مارس النظام المصري الحالي على مدار السنوات الست الماضية كافة أشكال التضييق على الحريات الإعلامية بشتى أنواعها، في محاولة لترسيخ أركانه، حيث انقض على مكتسبات ثورة 25 يناير التي كان على رأسها حرية التعبير والنقاش العام والمساءلة السياسية.
ورغم كل ما تم ممارسته خلال السنوات المنقضية يبدو أنها لم تكن كافية لضمان استقرار النظام، فكلما تصاعد الاهتمام بالشأن العام، عاد نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ليضرب بقوة مستهدفًا حرية التعبير والرأي، وكل الفئات التي تستخدم هذا المبدأ في النقاشات العامة مثل الصحفيين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وأساتذة الجامعات والنشطاء السياسيين.
في تقرير حديث لـ “مؤسسة حرية الفكر والتعبير” الحقوقية (مستقلة معنية بالحريات الإعلامية) تناول الإجراءات التي اتبعتها السلطات المصرية خلال العام الماضي (2019)، من أجل بسط هيمنتها على المشهد الإعلامي، والتي كان على رأسها إصدار تشريعات تنتهك حرية الإعلام والحقوق الرقمية، بشكل غير مسبوق.
ألمحت المؤسسة الحقوقية إلى علاقة طردية قائمة بين الاهتمام بالسياسة وانتهاك حريات الرأي والتعبير، حيث تجسدت تلك العلاقة في حدثين على مدار العام، الأول هو التعديلات الدستورية التي كان الهدف الرئيسي منها منح السيسي صلاحية البقاء في منصبه حتى عام ٢٠٣٠، أما الثاني فتمثل في الدعوة لتظاهرات العشرين من سبتمبر/أيلول الماضي، وفي كلا الحدثين كان الهدف الأساسي إسكات الأصوات الناقدة، كما يُظهر التقرير.
حرية الإعلام
شهدت الساحة الإعلامية العام المنقضي استمرار الحكومة المصرية في انتهاج السياسات والممارسات المعادية لحرية الصحافة والإعلام، على كافة المستويات، إذ أصدر المجلس الأعلى للإعلام في 18 مارس/آذار 2019، القرار رقم (16) لسنة 2019، بشأن إصدار لائحة الغرامات والتدابير التي يجوز توقيعها على الجهات الخاضعة لأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018. ويُعمل بأحكام هذه اللائحة في شأن المخالفات التي تقع من الوسائل والمؤسسات الصحفية والإعلامية الخاصة والمملوكة للدولة، سواء كانت مطبوعة، مرئية أم رقمية، بحسب نص المادة الأولى من اللائحة.
وجاءات الجزاءات التي تضمنتها اللائحة مجحفة بحق الصحفيين، إذ بلغت توقيع غرامة مالية تصل في إحدى الحالات إلى 5 ملايين جنيه وتتراوح بين 50 ألف و250 ألف جنيه في أغلب الحالات، كما يحق للمجلس حجب المواد الصحفية أو الوسيلة بحد ذاتها بشكل مؤقت أو دائم، بالإضافة إلى سلطة المجلس الأعلى في إلغاء ترخيص الوسيلة الصحفية أو الإعلامية بشكل نهائي.
أما على مستوى ملكية وسائل الإعلام، فقد واصل النظام احتكاره لمعظم النوافذ الإعلامية،، حيث تمكنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المالكة لمجموعة إعلام المصريين ( المدعومة من المخابرات العامة) من إتمام عدد من صفقات الاستحواذ على شركات مالكة لوسائل إعلام وشركات إنتاج ووكالات إعلانية، ما نتج عنه السيطرة على شبكات ONTV، CBC، والحياة. إلى جانب السيطرة المباشرة على الملكية، تدير مجموعة إعلام المصريين شبكة راديو النيل المملوكة للهيئة الوطنية للإعلام، كما وقعت بروتوكولًا مع الهيئة الوطنية للإعلام، لكي تضع خطة لتطوير التليفزيون المملوك للدولة.
