في منتصف فبراير الماضي، عاش الروس الذكرى الثلاثين لسحب آخر الجنود السوفييت من أفغانستان، بعد حرب مدمرة استمرت أكثر من تسع سنوات، وسجلت كأطول حرب في تاريخ روسيا بالقرن العشرين، ويبدو أن أفغانستان لم تبرح الذاكرة الروسية مطلقًا، خاصة مع تصعيدها في سوريا، وتشديد قبضتها على مكاسبها هناك، وإن كانت تعيش الآن صراعًا لا يقل حدة وتمسكها بالبقاء فيه رغم تعقد الأوضاع يجعل البعض يتساءل: كيف تقيم الحكومة الروسية الآن ما حدث مع الأفغان، والدورس والعبر التي خرجوا بها؟ وهل يمكن تلافي أزمات الماضي أم التجربة بكل إشكالياتها قابلة للاستنساخ في سوريا من جديد؟
كيف سقط السوفييت في أفغانستان؟
بخلاف سوريا وأسباب التدخل فيها، كان الموقع الجغرافي لأفغانستان يشكل أهمية إستراتيجية كبرى لروسيا القيصرية التي حكمت المنطقة بأكملها تحت اسم آسيا الوسطى، وضمت تحت هذه العباءة (كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان)، ولم يكن يفصل الممتلكات الروسية عن الهند الواقعة تحت السيطرة البريطانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلا أفغانستان، ولهذا اندلع صراع مفتوح بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية، بسبب خوف الإنجليز من أطماع الروس في أفغانستان والذهاب إلى حدودهم.
حتى لا يتفاقم الخوف وبالتبعية الصراع، اتفق الطرفان على أن تظل أفغانستان دولة عازلة مستقلة، ولكن السوفييت دبروا خطة للزحف على الأفغان، بدأت بمدهم بمساعدات اقتصادية حتى نما النفوذ السوفيتي في البلاد تدريجيًا، وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية.
ولكن جاء انقلاب محمد داود خان عام 1973 على الملك محمد ظاهر شاه الذي كان يحكم البلاد منذ عام 1933، ثم اغتيال داود خان عام 1978 في انقلاب جديد بقيادة محمد تركي، لتصبح المنطقة محل صراع دولي بين السوفييت وأمريكا، وخاصة بعد اختطاف سفير الأخيرة أدولف دوبس على أيدي مسلحين متنكرين في زي الشرطة، وعندما حاولت قوات الأمن إنقاذه، أطلق النار عليه وقتل، وهنا بدأت الاحتكاكات بين أمريكا وروسيا، واتهم مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، السوفيت بشكل واضح بالتواطؤ في مقتل سفيرهم.
أدولف دوبس
في يونيو 1979، كانت البلاد على موعد مع انقلاب آخر، من حفيظ الله أمين السياسي الأفغاني وأحد رجالات الدولة إبان الحرب الباردة، الذي تخوفت التقارير السوفيتية السرية من علاقاته بالولايات المتحدة وربطت بينه وبين الثورة الإسلامية في إيران بسبب خلفيته الفكرية والدينية المحافظة التي زادت من شعبية الإسلاميين، وبالتالي كان من الضروري إيقافه في أقرب وقت ممكن.
وبالفعل، في ديسمبر من نفس العام تدخل الاتحاد السوفيتي عسكريًا، واغتالت عناصر من القوات الخاصة التابعة للجيش الأحمر (جيش البلاشفة) الرئيس حفيظ الله أمين، واحتلت تلك العناصر التي كانت متنكرة بزي جنود أفغان، منشآت حكومية رئيسية في العاصمة كابول، ليبدأ بذلك الغزو السوفيتي لأفغانستان، ويفتح ساحة حرب دموية.
دخل السوفييت الحرب بمجموعة حجج على رأسها أن الوضع المتدهور في أفغانستان يهدد أمن حدودهم الجنوبية، ما قد يمكن للولايات المتحدة ودول أخرى من الاستفادة منها، مما يعني أن أفغانستان ستصبح قاعدة مستقبلية للولايات المتحدة على حدودهم، ولكن كل هذه الحجج لم تردع التحرك الدولي الذي جاء سريعًا بمقاطعة أكثر من 50 دولة – بما في ذلك الولايات المتحدة – للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1980 في موسكو، كما تسبب الغزو السوفييتي في إشعال حدة التوترات بين واشنطن وموسكو.
لم ينجح السوفييت في تسويق مبرراتهم عن الحرب التي أخذت تارة نبرات تتحدث عن الخوف على أمن الاتحاد من أطماع الولايات المتحدة، وتارة من المتطرفيين الدينيين، لكن في المقابل نجحت الولايات المتحدة في قيادة واحدة من أنجح برامج العمل السري خلال الحرب الباردة، حيث دشنت برامج مساعدات مكثفة للمجاهدين الأفغان، بحسب الوثائق التي رُفعت عنها السرية مؤخرًا في البيت الأبيض والسي آي إيه ووزارة الخارجية، ووقع الرئيس جيمي كارتر بنفسه على التوجيه الخاص لتسليح الجهاديين الأفغان في يوليو 1979.
