لم تصل السياسات الاقتصادية وعلى رأسها قطاع الصناعة التي نُفذت في الدول العربية طيلة العقود الأربع الماضية إلى تركيز سياسة تبادلية قوية بين الصناعات القائمة والقطاعات الاقتصادية الأخرى، في ظل محدودية الأسواق الداخلية وعدم وجود سوق إقليمية وعجزها عن المنافسة والانفتاح على الأسواق الخارجية، وبطئها في مواكبة السرعة المذهلة في تطوير أدوات ومنتجات تقنية المعلومات والاتصالات والاكتشافات والتطبيقات العلمية، وهي تحديات فرضها النظام العالمي للاقتصاد الجديد المتمثل في العولمة.
وتُعاني الصناعة العربية من قلة الخبرة في مجال دراسة الأسواق العالمية بصورة مستفيضة، بالإضافة إلى عدم الاستعانة بالمواصفات والمقاييس العالمية خلال مرحلة التصنيع، وضعف الخدمات اللوجستية في مجال التجارة وارتفاع تكاليف النقل وارتفاع الرسوم الجمركية والضرائب المفروضة على الصادرات.
العولمة
ظهر مفهوم العولمة لأول مرة في قاموس أكسفورد عام 1991 وكان يرمز حينها إلى تحول العالم لقرية كونية مدعومًا بثورة تكنولوجية قوامها تطور وسائل التواصل والاتصال، وكان امتدادًا للتغيرات السياسية التي شهدها العالم عقب انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط النظام الاشتراكي الذي كان يتقاسم الهيمنة على العالم مع الولايات المتحدة، كما تُعد العولمة إحدى مظاهر انتصار النظام الرأسمالي الليبرالي.
العولمة الاقتصادية بحسب تعريف صندوق النقد الدولي، هي “التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم الذي يحتمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى رؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله”.
العولمة الإقتصادية :
تعني تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود والتوسع المستمر والمتزايد لحدود الأسواق المتبادلة بين الدول، وتشير إلى الترابط الإقتصادي المتزايد بين دول العالم، نتيجة لحركة السلع والخدمات عبر حدود الدول.
هذا بإختصار شديد معنى العولمة الإقتصادية ♥️♥️♥️?
— فتون. (@f_x4d) January 28, 2020
وأكسبت طفرة المعلومات وتطور التكنولوجيا التي تُعنى بالأنشطة الإنتاجية والصناعية قوة دافعة للعولمة الاقتصادية وساهمت في انتشارها، وبات العالم يشهد نظامًا جديدًا يتلخص في الاقتصادات العابرة للحدود وتحرير التجارة الدولية.
ولعبت العولمة دورًا محوريًا في الاقتصاد العربي، خاصة في تقليل الرسوم الجمركية المترتبة على النشاطات التجارية في شراء وبيع المنتج وإزالة العوائق أمام التبادل التجاري لتعزيز مفهوم تحرير التجارة بين الدول العربية والدول الأخرى، والمساهمة في توصيل الإنتاج العربي إلى السوق العالمية، وبالتالي ساعدت في فتح الآفاق أمام الاقتصاد العربي ليكون أكثر تشاركية مع الاقتصاد العالمي، وذلك وفق قاعدة “أي شيء يُمكن أن يُنتج في أي مكان ويُباع في العالم كله”.
ويلعب تقارب دول العالم دورًا إيجابيًا في تبادل الخبرات والتجارب من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر وفرص الوجود في الأسواق الاستهلاكية الجديدة التي تساعد على انتشار السلع والخدمات، والأهم من ذلك الوصول إلى التقنيات المتقدمة التي تستخدمها الدول المتقدمة وخاصة تلك المرتبطة بالحياة الاقتصادية أو العمليات المالية والمصرفية والتجارية.
في مقابل ذلك، فإن للعولمة آثارًا سلبيةً ومخاطر على اقتصادات بلدان العالم العربي التي ما زالت تعيش صراعًا مزمنًا من أجل تركيز منوال اقتصادي يراعي مقدراتها وتطلعاتها، وبما أنها لم تقتحم بعد صناعة القوى الذهنية ( ،(Brain Power Industry فإن انخراطها في التجارة الدولية الحرة ودائرة العولمة الاقتصادية المتشعبة، قد يُفقدها هويتها الاقتصادية ويجعلها في تبعية أكثر وقعًا من عهود الاستعمار.