وعلى صعيد الانتهاكات المباشرة تجاه الجماعة الصحفية، رصد التقرير ما لا يقل عن 48 واقعة تخللها 59 انتهاكًا مختلفًا خلال الفترة من 11 ديسمبر/كانون الأول 2018 إلى 10 ديسمبر/كانون الأول 2019، تضمنت العديد من حالات القبض والاستيقاف، بجانب حالات الاعتداء البدني، إذ لا زال الصحفيون يتعرضون لانتهاكات بدنية جسيمة أثناء تأديتهم عملهم الصحفي، فضلا عن المنع من التغطية، دون أن تتخذ السلطات المعنية أي خطوة لحماية الصحفيين.
علاوة على حالات الرقابة على الصحف، تلقيت رئيسة تحرير صحيفة الأهالي، أمينة النقاش، في 28 مايو/آيار الماضي، اتصالًا هاتفيًّا في وقت متأخر من أحد أعضاء الأمانة العامة للمجلس الأعلى للإعلام، يخبرها باعتراض الرقيب على تحقيق صحفي احتواه عدد الجريدة التي كانت تحت الطبع وقتذاك، مطالبًا بحذفه، وحين رفضت الصحيفة تم وقف عمليات الطبع.
الحقوق الرقمية
بحسب التقرير، تم رصد قرابة 69 واقعة عوقب خلالها 144 شخصًا بالحبس الاحتياطي والاحتجاز والتحقيق، بسبب تعبيرهم عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي سواء بالكتابة أو نشر مقاطع مصورة، وفي بعض الأحيان لتظاهرهم في الشوارع أو حتى لقيامهم بإطلاق الصفافير في منازلهم، إلا أن النيابة _في أغلب الحالات نيابة أمن الدولة العليا_ وجهت إليهم جميعًا تهمة إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ونشر أخبار كاذبة.
وقد وقعت النسبة الأكبر من الانتهاكات في محافظة القاهرة بـ119 انتهاكًا، تلتها محافظة الجيزة بـ10 انتهاكات ولحقتهم محافظة الإسكندرية بـ8 انتهاكات والشرقية بـ4 انتهاكات، بينما وقعت حالة انتهاك وحيدة في محافظات: الفيوم، الغربية والقليوبية، فيما رصدت المؤسسة حجب السلطات في مصر لما يقارب 40 موقعًا إلكترونيًّا خلال العام.
وتضمنت الانتهاكات تحت هذا المحور عشرات حالات القبض والتحقيق، من بينها القبض على 4 طلاب من جامعة الأزهر بالشرقية، بسبب ظهورهم في فيديو يسخرون فيه من بعض الممارسات الدينية المسيحية في 9 فبراير/شباط 2019، ، وفي شهر إبريل/نيسان من نفس العام وأثناء فترة الاستفتاء على التعديلات الدستورية ألقت قوات الأمن القبض على ثلاث مواطنين في وقائع مختلفة، ولكن جميعهم تم اتهامهم باستخدام حساب على شبكات مواقع التواصل الاجتماعي لارتكاب جريمة مُعاقب عليها قانونيًّا من شأنها تهديد أمن وسلامة المجتمع.
كما استمرت السلطات في ممارستها المتعلقة بحجب مواقع الوِب، التي بدأتها في مايو/أيار 2017، حيث رصدت المؤسسة تعرض 40 موقعًا إلكترونيًّا للحجب، ما بين تطبيقات التراسل الفوري ومواقع صحفية وسياسية واجتماعية، وبهذا ارتفع عدد المواقع المحجوبة في مصر إلى 546 موقعًا.
الحرية الأكاديمية
التقرير رصد حبس خمسة على الأقل من أعضاء هيئات تدريس جامعية احتياطيًّا على ذمة قضايا سياسية، كذلك إحالة إدارة جامعتين أستاذين بهما للتحقيق على خلفية تعبيرهما عن آرائهما، بجانب تعنت إدارة جامعة القاهرة من جديد في تجديد الإجازة الدراسية لباحثة الدكتوراه خلود صابر في جامعة لوفان الكاثوليكية.
