بداية هذه السنة، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مشاركته في مؤتمر برلين الدولي المخصص لتناول الأزمة الليبية، تعهد بلاده بعدم التدخل في شؤون ليبيا الداخلية والعمل إلى جانب المجموعة الدولية على إيجاد حل سلمي للأزمة التي يعيش على وقعها هذا البلد العربي منذ سنوات عدة.
تبني فرنسا لمخرجات مؤتمر برلين لم يتجاوز مجرد الكلام، فتحركات باريس الميدانية والدبلوماسية تثبت عكس ذلك، فهي تواصل دعمها السخي للواء المتقاعد خليفة حفتر، ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة عن طبيعة الدور الفرنسي وأسباب دعمها لخليفة حفتر والأهداف الحقيقية لها في ليبيا.
دعم عسكري ودبلوماسي متواصل
مطلع فبراير/شباط الماضي، كشف موقع الرادار العسكري الإيطالي “Ita mil Radar” (متخصص في متابعة حركة الملاحة الجوية العسكرية وأعمال التجسس والاستطلاع) خرق طائرة تزود بالوقود (من طراز بوينغ C-135FR) تابعة لسلاح الجو الفرنسي، الأجواء الليبية.
أكد الموقع أنه تم “تتبع الطائرة على الطريق المعتاد إلى وسط البحر الأبيض المتوسط، لكن عندما كانت بين سردينيا (جزيرة إيطالية) وتونس فقدنا الإشارة، وبعد 3 ساعات ونصف ظهرت الإشارة مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت الطائرة تحلق باتجاه الشمال (عائدة إلى بلادها)”.
ويشير الموقع الإيطالي إلى أن الطريق الذي سلكته الطائرة الفرنسية “هو المسار المعتاد الذي تتبعه طائرات تزويد الوقود الفرنسية التي أدت مهمة قبالة طرابلس، وأيضًا الفارق الزمني الذي يتناسب مع مهمة قبالة طرابلس، ولكن دون أثر واضح لا يمكننا التأكد من ذلك”.
هذه ليست المرة الأولى التي ترصد فيها مواقع ملاحة جوية عسكرية طائرة عسكرية فرنسية من نفس الطراز تخرق الأجواء الليبية، حيث قامت بذلك أيضًا طائرة فرنسية في 18 من يونيو/حزيران 2019، دون أن تفصح باريس عن سبب ذلك.
قبل أشهر قليلة ضبط الأمن التونسي 13 فرنسيًا بأوراق دبلوماسية محملين بأسلحة وذخيرة على الحدود الليبية مع تونس
فضلًا عن ذلك، ما فتئت السلطات الفرنسية تقدم الدعم العسكري لخليفة حفتر، رغم عملها على إحاطة عملها العسكري والأمني في ليبيا – بشقيه الرسمي وغير الرسمي – بالكثير من الرقابة التي حافظت على بقائه سرًا أغلب الوقت.
ومثَل مقتل ثلاثة جنود فرنسيين سريين في حادث مروحية في مدينة بنغازي (شرق)، في فبراير/شباط 2016، اعترافًا نادرًا بحضور باريس السري في العمليات التي يقودها حفتر في ليبيا، وقبل أشهر قليلة ضبط الأمن التونسي 13 فرنسيًا بأوراق دبلوماسية محملين بأسلحة وذخيرة على الحدود الليبية مع تونس.
وكثيرًا ما يلتقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقائد ميليشيات الكرامة خليفة حفتر في باريس في مسعى منه لإضفاء الشرعية على حفتر رغم كون هذا الأخير لا يمتلك أي وظيفة رسمية في الدولة الليبية ولا يعترف بحكومة الوفاق الشرعية.
الاستحواذ على النفط الليبي
دعم فرنسا لحفتر، الهدف الأبرز منه الاستحواذ على أكبر حصة من النفط الليبي مستقبلًا والحصول على امتيازات جديدة من النفط الليبي الذي تقدر احتياطاته بنحو 48.36 مليار برميل أي بنحو 3.94% من احتياطي العالم (الاحتياطي الخامس عربيًا).
ويسيطر اللواء المتقاعد خليفة حفتر على معظم حقول ومنشآت النفط في ليبيا، بما فيها حوض سرت الذي يمثل نحو ثلثي الإنتاج الليبي من النفط، إلا أن بيع النفط هو اختصاص أصيل للمؤسسة الوطنية للنفط، ومقرها طرابلس، بموجب عدد من التشريعات المحلية والقرارات الدولية.
وتسعى السلطات الفرنسية من خلال دعم حفتر إلى انتزاع حصة كبرى للتنقيب والاستكشاف والإنتاج والصيانة مع شركات تمثل مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والجزائر وروسيا، من بينها عمالقة كبار مثل بريتيش بتروليوم البريطانية وإكسون موبيل الأمريكية.
بموجب القانون الليبي، تسلم المؤسسة الوطنية إيرادات النفط إلى مصرف ليبيا المركزي وتحصل بعد ذلك على مخصصات ميزانيتها من الحكومة الليبية، وتشكل مبيعات النفط نحو 95% من إيرادات البلاد، وتتوقع ليبيا وصول العجز في الموازنة العامة للدولة لعام 2018، إلى 10 مليارات دينار (الدولار 1.4)، بالاعتماد على إنتاج يومي من النفط يصل إلى مليون برميل.
بلغت إيرادات ليبيا من النفط نحو 20.3 مليار دولار منذ بداية العام الماضي وحتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، وفق إحصائية حديثة لمصرف ليبيا المركزي، ويضطلع حقل الشرارة النفطي بإنتاج ما يعادل ربع الإنتاج الوطني حاليًّا (300 ألف برميل يوميًا)، في حين ينتج حقل الواحة نحو 100 ألف برميل، ويتجاوز إنتاج حقلي المسلة والنافورة 200 ألف برميل يوميًا.
