رسم تغير الواقع الميداني والسياسي والاجتماعي الذي مرت به الثورة السورية خريطة جديدة للربيع السوري، فأصبح التراجع العسكري أمرًا واقعًا وخاصة بعد استجلاب الأسد لكثير من الاحتلالات، مما أدى لخسارة العديد من المناطق الجغرافية والتي كانت تتحصن فيها قوات المعارضة وكانت تعتبر من حواضن الثورة في البلاد.
خسارة تلك المناطق أدت إلى تراجع في الأداء السياسي والاقتصادي وحتى الفكري والثقافي لجمهور الثورة وروادها، لتصل اليوم وعلى أعتاب دخولها في عقدها الثاني، وقد انكفأت بقعتها الجغرافية إلى منطقة محدودة يدور حولها صراع عالمي، إلا أن الثورة لم تكن في يوم من الأيام هي سيطرة على الأرض وإن كان ذلك مهمًا، إنما الحفاظ على الفكرة وإدارة التعامل مع تطوراتها الميدانية ليس عسكريًا وحسب، وإنما ثقافياً وحقوقيًا وإنسانيًا.
ولما كانت فكرة العودة إلى الوراء والقبول بحكم بشار الأسد ونظامه مرفوضةً لدى ملايين السوريين، كان لزامًا رسم خطوط جديدة للتعامل مع الفترة المقبلة، وطرح أدوات جديدة يمكن من خلالها إدارة المرحلة بما يسفر عن خنق نظام الأسد ومواصلة الضغط عليه وإنهائه إن أمكن، ولعل من تلك الأدوات هي المقاطعة على كافة الأصعدة الاقتصادية منها والفنية والفكرية والسياسية.
لطالما مثلت فكرة المقاطعة هاجسًا لدى العديد من الأنظمة الاستبدادية كتلك التي يعاني منها الاحتلال الصهيوني، والتي تقودها “حركة مقاطعة إسرائيل“، وهذه الحركة أتت بعد فشل المجتمع الدولي في وقف انتهاكات الكيان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، لتنطلق نداءات المؤسسة في عام 2005 لتدعو الشعوب الحرة حول العالم إلى مقاطعة دولة الاحتلال، معتبرةً أن المقاطعة شكل من أشكال المقاومة السلمية التي تساهم في تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني والتضامن معه، مما جعل تل أبيب تحذر من أن الحركة يمكن أن تشكل “خطرًا استراتيجيًا” عليها مستقبلاً.
تبرز أهمية تفعيل خيار المقاطعة النهائية مع النظام وأزلامه وشركاته بالمساعدة في خنق النظام وزيادة عزلته الاقتصادية والاجتماعية
حظيت “حركة مقاطعة إسرائيل” بدعم العديد من المؤسسات والأحزاب حول العالم، كما أيدتها العديد من الشخصيات المؤثرة، ونتيجةً لهذه المجهودات، أصبح نشاطها يتصاعد بشكل ملموس ومؤثر على سمعة الكيان الصهيوني حول العالم، كما أنها زادت من التعريف بالقضية الفلسطينية، ونجحت بصورة باهرة في إفشال مئات الفعاليات داخل دولة الاحتلال كان مقررًا لجهات وشخصيات عالمية المشاركة فيها.
ربما تكون الحركة الفلسطينية هي الأقرب إلى سوريا، وكونها نموذج رائد وناجح في هذا المجال يمكن أن تُستلهم الفكرة لبحث آليات التنفيذ في سوريا أو تطويرها، وفي هذا التقرير نبحث عن جدوى مقاطعة النظام السوري وإلى أي حد يمكن أن تضرّ به.
قانون قيصر.. أول النجاحات
إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي، منتصف ديسمبر المنصرم، لقانون قيصير، كان أول نجاحات جهود السوريين في مجال فرض مقاطعة على نطاق دولي على نظام الأسد.