وعن حالات الحبس الاحتياطي، فقد شملت القرارات العشرات من الأكاديميين والطلاب، منهم حبس الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة الأزهر- فرع أسيوط، سيد حسن عبد الله، 15 يومًا على ذمة التحقيقات في قضية “شائعة اختطاف فتاة جامعة الأزهر”. ووجهت إليه النيابة تهم نشر أخبار كاذبة والانضمام إلى جماعة أسست على خلاف القانون.
كذلك إلقاء القبص على الدكتور حازم حسني أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة في 25 سبتمبر، حيث عُرض على نيابة أمن الدولة التي واجهته بتهم مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أغراضها، وبث ونشر إشاعات كاذبة تحض على تكدير الأمن العام، وإساءة استخدام إحدى وسائل التواصل الاجتماعي ببث ونشر إشاعات كاذبة وأمرت بحبسه احتياطيًّا 15 يومًا على ذمة التحقيق في القضية نفسها.
شملت الانتهاكات حالات التعسف الإداري، فلم تكتف السلطات بحبس الأكاديميين وفقط، إذ أوقفت كلية الحقوق بجامعة الزقازيق صرف راتب الأستاذ طارق الشيخ منذ الشهر الأول لحبسه بالمخالفة للقانون، حيث نصت المادة 64 من قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 على أنه: “كل موظف يحبس احتياطيًّا أو تنفيذًا لحكم نهائي يوقف عن عمله، بقوة القانون مدة حبسه ويحرم من نصف أجره إذا كان الحبس احتياطيًّا أو تنفيذًا لحكم جنائي غير نهائي”، وبالرغم من إرسال نيابة أمن الدولة إلى كلية الحقوق خطابًا رسميًّا يفيد بأنه محتجز احتياطيًّا على ذمة التحقيق.
حرية الإبداع
تصدرت نقابتا المهن الموسيقية والمهن التمثيلية، خلال العام الماضي، قائمة مرتكبي الانتهاكات بأربعة انتهاكات للأولى وانتهاكين اثنين للأخيرة، من بين 11 انتهاكًا رصدتهم مؤسسة حرية الفكر والتعبير على مدار 2019 في 9 وقائع مختلفة ضد مُبدعين، ثم لحق بهم جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بانتهاك واحد.
وقد تنوّعت الانتهاكات ما بين: شطب، منع من القيد بالنقابة، إلغاء عضوية، وإيقاف عن العمل، ففي أسبوع واحد من شهر مارس/آذار 2019، منعت نقابة المهن الموسيقية المطرب الشعبي حمو بيكا من القيد بالنقابة، وأوقفت المطربة شيرين عبد الوهاب محيلة إياها إلى التحقيق. كما قامت بشطب كل من الفنانة داليا مصطفى “لميس” والفنانة فاطمة محمد جابر “فيفي” من جداول النقابة.
وفي 10 يوليو/آب، أصدرت النقابة قرارًا بمنع مطربي المهرجانات من الغناء في مدينة الساحل الشمالي، حيث أرسل النقيب هاني شاكر طلبًا إلى مدير أمن مرسى مطروح يرجو منه التعاون مع لجنة التفتيش المفوضة من النقابة بالساحل الشمالي بـ”منع تشغيل كل من هو غير عضو أو حاصل على تصريح عمل من النقابة ممن يطلق عليهم مطربي المهرجانات”. كما طلب أيضًا نقيب الموسيقين أن يتم “تحرير محاضر للمخالفين وغير المقيدين وغير المصرح لهم بالعمل من النقابة وتسليمها إلى قسم الشرطة المختص”.
