يناير/كانون الثاني 2011، كان نظام بن علي القمعي يترنح نتيجة إصرار التونسيين على إسقاطه ومحاسبة دعائمه، فجأة غردت وزيرة الخارجية الفرنسية حينها ميشال آليو ماري خارج السرب، مؤكدة استعداد بلادها تقديم يد المساعدة للرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي لقمع الاحتجاجات الشعبية الواسعة في تونس.
ظن الجميع أن هذا الموقف شاذ، فمعروف عن مسؤولي فرنسا خطاباتهم الداعمة للديمقراطيات وحرية الشعوب، لكن بمرور الأيام تيقن العديد من التونسيين أن الموقف الرسمي الفرنسي تجاه ثورتهم هو نفسه موقف وزيرة الخارجية، الفرق أن ميشال آليو ماري تكلمت وباريس صمتت، مكتفية بالإعراب عن الأسف وداعية إلى التهدئة دون إدانة صريحة لنظام بن علي الوحشي.
مباشرة بعد سقوط نظام حليفهم الأهم في منطقة شمال إفريقيا بن علي، شهد الموقف الفرنسي تغيرًا كبيرًا، حيث تخلت باريس عن الحذر الشديد الذي كانت تتوخاه منذ بداية الأزمة في تونس ونبذت زين العابدين بن علي، مؤكدة دعمها للتحرك الشعبي الذي أطاح به.
مصالح إستراتيجية
مواقف غامضة لم ينسها التونسيون ولا العرب إلى الآن، خاصة أن فرنسا التي تبدي علنًا دعمها لثورات الربيع العربي، ما فتئت تدعم سرًا الثورات المضادة في العديد من الدول على غرار ليبيا والجزائر واليمن ومصر، رغبة منها في إعادة إحياء نفوذها في المنطقة وإحكام السيطرة على خيراتها.
يرى المحلل المغربي عبد الوهاب السحيمي أن تدخل فرنسا في الدول العربية ودعمها لقوى الثورات المضادة في المنطقة، يفسر برغبة باريس إبقاء الوضع كما كان قبل يناير/كانون الثاني 2011، بما يضمن استمرار مصالحها ودوام نهب خيرات ومقدرات الشعوب.
ويقول السحيمي في حديث لنون بوست: “تسعى فرنسا لضمان مصالحها الاستعمارية عن طريق عملاء داخليين لها، فهي لم تخرج من مستعمراتها السابقة عسكريَا سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلا بعد أن مكنت عملائها من مفاصل الدولة وجعلتهم على هرم السلطة سواء السياسية أو العسكرية أو الأمنية أو المخابراتية”.
وأضاف “لا يمكن أن تفرط فرنسا بسهولة في هؤلاء العملاء، فهم صمام أمان لضمان مصالحها في المنطقة العربية، لذلك تعمل اليوم جاهدة وبشكل مفضوح جدًا، على دعم الثورات المضادة، فتدخلها لم يعد خافيًا على أحد في دعم القوى الاستبدادية لتعود للسلطة بعد أن رمت بهم الشعوب خارجًا”.
تسعى الحكومة الفرنسية من خلال دعمها قوى الثورات المضادة في العالم العربي إلى ضمان صفقات بيع الأسلحة لدول المنطقة
يتابع المحلل المغربي “فرنسا التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان داخليًا، هي نفسها التي تدعم العسكر في الجزائر وليبيا ومصر وهي نفسها التي تعمل جاهدة على تعطيل المسلسل الديمقراطي في تونس، وتعمل على دعم المغرب لردع وقمع الانتفاضات منذ 2011، بدءًا بحركة 20 فبراير، ثم حراك الريف وحراك جرادة ووطاط الحاج وغيرها من الانتفاضات الشعبية التي لا تطالب إلا بالكرامة والعدالة والعيش الكريم”.
ويؤكد عبد الوهاب السحيمي ضرورة التصدي للمناورات الفرنسية، قائلًا: “فرنسا سرطان وجب استئصاله من الدول العربية وعموم دول العالم الثالث وخاصة دول القارة الإفريقية، ولا يمكن تحقيق هذا الاستئصال إلا بثورة شعبية حقيقية تحقق اقتلاعًا جذريًا لفرنسا وعملائها من هذه الدول وتحييدها من استغلال ثروات الشعوب”.
“كي تنجح هذه الثورة الشعبية لا بد أن تتبعها ثورة ثقافية واسعة تجعل الشعوب المحصن الأول والأخير لمكتسباتها وتقف سدًا منيعًا في وجه أي تسلل لاستعمار فرنسي جديد”، وفق قول المحلل المغربي لنون بوست.
خيرات المنطقة
دعم فرنسا لعرابي الثورات المضادة في العالم العربي، الهدف منه مواصلة التحكم في خيرات هذه الدول واستنزاف مواردها الطبيعية، فباريس ترى أن مصلحتها تكمن في وجود أنظمة قمعية لا ديمقراطية، فهذه الأنظمة ستمكنها من ثروات دول المنطقة، مقابل دعمها والسكوت عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
وتحاول فرنسا في الجزائر مثلًا الحفاظ على الامتيازات التي تمتلكها، فهي تملك امتيازات عديدة هناك في شتى المجالات الاقتصادية والتجارية، من ذلك السماح بدخول شركات فرنسية عملاقة للسوق من دون شراكة مع رؤوس أموال جزائرية، عكس ما ينص عليه قانون الاستثمار الجزائري الذي يلزم الأجانب بإشراك طرف محلي بحصة 51% في أي مشروع يقام في البلاد.