ضرب مدنية الدولة
الاستيلاء على النفط وثروات البلاد، ليس هدف فرنسا الوحيد في ليبيا، فهي تهدف أيضًا من خلال دعمها لخليفة حفتر و”مشروعه التخريبي” إلى ضرب مدنية الدولة الليبية وعسكرة النظام هناك خدمة لمساعيها “المشبوهة” في المنطقة.
ومعروف عن فرنسا دعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر على حساب باقي الأطراف المكونة للمشهد الليبي، ضمن الاتجاه العام للسلطات الفرنسية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي، وتوفر باريس دعمًا كبيرًا لميليشيات خليفة حفتر المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، متصادمة بذلك مع جهود الوحدة التي تدعمها الأمم المتحدة، ومُطيلة بذلك أمد الصراع في ليبيا.
تأمل باريس من خلال دعم حفتر أن تستحوذ على نفط البلاد وضرب مدنية الدولة الليبية، فضلًا عن إعادة إحياء مكانتها في القارة الإفريقية التي فقدتها نتيجة المنافسة من دول كبرى
ترى باريس أن دعم حفتر من شأنه تقويض كل مساعي رأب الصدع بين أطراف الأزمة الليبية وتعزيز الانقسام السياسي وتغذية الصراع المسلح في البلاد، وهو ما يخدم مصالحها، فلا مصلحة لها في وجود دولة ليبية مدنية قوية ترعى مصلحة شعبها.
وتؤكد مؤشرات عديدة أن فرنسا كان لها دور بارز في صناعة الفوضى العارمة في ليبيا على جميع الأصعدة لتستفرد بإدارة هذه الصراعات كما يحلو لها، فقد عملت على دعم الميليشيات المارقة عن القانون وضرب الاقتصاد وبث التفرقة بين عموم الليبيين.
إعادة إحياء دورها التاريخي الاستعماري في إفريقيا
فضلًا عن هذا، تسعى فرنسا من خلال تدخلها في ليبيا ودعمها حفتر، إلى إعادة إحياء دورها التاريخي الاستعماري في إفريقيا، خاصة أن هذا التدخل تزامن مع تدخلها عسكريًا في شمال مالي في يناير/كانون الثاني 2013 (عملية سرفال ثم برخان)، وتدخلها في إفريقيا الوسطى في ديسمبر/كانون الأول من نفس السنة (عملية سانغاريس).
ورغم استقلال كل المستعمرات الفرنسية، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فإن نفوذ باريس بقي متواصلًا في أغلب تلك المستعمرات السابقة، حتى إنها منحت نفسها – دون الرجوع إلى أحد – حق التدخل العسكري في تلك الدول لحماية مصالحها هناك.
يفهم من هنا أن فرنسا الاستعمارية لم تخرج من إفريقيا نهائيًا، فهذه العمليات العسكرية التي تشرف عليها من حين إلى آخر تضمن لها الحفاظ على وجودها في القارة الإفريقية وخاصة مستعمراتها السابقة التي تمتلك ثروات باطنية مهمة، تستغلها فرنسا للنهوض بمكانتها العالمية رغم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها، فإفريقيا بالنسبة إلى فرنسا مصدر حياة لا يجب التخلي عنه.
يذكر أن فرنسا أقامت عقب إطلاق أنشطتها الاستعمارية عام 1524، حكمها الاستعماري في 20 دولة بين شمالي وغربي القارة الإفريقية، فعلى مدار قرابة 300 سنة، خضعت 35% من مناطق القارة السمراء للسيطرة الفرنسية.
يقول المحلل الليبي محمد عمران كشادة في حديث لنون بوست، إنّ “تنامي الصراع بين الدول الكبرى على النفوذ في القارة الإفريقية، وضع فرنسا أمام سيناريوهات مواجهة مستقبلية مع قوى قد تنافسها في مناطق نفوذها وسيطرتها”.
لذلك ستستغل فرنسا، وفق محدثنا، أي صراعات أو توترات في المنطقة لتفرض وجودها وتضمن مصالحها، خشية أن تملأ القوى المنافسة لها – على غرار الصين وتركيا وروسيا – الفراغات السياسية الموجودة في القارة السمراء.
ويرى كشادة أن إطلاق فرنسا عملياتها العسكرية في إفريقيا بدأ من شمال مالي، يفرض على باريس أن تتحرك لتضمن العودة إلى فزان (مستعمرتها التاريخية في جنوب ليبيا)، التي كانت تعد حلقة وصل مهمة بين مستعمراتها في شرق وغرب إفريقيا، وهذا هدف إستراتيجي لفرنسا، ولن تستطيع تحقيقه وليبيا تحكمها قوى وطنية ولا تعاني من الحرب والصراعات.
تعول فرنسا كثيرًا على الخيرات الإفريقية وليس من السهل أن تتخلى عنها مرة واحدة، لذلك تعمل على تهيئة الأرضية لضمان الوصول إلى المواد الخام الإستراتيجية للقارة (النفط واليورانيوم وغيرها) ومحاولة توفير منافذ متميزة للشركات متعددة الجنسيات الفرنسية.
انخراط فرنسا في تمكين قائد ميليشيات الكرامة وعدم تجاوز دعمها لحكومة الوفاق مجرد التفاصيل الدبلوماسية الروتينية في مجمله، تأمل من خلاله باريس الاستحواذ على نفط البلاد وضرب مدنية الدولة الليبية، فضلًا عن إعادة إحياء مكانتها في القارة الإفريقية التي فقدتها نتيجة منافسة الدول الكبرى.