بحسب تحليل لوكالة الأناضول، فإن القانون يشكل فرصة ذهبية لقوى المعارضة السورية، لجهة صد اندفاعات بعض الدول والأطراف نحو بناء علاقات مع النظام، كما أنَّه عزز من الضغوط المفروضة على النظام. ويفرض قانون قيصر عقوبات اقتصادية، على أركان نظام بشار الأسد، وداعميه الإيرانيين والروس، وكل شخص أو جهة، أو دولة تتعامل معه، وتعتبر هذه العقوبات حال تطبيقها، الحد الأعلى ما دون التدخل العسكري المباشر، التي يمكن أن يتعرض لها نظام الأسد، ويضع روسيا وإيران وجها لوجه أمام العقوبات الأميركية، خصوصا وأنه يصاحب حملة ضغط شديدة الوتيرة ضد إيران.
وعند تفعيل القانون، ستكون جل المؤسسات الروسية عرضة للعقوبات، ابتداء من الجيش الروسي وقيادته وصولاً إلى منتجي الأسلحة ورجال الأعمال والمقاولين العسكريين الخاصين وصناعة الطاقة.
مبادرات صغيرة
شعبيًا.. حصلت بعض حركات المقاطعة غير المنظمة في السنوات الماضية، واستهدفت النظام بشكل عام، وغالبًا ما تكون هذه الحملات إما مبادرات فردية أو عدة أشخاص يعملون على دعوة لمقاطعة منتج ما أو نشاط ثقافي أو فكري أو ربما رياضي، أو محلات تجارية يكون أصحابها إما موالون للنظام أو داعمين له، وهنا نتحدث عن محاولات خارج سوريا.
في الفترة الأخيرة وأثناء عمليات النظام في إدلب وريفها وريف حلب وخلال استيلاء النظام على بعض المناطق الغربية لمدينة حلب، نشر أحد المحلات التجارية السورية ومقرها في مدينة غازي عنتاب التركيّة كلامًا يؤيد في نظام الأسد وعملياته العسكرية ويباركها، فما كان من الصحفي والناشط السوري أحمد بريمو إلا أن أطلق حملةً لمقاطعة المتجر، لاقت دعوته صدىً واسعًا بين ناشطي الثورة ومؤييدها في المدينة، ويقول بريمو لـ “نون بوست”، “إن حملة المقاطعة الشعبية لهذا المحل التجاري من الممكن أن تجعل صاحبه يغلق المتجر”.
إذًا المقاطعة على الصعيد التجاري وخاصة في دولة مثل تركيا منهكة جدًا وتقطع بابًا كبيرًا من أبواب التي يمتلكها النظام للترويج له أو لدعمه حتى، خاصة أن هذا البلد يتواجد فيه أكثر من 3 ملايين سوري، والأعمال التجارية الخاصة بهم في تصاعد، وتذكر الأرقام أن الشركات السورية المرخصة المتواجدة في تركيا يفوق الـ 10000 شركة، ويشير الصحفي بريمو: “نحن الموجودين في تركيا نُعتبر من الأشخاص الذين هُجروا قسريُا من قبل نظام الأسد فالبتالي السلاح الوحيد الموجود في يدنا هو مقاطعة كل مؤيد للنظام أو داعم له بكاف المجالات”.
لم تقتصر حملات المقاطعة على الأماكن التجارية بل تعدتها للفنية، حيث شهدت السنوات الأخيرة في بلدان لجوء السوريين حركات مقاطعة لحفلات يحييها فنانون مؤيدون لنظام الأسد ويهتفون له، فمثلًا نجح لاجئون سوريون في ألمانيا بإلغاء حفل للفنان الموالي لقوات الأسد والمدافع عنه علي الديك، وذلك بعد تجمهرهم أمام القاعة المخصصة للحفل ومحاصرتها، وعند كل حفل فني يقيمه شخص موالٍ للأسد تكثر دعوات المقاطعة لهذه الفعاليات.
ووصلت حملات المقاطعة إلى علم النظام السوري، حيث تدور دائمًا دعوات لإلغاء وجود هذا العلم واستبداله بعلم الثورة السورية، من قبل طلاب الجامعات أو الناشطين في العديد من الدول.