كما استمر القضاء العسكري في محاكمة المُبدعين وناشري الإبداع حيث أيدت محكمة عسكرية في 4 فبراير/شباط 2019، حكمًا بسجن الناشر خالد لطفي، مدير ومؤسس مكتبة ودار نشر تنمية، لمدة 5 سنوات لاتهامه بإفشاء أسرار عسكرية وبث شائعات. قُبض على لطفي في إبريل/نيسان 2018، بعد أن قام بإعادة نشر كتاب “الملاك، الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل” عن أشرف مروان صهر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. صدر ضد لطفي حكمًا درجة أولى بالحبس 5 سنوات من محكمة عسكرية في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وفي فبراير/شباط 2019 تم تأييد الحكم، بينما حجزت المحكمة القضية للنطق بالحكم في النقض في 8 أكتوبر/تشرين الأول، وفي 24 ديسمبر/كانون الأول صدر الحكم برفض النقض وتأييد حكم الحبس لمدة 5 سنوات.
هذا بخلاف اللجوء للمصادرة والمنع، ففي شهر يناير/كانون الثاني من العام نفسه، صادرت قوة من مباحث المصنفات عددًا من الكتب والمؤلفات من أبرزها كتاب “الخضوع والعصيان” للباحث زياد عقل، وهذا بعد أن اقتحمت المصنفات مقر دار المرايا للإنتاج الثقافي، ناشر الكتاب.
التعديلات الدستورية وتظاهرات سبتمبر
ثمة نقطتين شهدتا ارتفاعًا ملموسًا في معدلات الانتهاكات، سواء من حيث العدد أو النوعية، تزامنتا وحدثين سياسيين بارزين: الأول الاستفتاء على التعديل الدستوري والذي أجري في شهر إبريل/نيسان، أما الثاني فالتظاهرات القليلة التي خرجت استجابة لدعوة المقاول الفنان، محمد علي، بعد أن كشف النقاب عن وقائع فساد تورطت فيها المؤسسة العسكرية.
السلطات الأمنية في مصر تفاعلت مع الحدثين بقبضة مشددة، وتضييق على حق المواطنين في حرية التعبير، ومن أبرز صور الانتهاكات التي مورست حينها، تزايد وتيرة الحجب مع الأحداث السياسية، ففي 20 سبتمبر/أيلول، قبل ساعات معدودة من انطلاق بعض المظاهرات المحدودة والمفاجئة في ميادين عدد من المحافظات المختلفة في أنحاء الجمهورية، قام الموقع الرسمي للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بنشر موضوع بعنوان: “الحجب والغرامة عقوبة نشر الشائعات على وسائل الإعلام” في محاولة لترهيب كافة المواقع والصحف من نشر أي أخبار بخصوص التظاهرات، وهو ما حدث بالفعل، حيث واجه بعض المستخدمين صعوبة في الوصول إلى مواقع “بي بي سي” و”الحرة”، على مختلف الشبكات ولفترات مختلفة.
وفي تلك الساعات، حجبت السلطات 11 موقعًا لتطبيقات التراسل الفوري، أشهرهم Wickr وSignal، بينما حاولت منع الوصول إلى تطبيقات، مع العلم أن استراتيجية الحجب لم تكن الأولى من نوعها، ففي أثناء فترة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في إبريل/نيسان من العام الماضي، قامت السلطات بحجب آلاف المواقع خلال محاولتها لحجب مواقع حملة “باطل” والتي كانت تدعو بالتصويت بـ”لا” على التعديلات الدستورية.
وفي الإطار ذاته، مارست الجهات الشرطية المصرية مجموعة من الإجراءات غير المسبوقة، ليس فقط تجاه المُتظاهرين بل تجاه المارة، من خلال الفحص العشوائي لهواتف المواطنين، وتصفح الحسابات المختلفة المُسجَّلة على الهاتف أو الحواسيب المحمولة، حيث وصل الأمر في بعض الأحيان إلى فحص الرسائل الخاصة على تطبيقات المُراسلة الفورية، وقد بلغ عدد الموقوفين في هذا اليوم قرابة ألف مواطن بحسب النيابة العامة المصرية.
وهكذا يواصل نظام السيسي استعداء الحريات الإعلامية، متوهمًا أنه بهذه الطريقة سيحقق حلمه في استعادة إعلام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث الصوت الواحد، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لكنه ورغم مرور 6 سنوات كاملة منذ توليه السلطة لم ينجح في تحقيق أمنيته المنشودة.