الفيروس المستجد “كورونا” الذي انتشر في معظم الدول وتحول إلى خطر داهم يهدد الجميع، تحول أيضًا إلى وباء تعمل كل دولة، على حدة، للحد من انتشاره وتوسعه ودخوله إلى أراضيها وإصابة مواطنيها به في ظل شبه غياب جدي وحقيقي لجهد مشترك وعالمي لمواجهة ومكافحة هذا الفيروس، على الرغم مما تقوم به منظمة الصحة العالمية.
لبنان إحدى تلك الدول التي وصل إليها الفيروس، ويعاني اليوم منه ومن مخاطره، واتخذ مجموعة إجراءات لمكافحته واحتوائه ومنع انتشاره، إلا أن كل هذه الجهود والإجراءات لم تثمر نتائج جيدة وطيبة، ولم تمنع من إصابة اللبنانيين به ومن وضع حد لانتشاره بينهم، وهو ما أكده وزير الصحة اللبنانية حمد حسن، يوم الجمعة (6/3/2020) عندما اعترف أن لبنان انتقل من حالة احتواء الفيروس إلى انتشاره، علمًا أنه قبل أقل من 48 ساعة على هذا الاعلان أشار إلى أن الأمور في لبنان مطمئنة وتحت السيطرة.
من أين وصل الفيروس إلى لبنان؟
في الـ21 من شهر فبراير/شباط الماضي أعلن وزير الصحة اللبنانية تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا لسيدة عمرها 45 عامًا كانت قادمة على متن طائرة إيرانية من مدينة قم الإيرانية، وجاء تسجيل الإصابة والاشتباه ببقية المسافرين على متن الرحلة بعد ظهور أعراض الكورونا على بعضهم، وبعد سجال ومطالبة داخلية بضرورة إخضاع المسافرين على متن تلك الرحلة للفحص، وهو ما حصل لاحقًا ليتأكد في ضوء ذلك تسجيل أول إصابة، واتخاذ الإجراءات الصحية بحقها، ومن ثم إخضاع بقية المسافرين للفحص، ولكن بعد أن كان قد سُمح لهم بالذهاب إلى منازلهم ومخالطة أقربائهم وأصدقائهم، ليتبين لاحقًا إصابة أعداد أخرى منهم بفيروس كورونا.
الإجراءات التي اعتمدت في المطار وتجاهلت ابتداءً المعابر البرية، كانت إجراءات شكلية تم فيها الاكتفاء بفحص حرارة القادمين
على هذا الأساس فإن مصدر وصول الفيروس إلى لبنان كان إيران، وعبر بعض المسافرين الذين كانوا يزورون بعض المدن الإيرانية.
الإجراءات التي اعتمدتها بيروت
فور التأكد من أول إصابة بالكورونا في لبنان، اتخذت الحكومة اللبنانية جملة إجراءات لاحتوائه والحد من انتشاره، إلا أنها كانت إجراءات شكلية في أغلبها وغير جدية في حقيقتها.
فقد تأخرت الحكومة أولًا في اتخاذ أي إجراء حتى ولو كان شكليًا حيال الفيروس إلا تحت وطأة الضغط الإعلامي، علمًا أن الحديث عن انتشار فيروس كورنا في العديد من دول الجوار أو في مصدره الأساسي بالصين، كان قد تعاظم وصار حديث الساعة، غير أن الحكومة لم تأبه لهذا التحدي والتهديد، فتأخرت في فرض أي إجراءات جدية، وعندما اكتشفت وصول الفيروس إلى لبنان، أخذت إجراءات شكلية سمحت بموجبها للمشكوك بحملهم الفيروس بالاحتكاك بغيرهم من الناس مع ما يعنيه ذلك من إمكانية واحتمال انتقال الفيروس إلى غيرهم، وطلبت منهم الحجر المنزلي في مجتمع ليس فيه أي ضوابط للعلاقات الاجتماعية والأسرية على وجه التحديد.