فعلى سبيل المثال استطاع طلاب جامعة غازي عنتاب في تركيا من وضع علم ثورتهم محل علم النظام السوري بعد إقناعهم لإدارة الجامعة باستبداله، وفي تركيا أيضًا أجبر طالبٌ سوري أحد المطاعم في مدينة اسطنبول على إزالة علم النظام واستبداله بعلم الثورة وذلك بعد إطلاق هذا الطالب حملة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد المطعم، الأمر الذي جعل صاحب المطعم يستجيب لهذه الحملة.
وإلى الداخل السوري في الشمال المحرر والذي تسيطر عليه فصائل المعارضة، يتحدث كثيرون عن ضرورة مقاطعة بعض الأوراق النقدية السورية لفئة وخاصة فئة الـ 2000 ليرة سوريّة التي تحمل صورة رأس النظام السوريّ “بشار الأسد” وهي من أحدث إصدارات العملة الورقيّة السوريّة، يليها مقاطعة حقيقيّة من قبل المؤسسات الرسميّة والمجالس المحليّة التابعة للمعارضة السورية، وبالفعل بدأ الكثير من الناس بتلك المناطق بالتعامل إما بالدولار أو بالليرة التركية، وعلى الرغم من أن هذه المقاطعة أتت متأخرة إلا أنها أضرت بالنظام بشكل فعلي كون الشمال السوري يضم أكثر من 4 مليون شخص، وإيقاف التعامل بعملته بين هذا الكم من الناس يسبب كارثة لاقتصاده.
تجريم الأسدية
يجلس اللاجئون السوريون في دول لا تعتبر التطبيع من النظام الأسدي جريمة بل ضرب من ضروب حرية التعبير، لذلك وبحسب الصحفي بريمو فإن الحل يكمن في ما “يمكن أن نفعله نحن كمتضررين من النظام وهو مقاطعة كل من يمت بصلة لبشار الأسد ومؤيديه على كافة الأصعدة”، ويضيف بريمو: “خيار المقاطعة هو سلاح مجدي وفعال بالنسبة للاجئين والمهاجرين، فمقاطعة هذا النظام تدفع المواليين له بالتراجع وإخفاء مواقفهم أو في حال إصراراهم على هذا الأمر فإنهم سينسحبون إلى أماكن أخرى”.
يرى بريمو أن هذا السبيل في المقاطعة قد لا يكون له “أثر حقيقي على المستهدفين إنما تكون موقف أثبتت فيه المقاومة الناعمة أو السلمية”، مضيفًا نحن اليوم ليس لدينا “القدرة على المواجهة المباشرة مع النظام ولكن لدينا القدرة على تسجيل مواقف كبيرة في سبيل المضي بالثورة”.
من جهتها ترى لينا الشامي الناشطة السورية المعروفة أنه يجب مقاطعة المواليين للأسد والمؤيدين له، وفي تغريدة لها على تويتر ردًا على تخصيص تركيا رقمًا للتبليغ عن مؤيدي الأسد على أراضيها تقول الشامي “الأسدية جرم، وليست وجهة نظر، كما النازية، يجب أن يتحول تجريم الأسدية ومن يدعمها إلى قانون في كل مكان من هذا العالم”.
هذه النماذج الفردية التي أحدثت صدىً واسعًا تكشف أن للمقاطعة أهميةٌ كبيرة في مسيرة كفاح الشعب السوري لنيل حريته وإزالة نظام الأسد، ولعلها تبرز كسلاح فعال يلجأ إليه سوريو الخارج والعمل الدؤوب لإنهاء حكم آل الأسد، لكن المؤسسات السورية والأجسام السياسية للمعارضة في دول اللجوء لم تتبنَ إلى الآن طريقةً واضحة في التعامل مع النظام، وهذه الأعمال تحتاج إلى مأسسة وتنظيم كي تكون ذات جدوى وفاعلية، كما رأينا في استهلالنا للمادة بمثال حركة المقاطعة الفلسطينية، فالجميع ينتظر تلك الحاضنة التي تنظم جهودهم وتنقلهم من العمل الفردي إلى الجماعي المنظم ويصبح التركيز أكبر والتحشيد أضعاف مضاعفة ما يثمر النتائج المرجوة.