العولمة الإقتصادية أصبحت واقعا يؤثر بشكل مباشر على المواطنين في العالم العربي. العولمة تتطلب تفكير عربي مشترك وإعادة هيكلة اقتصاد الدول العربية لخلق تكامل إقليمي. القيادات العربية البائسة أغبى وأفسد من ان تفكر بشكل جماعي. الدول العربية الغنية ستلحق الدول الفقيرة #إضراب_الأردن
— د. نصير العمري (@dr_naseer) June 5, 2018
ومن بين مخاطر العولمة، محاولة الدول الكبرى فرض ثقافة أو نمط اقتصادي معين على باقي الشعوب العالم وخاصة منها النامية، وتحويل الأخيرة إلى مجتمعات استهلاكية بعد سلبها هويتها عن طريق استخدام وسائل اتصال معينة تعمل على محو الحدود الجغرافية وضرب دور الدول في تحديد منوالها الاقتصادي عن طريق الشركات متعددة الجنسيات وشبكات الإنتاج والتمويل، وبالتالي يُمكن لقوى السوق العالمية تمرير أجندتها وأصبحت بذلك سلطة اقتصادية تتحكم في شؤون الدول وتحدد سياساتهم والأخطر من ذلك تدخلها في رسم الأنظمة الحكم.
ومن جهة أخرى، أدى تحرر الأسواق إلى ارتفاع أسعار السلع الواردة إلى السوق العربية بسبب سعي الأخيرة نحو استيراد المنتجات المنبثقة عن العولمة مثل الأجهزة الإلكترونية الذكية، كنا نتجت عنها أيضًا زيادة معدل المنافسة العالمية في مجال الصناعة المتعلقة بالإنتاج الرقمي التكنولوجي، ما أضعف قدرتهم على المنافسة في هذا المجال، بسبب عدم امتلاك جميع المواد الأولية التي تساعد على دعم الإنتاج.
ومن آثارها السلبية الأخرى، تباطؤ تطور قطاع الخدمات في الدول العربية نتيجة عجز الميزان التجاري عن استيعاب تدفق الخدمات المتواترة من دون توقف، وتهديد الشركات الصغرى غير القادرة على المنافسة، في ظل تجارة دولة غير عادلة.
التوطين
يشهد العالم في ظل النظام الجديد (العولمة) تغيرات متسارعة على الصعيد التكنولوجي وتسارع ترابط الدول فيما بينها، وتُعد قيمة الوقت (Time Value) وسرعة التجاوب والفاعلية والكفاءة من أكثر العناصر المحددة للولوج إلى السوق العالمية والتموقع فيها، لذلك تسعى الدول المتأخرة نسبيًا في مجال التصنيع إلى ردم الهوة وسد الثغرات من خلال وضع سيناريوهات وحلول بديلة ونماذج لسياسات مستقبلية تُمكنها من رفع معدلات الأداء، فالعصر الجديد يحتاج إلى مهارات مختلفة من أجل البقاء والتفوق.
لن ينجح توطين الصناعة و إحداث نقلة دون وجود (قيم العمل)،البلدان المتجهه نحو النمو لن تنجح في التقدم دون وجود حاضنة بشرية مهما دفعت من أموال.
— عُمر دافنشي (@KIMFOR123) September 6, 2016
ومن هذا الجانب، تعمل بعض الدول العربية على هيكلة اقتصادها وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي في ظل ظروف استثنائية تواجهها مثل انخفاض أسعار النفط والاضطرابات الجيوسياسية الصعبة والصراعات في المنطقة، ومن أهداف البرنامج دعم الاقتصاد من خلال إرساء قوانين للتخلص من البيروقراطية وتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط وخلق المزيد من فرص العمل للمواطنين ودعم المشاريع المستقبلية وتحقيق أقصى قدر من الكفاءة ضمن مشروع توطين الصناعات.
وتتميز الصناعة التحويلية العربية بضعف ارتباطها الإنتاجي وعدم تكاملها أفقيًا ورأسيًا على المستويين القطري والعربي، وانخفاض أداء تشغيلها وعدم استغلال كامل طاقاتها الإنتاجية، إضافة إلى ارتفاع التكاليف الرأسمالية والإنتاجية والتشغيلية إذا قورنت بمثيلاتها الأجنبية، بسبب استيراد معظم احتياجاتها من الماكينات ومستلزمات الإنتاج الوسيطة من الخارج، وتعتمد هذه المشاريع بصفة كلية على نقل التكنولوجيا الأجنبية دون توطينها لاحقًا من خلال صيانتها وتطويرها بالاعتماد على الأيدي العاملة المحلية كما فعلت دول في شرق آسيا مثل ماليزيا وفيتنام وقبلهما كوريا الجنوبية والصين.
المصانع والأدمغة
واجهت أغلب الدول العربية في أولى خطوات التوطين إشكالية منهجية في تحديد ملامح المشروع وأولوياته، بمعنى هل تبدأ بتوطين المصانع أو بالأدمغة والكفاءات، غير أن كلها يصب في الآخر فتوطين المصانع يمكنه أن يكسب الكوادر الوطنية مؤهلات خبرات جديدة لقيادة دفة الصناعة، والعكس أيضًا صحيح شريطة وجود إرادة حقيقية تهدف إلى الاستثمار في المعرفة التقنية واللوجستية المصاحبة للصناعة المراد توطينها.
ولا يقتصر التوطين على الصناعات كإجراء بديل للاستيراد بل يتعداه إلى توطين الكوادر والأدمغة وكذلك توطين التكنولوجيا والاستثمار فيها، حيث لا تزال 95% من الصادرات لدى الدول العربية ضعيفة أو متوسطة الاستعمال للتكنولوجيا.
