حالة من الغموض تخيم على أرجاء الديوان الملكي السعودي خلال اليومين الماضيين، وسط موجة من التكهنات التي يبدو أنها ستتجاوز السقف المتوقع، حيث نشرت وسائل إعلام أمريكية تقارير عن موجة اعتقالات جديدة لبعض كبار الأمراء في الأسرة الحاكمة بالمملكة، دون كشف أسباب ودوافع هذه الخطوة.
فقد نقلت صحيفتا “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز” الأمريكيتين عن مصادر مطلعة أنه تم اعتقال الأميرين أحمد بن عبد العزيز شقيق الملك السعودي، وولي العهد السابق محمد بن نايف، إضافة إلى الأمير نواف بن نايف شقيق ولي العهد السابق، فيما أشارت بعض المصادر إلى اعتقال 20 شخصًا إلى جانب الأمراء الكبار.
التقارير لم تكشف بعد تفاصيل معمقة بشأن كواليس عملية الاعتقال، غير أنها اكتفت بالإشارة إلى أن مقنعين من حرس الديوان الملكي اعتقلا الأميرين من منزليهما اللذين أخضعا للتفتيش، مع العلم أن ابن نايف كان قيد الإقامة الجبرية منذ الإطاحة به كولي للعهد من ولي العهد الحاليّ الأمير محمد بن سلمان.
بعض الحسابات المنسوبة لمعارضين سعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي ذكرت أيضًا أنه تم اعتقال بعض الضباط في الأجهزة الأمنية والجيش والحرس الذين يعتقد أن ولاءهم للأميرين الكبيرين، وأنه قد تم محاصرة بعض القيادات في مقر إمارة الرياض، حيث تم قطع الطرق وإقامة العشرات من حواجز التفتيش الأمنية.
ما أشبه الليلة بالبارحة.. ففي الـ20 من يونيو/حزيران 2017 وبينما كان السعوديون مشغولين بأداء الشعائر الدينية في العشرة الأواخر من رمضان كان العاهل السعودي ونجله محمد يخططان للإطاحة بولي العهد آنذاك، وفي مشهد درامي أشبه بالتراجيديا تنازل ابن نايف عن ولاية العهد للأمير الشاب الذي لم يدخر وقتًا ولا جهدًا منذ ذلك الحين لإقصاء المعارضين له، مبتغيًا في ذلك خلافة والده بصرف النظر عن ثمن ذلك.
ربما ليست المرة الأولى التي يشن فيها ابن سلمان حملة اعتقالات ضد أمراء في الأسرة الحاكمة، ففي 2017 شهد موجة واسعة من التوقيفات شملت العشرات من رموز العائلة والوزراء ورجال أعمال، واحتجزوا جميعًا في فندق ريتز كارلتون بالرياض، لكن الاعتقالات هذه المرة تختلف من حيث مكانة وقوة المعتقلين، فأحدهما كان المرشح الأوفر حظًا لخلافة العاهل السعودي، بينما كان الثاني الوريث الأحق بالعرش بحكم منصبه وترتيبه في شجرة العائلة، قبل أن يُجبر على تقديم استقالته تحت وطأة التهديد.
وقت حساس
جاءت الاعتقالات الجديدة في ظرف حساس تشهده المملكة بوجه خاص والإقليم بشكل عام، حيث الجدل الذي صاحب قرار ولي العهد بوقف إصدار تأشيرات العمرة وتقنين زيارة الحرم المكي، الذي تم إغلاقه ثم معاودة فتحه مرة أخرى، كإجراءات احترازية بسبب تفشي فيروس كورونا.
الإعلام الغربي يرى أن قرارات ابن سلمان كان لها ارتدادت سلبية على الشارع السعودي في العموم وإن كانت بصفة أكثر عمقًا داخل الأسرة الحاكمة التي قد تعتبر خطوة كهذه من المحتمل أن يكون لها تأثيراتها العكسية على صورة المملكة ومكانتها بين دول العالم الإسلامي.