في ديسمبر 1991 انهار الاتحاد السوفييتي وانخفضت المطرقة وعلم المنجل للمرة الأخيرة فوق الكرملين
قدمت وكالة الاستخبارات المركزية ملايين الدولارات سنويًا للمجاهدين الأفغان، خاصة بين عامي 1981 و1983، وتكفلت السعودية ومعها العديد من البلدان العربية بدعم مماثل، وكانت أصوات النظام السعودي تتعالى في وسائل الإعلام والمساجد للمطالبة بمساندة الجهاد ضد الشيوعية والشيوعيين، وفي الوقت نفسه، لعبت رابطة العالم الإسلامي الدور الأكبر في إرسال الأموال اللازمة للحرب، بجانب تبرعات العديد من رجال الأعمال المسلمين ومنهم أسامة بن لادن الذي استخدم موارده الخاصة لمساعدة المقاومة الأفغانية، خاصة أنه كان من بين أوائل العرب الذين وفدوا للمشاركة في الجهاد منذ عام 1980 واستمر طوال الحرب بأكملها.
قُتل ما يقرب من 15000 جندي سوفيتي وجرح 35000 آخرين، وأصبحت الحرب مستنقعات مظلمة وكابوس لم يشهده الاتحاد السوفيتي على مدار تاريخه، كانت الرسائل تنهمر على ميخائيل غرباتشوف رئيس الدولة في الاتحاد السوفييتي السابق منذ أن كان رئيسًا للحزب الشيوعي السوفيتي بين عامي 1985 و1991، يتحدث فيها مواطنون عن عدم رضاهم تجاه سير الحرب في أفغانستان، كما كانت تصله رسائل حزن الأمهات على الموتى والمعاقين وأوصاف الجنائز، ومن ثم أصبحت فاتورة الدم المرتفعة للغاية، تفوق أي فوائد جغرافية إستراتيجية للاتحاد السوفيتي.
في أبريل 1988، وقع السوفييت على اتفاقيات جنيف لتعزيز حسن الجوار والتعاون وتعزيز السلام والأمن الدوليين في المنطقة، ووعد الاتحاد في المقابل بسحب قواته من أفغانستان، وبالفعل في 15 من فبراير 1989، عبرت وحدات الجيش الأحمر جسر ترمز إلى الاتحاد السوفييتي، وقال غورباتشوف عباراته الشهيرة في تبرير الهزيمة والانسحاب بأنه “نزيف الجرح”.
بعد ما يقرب من عامين، في ديسمبر 1991 انهار الاتحاد السوفيتي وانخفضت المطرقة وعلم المنجل للمرة الأخيرة فوق الكرملين، انهار الاتحاد السوفيتي بسبب مجموعة معقدة من الأسباب التي تضمنت العوامل السياسية والأيديولوجية والإنفاق الدفاعي الباهظ للبلاد، وكذلك رغبة المجتمعات العرقية في آسيا الوسطى والقوقاز والجمهوريات الغربية ودول البلطيق في الاستقلال عن السوفييت.
الدرس المستفاد من الحرب الأفغانية
لا يمكن القول إن الأفغان وحدهم الذين هزموا الاتحاد السوفيتي وفتحوا الباب لتفكيكه، بل هزمه المسلمون من كل بقاع الأرض بمختلف التوجهات والمسميات، فقبائل الهزارة الذين يتحدثون الإيرانية ويعيشون في أفغانستان كانوا يريدون الثأر لحفيظ الله أمين، وهؤلاء أعلنوا جمهورية إسلامية مستقلة في خزاراجات برئاسة اتحاد المحاربين الإسلاميين في أفغانستان وبدعم من إيران، وبشكل عام لم يكن المجاهدون قوة سياسية واحدة، وكذلك لم تكن تحكمهم أيديولوجية واحدة، حتى حركة طالبان الشهيرة لم تكن وقتها من المجاهدين بل نشأت بعد عدة سنوات من الانسحاب السوفيتي.
كان للمعارضة الإسلامية القوة الضاربة، ولكنها لم تستطع وحدها فعل كل شيء، حيث ساهم تغير موقف الإدارة الأمريكية منها، في السماح بانضمام نحو 35 ألف شخص عام 1979 لمعسكرات التدريب في باكستان، وكان هؤلاء جميعًا يستعدون للقتال أولًا مع النظام الموالي للاتحاد السوفيتي، ثم مع القوات السوفيتية، وتطورت قوة الجهاديين، ومنعت الجيش السوفييتي من هزيمتهم، مما أجبر غورباتشوف على التخلي عن الأعمال العدائية النشطة ضد الحركات الانفصالية داخل الاتحاد السوفييتي.
