خريطة جديدة يرسمها اللاعبون الكبار في الملف السوري، اتفاق أردوغان – بوتين في 5 آذار\مارس، بعد جولة تصعيد حامية في إدلب، جاءت عقب استشهاد 33 جنديًا تركيًا في 27 شباط/فبراير، بقصف شنته قوات الأسد، ضد نقطة مراقبة تركية.
ومنذ استشهاد الجنود الأتراك يواجه الرئيس أردوغان خيارات بالغة الصعوبة والتعقيد، لا يخلو أي منها من مخاطر سياسية وعسكرية عالية، داخلية وخارجية، وجاء اتفاق الأمس، ليؤكد أن التصعيد الأخير ضمن إطار التكتيكات التفاوضيّة عالية المخاطرة، لا المجابهة العسكرية المفتوحة، وهو ما ركزت عليه القيادة التركية في عدة تصريحات سبقت اجتماع الرئيسين.
أطلقت تركيا عمليتها العسكرية “درع الربيع”، وهي حرب تموضعات بالدرجة الأساسيّة، ذات أهداف محددة، أكدت القيادة السياسية والعسكرية أنها لن تذهب بها بعيدًا، وأنها تستهدف قوات النظام السوري التي قتلت الجنود الأتراك، وكسرت كل التفاهمات والاتفاقات، لكنها لن تخاطر بوضع علاقتها مع روسيا على المحك، عبر الدخول في حرب مفتوحة التكاليف والأضرار.
بلا شك، استطاعت تركيا إلحاق هزيمة ساحقة بقوات النظام السوري، وأظهر سلاح الطيران المسيّر التركيّ كفاءة عسكرية وفاعليّة قتالية عالية، وبنظرة عسكرية، سيحقق الجيش التركي رفقة فصائل المعارضة السورية نصرًا حاسمًا وتفوقًا عسكريًا في أي مواجهات قادمة مع النظام السوري وحلفائه.
في حال استمرت الدول الأوروبية بغض الطرف عن جرائم النظام السوري والامتناع عن مساندة حليفها في الناتو، فإن الخطوة التركية بفتح الحدود قد تزيد من التوترات الموجود أساسًا بين تركيا وأوروبا
يمكن القول أن خيار وقف إطلاق النار، الذي أصبح نافذًا الآن، هو أفضل الخيارات التركية، وقد دللت التصريحات التركية المتعاقبة تأييدها خيار الحل السياسي في سوريا، ومنع حصول كارثة إنسانية جديدة على الحدود، ذلك أن تفجر الأوضاع العسكرية، قد يؤدي إلى تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى الداخل التركي، وفي أفضل الأحوال، قد تعمل تركيا على ترتيب وصول هؤلاء إلى مناطق سيطرتها داخل الأراضي السورية،”غصن الزيتون” و “درع الفرات”، وفي كلا الخيارين هناك أعباء سياسية واقتصادية وأمنية إضافية ستلقى على كاهل الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم.
ما قامت به تركيا من إعلان عن فتح الحدود أمام اللاجئين الراغبين بالوصول إلى أوروبا، لا يبدو أنها خطوة فاعلة في حل مسألة اللاجئين بقدر ما تشكل ورقة ضغط على الأوروبيين، في النظر إلى صيغة الإعلان الرسمي التركي وتوقيته يفهم أن الخطاب موجه أساسًا للرأي العام التركي، لكن وفي حال استمرت الدول الأوروبية بغض الطرف عن جرائم النظام السوري والامتناع عن مساندة حليفها في الناتو، فإن الخطوة التركية بفتح الحدود قد تزيد من التوترات الموجود أساسًا بين تركيا وأوروبا.
تخبرنا كافة الاتفاقات السياسية/العسكرية السابقة أن النظام السوري لا يلتزم بها، وأنه تقصّد مرارًا استهداف القوات التركية، بغطاء وحماية روسية، إذ لا يمكن أبدًا أن يغامر النظام بهكذا خطوة دون دعم روسي ضمني، وربما لو كان عدد الشهداء الأتراك أقل من ذلك، لما شهدنا الرد العسكري الشديد الذي قامت به تركيا، والتغطية الإعلامية التركية المكثفة للضربات الجوية والمدفعية ضد أرتال النظام وحلفائه، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مقاتلي “حزب الله” اللبناني الذين قتلوا بالضربات العسكرية التركية، وهو ما أثبت بما لا يدع مجالًا للشك مشاركة إيران في الهجوم الأخير.
الإتفاق الأخير بين تركيا وروسيا، يتضمن تنازلًا تركيًا كبيرًا، ويحمل ألغامًا وحروبًا مؤجلة بداخله على رأسها إشكالية “محاربة التنظيمات الإرهابية” التي يختلف تأويلها بين الطرفين، وهو ما يعني ضمنًا قابليته الدائمة للخرق، أما المناطق المشتركة وحدود التماس تعتبرها روسيا بشكلها الحالي، أي عبر تثبيت وشرعنة تقدم قوات النظام السوري في حملته العسكرية الأخيرة ضد إدلب، أما الجانب التركي فلا يزال متمكسًا -نظريًا- بحدود مناطق خفض التصعيد، والإشكالية الأخطر هو ما تم ذكره عن دوريات مشتركة على طريق M4، وهو ما يعني ضمنًا تسليم عدد من المناطق المحررة دون قتال إلى الجانب الروسي وقوات النظام السوري -غير المتواجدة فيها حتى لحظة كتابة هذا المقال- أو أن قوات النظام بدعم عسكري روسي، تجهز لحملة عسكرية “مشرعنة” ضد هذه المناطق، خلال الفترة القادمة.
الحرب الشاملة غير ممكنة، والتصريحات الغربية الداعمة للموقف التركي، ليست كافية لتحفيز تركيا عن التخلّي عن العلاقات الاستراتيجية مع روسيا، وبذات القدر لا ترغب روسيا بخسارة علاقتها مع تركيا، وهذا تحديدًا ما شكل هامش المناورة السياسية التركية طوال الفترة الماضية. لكن الاتفاق الأخير يحمل بذور الفشل معه، والمعارك في إدلب قابلة للعودة في أي لحظة بل إن النقطة المتعلقة بطريق الـ M4 تعني ذلك، وقد تتفهم روسيا حاجة القيادة التركية إلى بعض الضربات العسكرية ضد قوات بشار الأسد وتدفيعه أثمانًا باهظة حال الاعتداء مجددًا على نقاط المراقبة التركية، أو محاولتها كسب نقاط قوة محدودة في أي مفاوضات مستقبلية، عبر ضمان التنسيق المستمر بين الجانبين.
نظريًا نجحت روسيا في إعادة رسم خارطة الانتشار التركي في محافظة إدلب، ونسفت تفاهمات سوتشي لصالح نظام الأسد، وثبتت مكاسبه الأخيرة هناك، ولا يمكن الجزم بنجاح هذا الاتفاق واستدامته، كما أن التركيز على إدلب، قد يشتت النظر عن تفاهمات روسية تركية أوسع تتعلق بالمنطقة الشرقيّة والحل السياسيّ في سوريا.
إن جرأة النظام السوري الهش على استهداف النقاط التركية ومحاصرتها، والموافقة الضمنية الروسية على الضربات العسكرية التركية وعملية “درع الربيع”، قد تعني أن هناك هدفًا استراتيجيًا أوسع وأبعد من إدلب وريفها.