هذا بخلاف الوقع الاقتصادي المتردي الذي يحياه السعوديون خلال العامين الماضيين، وبالتحديد منذ تنصيب ابن سلمان وليًا للعهد، حيث أدت سياساته إلى إجبار الكثير من الشعب السعودي على أخذ منحى التقشف في ظل أعباء إضافية أثقلت بها سياسات الأمير الشاب كاهل المواطنين، الأمر ربما يتضاعف حال استمرت أزمة الفيروس التي من المرجح أن تلقي بظلالها القاتمة على أسواق النفط في المقام الأول.
غياب العاهل السعودي عن الساحة كان أحد أبرز الجوانب التي ألمحت إليها صحيفة نيويورك تايمز، التي أرجعت في سردها لدوافع هذه الحملة شيخوخة الملك سلمان (84 عامًا) في ظل ما يثار بشأن تدهور حالته الصحية، وهنا ترى الصحيفة أن ولي العهد لجأ إلى حبس المنافسين المحتملين لخلافته قبل وفاة والده، هذا رغم أن أي من المعتقلين لم يشر – لا من قريب أو بعيد – لرغبته في مواجهة الأمير الطامع في الكرسي.
هذه الاعتقالات من شأنها أن تنحي رجلين كانا من الممكن أن يكونا منافسين لولي العهد على العرش
الأكثر جدلًا
تستمد حملة الاعتقالات الأخيرة جدلها وقوة صداها من هوية الأسماء التي شملتها، وعليه تعتبر الأشرس منذ ظهور ابن سلمان على الساحة السياسية قبل 3 أعوام، رغم اعتقال العشرات من الأمراء وكبار القادة ورجال الاعمال خلال الفترة ذاتها، التي كانت بمثابة الصدمة للكثيرين حينها.
كلا الأميرين تولى منصب وزير الداخلية، وهو منصب قوي يتولى الإشراف على القوات وجهاز المخابرات السعودي، بحسب ما تذكر وول ستريت جورنال، لكن على مدى السنوات القليلة الماضية، تضاءلت مكانتهما في العائلة المالكة مع تثبيت الملك سلمان ابنه محمد “وليًا للعهد وحاكمًا فعليًا للمملكة”.
هذه الاعتقالات من شأنها أن تنحي رجلين كان من الممكن أن يكونا منافسين لولي العهد على العرش، بحال قرر الملك سلمان التنازل بحسب الصحيفة، وأمام ما كان يتمتعان به من قوة ومكانة، سواء داخل العائلة أم الشارع السعودي، كان لا بد من الإطاحة بهما وغلق الباب كاملًا أمام أي احتمالات من الممكن أن تعيدهما للأضواء مجددًا.
أحمد بن عبد العزيز…شقيق الملك وعم ولي العهد، الذي فرض نفسه كأحد الخيارات المقبولة لخلافة العرش، المعارضون لسياسات ولي العهد رأوا فيه البديل الأوفر حظًا، وكان قد انتقد سياسات العاهل السعودي ونجله وحملهما مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع في المملكة، وذلك عبر تعليق له على التظاهرات المنددة بابن سليمان في لندن 2018، لكنه سرعان ما أوضح أن التعليق أسيئ فهمه ولا ينوي الإطاحة بولي العهد، وعليه عاد إلى المملكة وظل حرًا يتنقل بأريحية كاملة على عكس المتبع مع كثير من أمراء الأسرة الذين يرى فيهم ابن سلمان تهديدًا له.
محمد بن نايف.. ولي العهد السابق، كان ينظر إليه من قبل على أنه المنافس الأكثر أهمية لولي العهد الحاليّ في طريقه إلى السلطة. وبصفته وزيرًا للداخلية كان يهيمن على قطاع كبير من الكيانات الأمنية في البلاد، إلى جانب الجيش والحرس الوطني، مما يمنحه نفوذًا كبيرًا في أي صراع على السلطة.
