحد أعضاء “الطابور الخامس” الذي يضرب الجيش الفرنسي في ظهره منذ وقت طويل ويجب القضاء عليهم دفعة واحدة وللأبد، وفق السلطات الفرنسية.
كان الجيش الفرنسي يمني نفسه حينها بأن التحقيق مع موريس سيفضي في النهاية إلى اعتراف هذا الأخير بأسماء مناضلين في الحزب الشيوعي الجزائري، خاصة الذين كانوا ينفذون عمليات عسكرية ضد الجيش الفرنسي المحتل.
في أثناء التحقيق معه استعملت أساليب ووسائل مريعة للتعذيب منها الصعق بالكهرباء واستخدام ما سمي وقتها “مصل الحقيقة”، لكن دون جدوى، وبعد عشرة أيام على خطفه، تلقت زوجته جوزيت مكالمة هاتفية من الجيش الفرنسي مفادها أن زوجها فر من قبضة الجيش في أثناء تحويله إلى مكان آخر.
الاعتراف بموت موريس تحت التعذيب
طوال سنوات عديدة لم يتزحزح الجيش الاحتلال الفرنسي قيد أنملة عن روايته الأصلية، رغم كل الدعاوى القضائية التي رفعتها جوزيت أودان أمام المحاكم الفرنسية آملة بالوصول إلى الحقيقة وراء اختفاء زوجها.
دعوات قضائية عديدة رفعت بين 1957 و2002 من زوجة موريس أودان أمام محاكم فرنسية من أجل كشف حقيقة مقتل زوجها، لكن باءت كلها بالفشل، في 2007، دعت جوزيت أودان في رسالة الرئيس الفرنسي الجديد آنذاك نيكولا ساركوزي إلى التحقيق في ملف مقتل زوجها وطلبت منه أن تعترف فرنسا بمسؤوليتها في ذلك، لكن ساركوزي رفض الاستجابة لهذا الطلب.
سنة 2013، ينشر الكاتب جان شارل دينيو في كتاب “حقيقة موت موريس أودان”، اعترافات للجنرال بول أوساريس، عن حقيقة وفاة المناضل موريس أودان، في هذا الكتاب كشف شارل دينيو كيف اعترف له أوساريس، بما سماه “جريمة دولة” قائلًا: “لا، موريس أودان لم يتبخر هكذا من الطبيعة بعد هروبه في يونيو 1957 لكنه أعدم بقبول ورضا تامين من السلطات السياسية”.
في شهر سبتمبر/أيلول 2018، بعد عقود عدة من الانتظار، جاء الاعتراف وتجرأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على قول ما لم يقله سابقوه في قصر الإليزيه، فقد أقر الرئيس الشاب بأن بلاده، أقامت خلال حرب الجزائر نظامًا استخدم فيه التعذيب وأدى خصوصًا إلى وفاة المعارض الشيوعي موريس أودان.
أقر ماكرون بأن أودان “توفي تحت التعذيب الذي نشأ عن نظام وُجد عندما كانت الجزائر جزءًا من فرنسا”، وأكد الرئيس أنه “على الرغم من أن مقتل موريس أودان كان فعلًا منفردًا قام به البعض، إلا أن ذلك وقع في إطار نظام قانوني وشرعي”.
هذا الاعتراف الفرنسي، جاء بعد مرور 61 سنة على وقوع حادثة اختفاء موريس أودان، لكن إلى الآن يجهل مكان دفنه، ما يجعل الحقيقة ناقصة، وفي انتظار استكمالها يبقى أودان أحد رموز ثورة التحرير الجزائرية، وأحد أبرز الفرنسيين الذين تخلوا عن فرنسيتهم وارتدوا عباءة الإنسانية.