وتسعى باريس لتهيئة الطريق أمام العملاق الفرنسي الناشط في قطاع الطاقة “توتال” للاستحواذ على نفط الجزائر من خلال شراء أصول العملاق الأمريكي “أناداركو” هناك، وتعتبر هذه الأخيرة أول منتج خاص للنفط في الجزائر.
تلعب شركة “توتال” دورا كبيرا في سياسة فرنسا الخارجية
تطور هذه الشركة حقول النفط في كل من منطقة “حاسي بركين” و”أرهود” و”المرك” الواقعة في حوض بركين في ولاية إليزي الجزائرية، وتقدر حيازاتها في الجزائر بنحو 260 ألف برميل يوميًا من النفط، أي ما يزيد على ربع إنتاج البلاد النفطي المقدر بمليون برميل يوميًا.
نفس الشيء في ليبيا، ففرنسا تسعى من خلال دعمها لقوى الثورة المضادة المتمثلة في خليفة حفتر للاستحواذ على أكبر حصة من النفط الليبي مستقبلًا والحصول على امتيازات جديدة من النفط الليبي الذي تقدر احتياطاته بنحو 48.36 مليار برميل أي بنحو 3.94% من احتياطي العالم (الاحتياطي الخامس عربيًا).
وتأمل السلطات الفرنسية في انتزاع أكبر حصة للتنقيب والاستكشاف والإنتاج والصيانة لشركاتها العاملة في هذا المجال على رأسها “توتال”، حتى لا تترك المجال مفتوحًا أمام شركات تمثل مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والجزائر وروسيا وإيطاليا.
تأمين صفقات بيع السلاح
تسعى الحكومة الفرنسية من خلال دعمها قوى الثورات المضادة في العالم العربي إلى ضمان صفقات بيع الأسلحة لدول المنطقة، فهذه الصفقات كفيلة وحدها بحجب شمس انتهاكات حقوق الإنسان للأنظمة القمعية ضد شعوبها.
حسب تقرير حكومي فرنسي تعده وزارة الجيوش سنويًا للبرلمان، ارتفعت صادرات السلاح الفرنسي سنة 2018 بـ30% مقارنة بـ2017، حيث بلغت قيمتها 9.1 مليار يورو في 2018، ووجهة نصف المبيعات هي الشرق الأوسط لا سيما المملكة العربية السعودية ومصر.
وحصيلة الطلبيات خلال الفترة بين عامي 2009 و2018 تضع السعودية في المرتبة الثانية في قائمة المستوردين بعد الهند، إذ اشترت الرياض ما قيمته 11.3 مليار يورو من الأسلحة الفرنسية، وفي 2018 طلبت السعودية سفنًا دورية بنحو مليار يورو.
سياسات فرنسا الميالة بشكل لافت للتحالف مع الاستبداد وقوى الثورة المضادة في العالم العربي، يفهم منها تفضيل الفرنسيين للديكتاتوريين على الديمقراطيين
من جهتها تحتل مصر التي اشترت بدورها طائرات رافال في 2015، المرتبة الرابعة خلال العقد الأخير بـ7.5 مليار يورو منذ 2009، فيما بلغت قيمة طلبيات دولة الإمارات العربية المتحدة للسلاح 200 مليون يورو.
وتأمل باريس في ارتفاع عدد صفقات السلاح مع هذه الدول العربية الثلاثة التي تعتبر الحلقة الأبرز للثورات المضادة، رغم يقينها أنها تخالف القوانين الدولية والمعاهدات التي وقعتها، ذلك أن هذه البلدان متهمة بارتكاب جرائم حرب وحتى جرائم ضد الإنسانية (السعودية والإمارات) أو قمع شعوبها (مصر).
ويحرك تصدير السلاح نحو هذه الدول العربية الصناعات الدفاعية في فرنسا، وينمي اقتصاد باريس، ذلك أن الوظائف في مجال صناعات السلاح تمثل 13% من مجمل الوظائف الصناعية في البلاد، مع 200 ألف وظيفة.
عداء حركات الإسلام السياسي
دعم السلطات الفرنسية للثورات المضادة يأتي أيضًا في سياق عدائها لحركات الإسلام السياسي في المنطقة، ذلك أن الثورات العربية في مجملها أفرزت فوز الإسلاميين في الانتخابات التي عرفتها عقب سقوط حكامها المستبدين.
وترى باريس أن حركات الإسلام السياسي تمثل تهديدًا للجمهورية الفرنسية، لذلك وجب القضاء عليها قبل أن تتمكن من الحكم في الدول العربية ويكون لها امتداد شعبي كبير يزيد قوتها.
تجد فرنسا في كل من عرابي الثورات المضادة في مصر والسعودية وليبيا والإمارات، خير عون لمساعدتها في هذا الأمر، فالقائمون على الثورات المضادة في تلك الدول همهم الأوحد القضاء على الإسلاميين بجميع أصنافهم رغم اختيار الشعب لهم.
سياسات فرنسا الميالة بشكل لافت للتحالف مع الاستبداد وقوى الثورة المضادة في العالم العربي، يفهم منها تفضيل الفرنسيين للديكتاتوريين على الديمقراطيين، رغم الشعارات التي ترفعها باريس، فالحفاظ على مصالحها يأتي في درجة متقدمة مقارنة بحقوق الإنسان وحق الشعوب في العيش بكرامة.