كما كان يتمتع بنفوذ قوي داخل الأسرة المالكة، بجانب أن علاقته القوية بواشنطن كانت أحد مرتكزاته لتعظيم مكانته داخليًا، غير أنه أُطيح به خارج السباق في غمضة عين، ليلة 20 من يونيو 2017، ولم يكتف ابن سلمان بمجرد إزاحته من منصبه ليحتل مكانه، بل وضعه تحت الإقامة الجبرية وحرمه من ممارسة حقوقه المشروعه، وهو ما تسبب في تفشي حالة التذمر داخل تيار كبير من العائلة وإن لم يتم الإفصاح عن ذلك بشكل علني.
تفسيرات متباينة
في الوقت الذي أكدت فيها الصحف الأمريكية عملية الاعتقال رغم صمت السلطات السعودية وعدم التعليق على ما ورد بشأنها، فإنها لم تجزم حتى الآن بشأن دوافع هذه الاعتقالات الحقيقية، وهو ما دفعها وغيرها من بعض وسائل الإعلام الغربية لتقديم عدد من الفرضيات عن هذه المسألة.
البداية كانت مع وول ستريت التي ذكرت أن الاعتقال له صلة بمحاولة انقلاب مزعومة، مضيفة أن السلطات السعودية تتهم الأميرين بالخيانة العظمى، وأنهما يواجهان عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة، وفي المقابل هناك من يستبعد هذه الفرضية، وهو الرأي الذي يلمح إلى أن الاعتقالات جاءت بسبب معارضة البعض للتغييرات التي يقوم بها ولي العهد.
تصب معظم تلك التفسيرات في رغبة ولي العهد بالاستفراد بالعرش، مستخدمًا في ذلك كل أدوات البطش والتنكيل
مصادر أخرى أشارت إلى أن بعض أفراد الأسرة الحاكمة سعوا لتغيير ترتيب وراثة العرش، معتبرين أن الأمير أحمد أحد الخيارات الممكنة الذي يمكن أن يحظى بدعم أفراد الأسرة والأجهزة الأمنية وبعض القوى الغربية، فيما لفت آخرون إلى أن سياسات ابن سلمان أثارت استياء بين بعض الفروع البارزة للأسرة الحاكمة بسبب تشديد قبضته على السلطة، وتساءل البعض عن قدرته على قيادة البلاد عقب قتل الصحفي البارز جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في 2018 وتعرض البنية التحتية النفطية السعودية لأكبر هجوم على الإطلاق العام الماضي.
رئيس الحركة الإسلامية للإصلاح السعودية الذي يعيش في المنفى، سعد الفقيه، أورد هو الآخر روايتين عن أسباب الاعتقالات، الأولى أن بعض المعتقلين سعوا عند الملك سلمان للشفاعة للمعتقلين من آل سعود من أجل الإفراج عنهم، وأنهم خلال حديثهم مع الملك قسوا عليه، فبادر ولي العهد باعتقالهم.
رئيس الحركة الإسلامية للإصلاح سعد الفقيه يشير إلى روايتين بشأن سبب اعتقال أمراء كبار في العائلة السعودية الحاكمة pic.twitter.com/yjwRvFFQij
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 7, 2020
أما الرواية الثانية فتدور حول حالة التذمر من قرار إيقاف العمرة والطواف حول الكعبة وغلق أبواب الحرم المكي، في حين تستمر حفلات الترفيه وتأشيرات السياحة، وأن ذلك قد يشكل خطرًا على صورة المملكة، ما أثار القلق في صدر الأمير الشاب الذي بادر باعتقال كبار الأمراء.