ومن فوائد التوطين، تقليل وقت الاستجابة وتحسين الجاهزية وتخفيض التكلفة الإجمالية للمنتج وتوفير خدمات ودعم فني ذي جودة عالية محليًا بأيدي عاملة وطنية ومدربة، إضافة إلى أهميتها الإستراتيجية المتمثلة في خلق قدرات محلية تُساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف برنامج التحول الوطني الاقتصادي.
تجارب عربية
وفي هذا الجانب أطلقت دولة قطر بدعم من المؤسسات الرسمية، برنامج “توطين” لتعزيز مرونة سلسلة الإمداد والحفاظ على القيمة الاقتصادية داخل الدولة من خلال خلق نحو 100 فرصة استثمارية جديدة في قطاع الطاقة، التي من المتوقع أن تضيف بدائل للاستيراد بقيمة 8 مليارات ريال قطري سنويًا، بالإضافة إلى إتاحة أكثر من 5000 وظيفة جديدة عالية المستوى، ويهدف البرنامج أيضًا إلى إنشاء صناعات إستراتيجية متنوعة، ويستهدف بشكل أساسي تنمية القطاع الخاص من خلال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خاصة أنها تلعب دورًا مهمًا في التنمية من حيث الإنتاج وخلق فرص العمل ومساهمتها في التصنيع والصادرات والناتج المحلي الإجمالي، معتمدةً على سياسة “القيمة المحلية المضافة”، فيما تعمل الأردن على تركيز المدن الصناعية بهدف تعزيز إستراتيجيتها في توطين الصناعة الوطنية ودعم قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية وتأمين الوصول إلى التنمية المستدامة.
أما السعودية، فاختارت توطين الأدمغة ودعم الكفاءات الوطنية في اكتساب المهارات والخبرات، وعملت على تأسيس شراكة تهدف لرفع نسب التوطين وتحفيز القطاع الصناعي الخاص للنمو من خلال العمل توطين نحو 36 ألف وظيفة في القطاع الصـناعي حتى 2021 بعد تفعيل الممكنات من الحوافز والبرامج التي تدعم التوظيف والتدريب، ومتابعة ورصد أثر البرنامج في القطاع الصناعي وتطوير التشريعات والأنظمة.
من جهة أخرى، يرى مختصون أن التجارب العربية في هذا المجال وخاصة رؤية “السعودية 2030” ورؤية “الكويت 2035” الساعية إلى تنويع مصادر الدخل الوطني والخروج من التبعية للنفط والغاز والمواد الأولية الأخرى ذات القيمة المضافة المتدنية، تفتقد إلى خريطة لتطوير صناعات تحويلية متكاملة تخلق قيمة مضافة عالية وفرص عمل كافية إضافة إلى تعزيز روح الإبداع بدلًا من المشاريع الكبيرة التي تعتمد قصرًا على كثافة رأس المال.
@RashidALFowzan
توطين الصناعة للأسف شركة سعودية تأخذ امتيازات بإسم توطين الصناعة والله مافيها ولا سعودي الا الستترال والسيكورتي والمعقب
— محمد العزيزي (@abu_nader18) December 12, 2012
قرار سياسي
وفي سياق ذي صلة، يُمكن القول إنه لا يوجد موانع كبرى وعوائق أمام الدول العربية في تحقيق طفرة نوعية في مجال توطين كل الصناعات على أراضيها، إلا أن القرار والإرادة السياسية هي المحدد الرئيسي في هذا الخيار الإستراتيجي والتنموي (السيادي)، ويتمثل خاصة في طريقة توظيف رأس المال وتغيير أولويات التحالفات مع دول أخرى منعًا لاستمرار التبعية العربية للخارج وتواصل ارتهان قرارها السياسي لاحتياجاتها الاستهلاكية والتنموية.
لذلك يُمكن لتوطين الصناعات واستغلال الطاقات البشرية وتنميتها وتنويع مصادر الدخل، تقليل الديون الخارجية ذات الفوائد الكبيرة التي تستنزف الميزانيات، ويحقق نوعًا من السيادة، فالأمم التي تسعى للنهوض ومواجهة التحديات والضغوط الخارجية وتسعى إلى تنمية مستدامة وشاملة، عليها تحقيقها اكتفائها الذاتي في كامل مناحي الحياة (من الإبرة إلى الطائرة والصاروخ).
بالمحصلة، إن توطين الصناعة والأدمغة في عالمنا العربي لن يرتقي بقيمة المنتج ومكانته عالميًا، إلا بالانتقال إلى مرحلة متقدمة من التخطيط الإستراتيجي القائم على نظم الذكاء الصناعي لتقييم الأوضاع والقرارات ومتابعة خطوات التنفيذ، إضافة إلى التركيز في مرحلة أخرى على اختراع منتجات جديدة أو إعادة اختراع منتج موجود والأهم من ذلك ابتداع طرق جديدة في عمليات التسويق والتجاوب مع متطلبات السوق.