كانت ضربة مزدوجة، إذ تسبب انسحاب السوفييت على هذا النحو، في تشجيع الانفصاليين على مواجهة موسكو بشكل فعال، وهي الأخطاء التي اعترف بها الرئيس الحاليّ فلاديمير بوتين عام 2015، الذى يرى دائمًا في انهيار الاتحاد السوفييتي مأساة يجب أن تستفيق روسيا منها سريعًا وتستعيد مكاناتها القديمة، ولهذا جعل دوره في سوريا كلاعب أساسي على الساحة العالمية، ما يمكن بلاده من استعادة تلك المكانة، وبعدها انطلق إلى ليبيا والنظام الفنزويلي وجورجيا وأوكرانيا، وهنا دروس للداخل والخارج، فكما تحتاج روسيا إلى حشد دولي لإنجاح مخططاتها في سوريا، يحتاج الطرف الآخر إلى نفس الأمر، ودون دعم دولي واضح وإقليمي ومالي، لن يكون هناك حل قريب للأزمة.
المخاطرة الروسية بتكرار الفشل الأفغاني في سوريا
قد يرى البعض أن روسيا استوعبت الدرس الأفغاني جيدًا، لهذا تبدو اليوم أكثر قوة بعد أن حللت الظروف العسكرية والعوامل السياسية التي تخبطت فيها لانتهاج طرق أخرى تحقق لها مستوى عاليًا من المنفعة الجيوسياسية، ومن هذا المنطلق، لا يمكن أن تمتنع روسيا عن التورط في أي صراع يؤثر على مصالحها بغض النظر عن التجارب السابقة، وبالتالي وجودها بأي من مناطق النزاع بالشرق الأوسط، هو حماية في المقام الأول للمصالح الروسية في كل بلد من بلدان المنطقة، وحماية للنفوذ والتأثير، لا سيما بالبلدان التي حققت فيها اختراقات دبلوماسية وسياسية عسكرية خلال السنوات الماضية، وعلى رأسهم سوريا.
لكن في المقابل، قد تخاطر روسيا بالوقوع في مستنقع آخر لا نهاية واضحة له، وقد يكون أسوأ من المستنقع الأفغاني، ما لم تساعد في تنظيم عملية انتقال سياسي في سوريا وإنهاء النزاع المستمر منذ 9 سنوات، عبر إشراك الجهات الفاعلة ذات الصلة في ذلك، فالتجارب التاريخية تؤكد جميعها أن ممارسة نفوذ بلدان خارجية على الأطراف المعنية مباشرة بالنزاع لم ينتهي أبدًا بحل الأزمات.
لا يمكن روسيا النجاح بالتدخل العسكري، ما لم يكن هناك دعم محلي كافٍ لمواصلة القتال
صراع السنوات الماضية في المنطقة يؤكد بلا شك أنه لا يوجد حل عسكري في سوريا، بل الحل يكمن في دفع شروط التحول السياسي، وقد يكون من المناسب العودة لما استنتجه الإستراتيجيون الروس، من حرب أفغانستان، فمحاولة تشكيل حلفاء محليين على نفسك منهجك، لن يأتي بجديد أو بانتصار، حتى لو مكنت لهم في الأرض، ويمكن العودة إلى خسائر الاتحاد السوفييتي الفادحة، فيما سمي بقوات جمهورية أفغانستان الديمقراطية، التي صرف عليها ما يزيد على 50 مليون دولار، وبمجرد إيقاف المساعدات وانسحاب موسكو، تفوق الجهاديون وسحقوهم تمامًا.
لا يمكن روسيا النجاح بالتدخل العسكري ما لم يكن هناك دعم محلي كافٍ لمواصلة القتال، والدعم المحلي هنا لا يمكن قياسه بنظام الأسد وحده، فالسوفييت في السابق مكنوا السلطات الأفغانية التابعة لهم من التمسك بالأراضي التي استولت عليها القوات السوفيتية، ولكن بمجرد ابتعادهم عن المشهد، أصبحت معظم الأراضي في أيدي المتمردين.
قد تكون روسيا في حاجة لإجراء مماثل لما فعلته خلال الأزمة الأفغانية، عندما قررت وزارة الدفاع السوفيتية إرسال قادة المنطقة العسكرية إلى أفغانستان لعدة أيام لتعلم الدروس المستقاة من الصدام، بعد أن أصبحت قصة زوال الإمبراطورية السوفيتية تجربة مريرة يجب دائمًا السعي لتصحيحها، وحتى لا يتكرر ذلك، يجب أن تساند روسيا الحل السياسي وتسعى لدفعه للأمام، وإلا فالتاريخ لا يكذب ولا يتجمل!