الطريق إلى العرش
تصب معظم تلك التفسيرات في رغبة ولي العهد بالاستفراد بالعرش، مستخدمًا كل أدوات البطش والتنكيل، غير آبه بالأسماء أو الشخصيات التي يطيح بها ولا المرتكزات الوطنية التي قامت عليها المملكة منذ تأسيسها، المهم في نهاية الأمر أن يخلف والده على الكرسي.
منطق القوة الذي يؤمن به الأمير الشاب يؤكد أنه ليس لديه حسابات الحكام السعوديين القدماء، فالرجل لم يترك بابًا يرسخ به أركان حكمه إلا وطرقه، فبطش بالعلماء وزج بهم في المعتقلات وأسر كبار قبائل المملكة ورمى ببعضهم في السجن وانقلب على أبناء عمومته، حتى تحالفاته الخارجية تسير في هذا الاتجاه: التمكين والقضاء على أي صوت معارض.
منذ الوهلة الأولى التي نصب فيها ابن سلمان نفسه وليًا للعهد بعدما أطاح بعمه في 2017، سعى لفرض قبضته الحديدية، من خلال حبس مئات من الأقارب المالكين ورجال الأعمال السعوديين الأثرياء، وفي العام التالي، عرّض سمعة بلاده للتشويه من خلال تورطه – حسب تقارير استخباراتية – في مقتل الصحفي جمال خاشقجي، ولولا ما قدمه من ثمن باهظ للأمريكان لتغيرت الكثير من المعطيات في الوقت الراهن.
من الواضح أن ولي العهد لم ولن يضع في حساباته أي معايير أخرى تحول بينه وبين حلمه في خلافة والده
بحلول مطلع 2015 وحين بات سلمان بن عبد العزيز ملكًا رسميًا بعد وفاة أخيه الملك عبد الله بن عبد العزيز، بدأ الرجل في تعبيد الطريق أمام نجله الأكبر ليكون خليفته في الحكم، وعليه بدأ منذ الشهور الأولى لحكمه في إعادة ترتيب البيت السعودي من الداخل، فأطاح في أبريل من نفس العام بشقيقه الأمير مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد، ليحل محله محمد بن نايف قادمًا من وزارة الداخلية إلى ولاية العهد، بينما منح ابن سلمان لقب “ولي ولي العهد”، كما صار نائبًا ثانيًا لمجلس الوزراء ووزيرًا للدفاع.
ورغم أن نجل الملك كان الرجل الثالث في تراتبية الحكم، فإنه كان الأمر الناهي المتحكم الأبرز في إدارة البلاد، فقد أعلن الحرب على مليشيات الحوثي مارس/آذار 2015، مشرفًا بنفسه على الضربة الجوية الأولى التي تمت تحت غطاء التحالف العربي، وفي 2017 كانت بداية الطريق نحو عهد جديد.
ما حدث حينها لم يكن الهدف منه الإطاحة بابن نايف وفريقه فقط، وإنما تضمنت الإطاحة أيضًا بعددٍ كبير نسبيًا من القيادات الأكبر سنًا في إدارة الأقاليم والمناطق، ليحل محلها جيل جديدٌ من القيادات الشبابية التي غلب عليها الانتماء إلى “الفرع السديري”، وهم أبناء الملك عبد العزيز المؤسس من زوجته حصة السديري وعددهم سبعة، بالإضافة إلى ترجيح عامل القرابة البيولوجية والشخصية من الملك ونجله الشاب في اختيار الأمراء الجدد.
من الواضح أن ولي العهد لم ولن يضع في حساباته أي معايير أخرى تحول بينه وبين حلمه في خلافة والده الذي تشير مصادر عدة إلى تدهور حالته الصحية بصورة كبيرة، فالتنكيل والبطش الأداة الوحيدة المستخدمة لوأد أي محاولات تعرقل الطريق نحو الحكم، حتى لو كان ذلك على حساب الأسرة الحاكمة، التي رغم استنكار تيار كبير بداخلها لما يقوم بن الأمير الشاب إلا أن النار لم تخرج بعد من تحت رمادها.