كما أن الإجراءات التي اعتمدت في المطار وتجاهلت ابتداءً المعابر البرية، كانت إجراءات شكلية تم فيها الاكتفاء بفحص حرارة القادمين وتوجيه بعض الأسئلة إليهم، ومن ثم بعد ذلك السماح لهم بالتوجه إلى منازلهم أو الخضوع للحجر الصحي في المستشفى الذي خُصص لذلك، وقد انتقد بعض الذين وصلوا على متن طائرات قدمت إلى لبنان هذه الإجراءات البسيطة، وأظهرت النتائج فيما بعد إصابة العديد ممن كانوا على متن تلك الطائرات بالفيروس.
ثم إن الحكومة تأخرت في فرض إجراءات حقيقية عند المعابر البرية مع سوريا، وهي بالمناسبة إجراءات شكلية أيضًا، ما سمح بدخول المزيد من المصابين بالفيروس إلى لبنان، ووصلت حصيلة المصابين به الذين اعترفت وزارة الصحة اللبنانية بهم إلى أكثر من عشرين إصابة، فيما عدد الخاضعين للحجر الصحي في المستشفى أو في المنازل إلى عشرات، بينما لم تتماثل إلى الشفاء إلا حالة واحدة، وهو ما دفع وزير الصحة اللبنانية حمد حسن، إلى الإعلان أن لبنان انتقل من حالة احتواء الفيروس إلى حالة انتشاره، وهو ما يهدد بإصابة المزيد من اللبنانيين به.
إجراءات تربوية واجتماعية
انتشار الفيروس بهذا الحجم في لبنان استدعى من زارة التربية والتعليم العالي اتخاذ قرار بإغلاق المدارس والجامعات وحضانات الأطفال لمدة أسبوع كامل، ثم جرى تمديد الفترة إلى أسبوع إضافي تنتهي يوم الـ16 من مارس/آذار الحاليّ، على أن يصار إلى تحديد الموقف بعد ذلك في ضوء النتائج، مع ما يعنيه ذلك من ضرر بالغ لحق بالعام الدراسي والجامعي، وقد وزعت الوزارة على الطلاب إرشادات لكيفية التعامل مع هذه المرحلة.
كما أن وزارة الصحة طلبت من اللبنانيين التقليل قدر الإمكان من التجمعات في المناسبات والأسواق واللقاءات وغير ذلك، وهو ما استدعى إلغاء الكثير من المناسبات الاجتماعية والمؤتمرات واللقاءات البحثية أو السياسية أو الاجتماعية وغيرها، وهو ما زاد من منسوب القلق والخوف عند اللبنانيين، وانعكس طلبًا متزايدًا على “الكمامات” الواقية والحامية لجهاز التنفس، ما أدى إلى ارتفاع سعرها لدى الصيدليات إلى أسعار خيالية، وصولًا إلى نفادها من السوق.
سجال سياسي وانتقاد للحكومة
كأن حكومة الرئيس حسان دياب التي سماها حكومة مواجهة التحديات، لم يكن يكفيها حجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي تنتظرها حتى تجد نفسها أمام تحدٍ من هذا النوع، والحقيقة أنها فشلت في مواجهته وفقدت جزءًا من الثقة التي كانت تحاول أن تنسجها بينها وبين اللبنانيين، وتعرضت الحكومة لسيل من الانتقادات من أطراف سياسية معارضة لها، ومن وسائل إعلام كثيرة همها وهدفها ملاحقة أي تقصير.
لبنان اليوم بات أمام تحدٍ ليس سهلًا، فالاعتراف بالانتقال إلى حالة انتشار الفيروس يستدعي إجراءات أكثر صرامة للعودة إلى حالة الاحتواء
لقد جرى تحميل الحكومة مسؤولية التقصير في وضع إجراءات جدية وحقيقية لمنع دخول الفيروس إلى لبنان، من ذلك على سبيل المثال وقف الرحلات الجوية من وإلى الدول التي تفشى فيها الفيروس، وكذلك منع مواطنيها أو مواطني تلك الدول من دخول لبنان، وأيضًا اتخاذ إجراءات صارمة حيال كل من يأتي من تلك الدول إلى لبنان أو حتى مع كل قادم، غير أن النقد للحكومة وُجه على قاعدة أنها تراخت في الإجراءات وتعمدت عدم إظهار بعض الحقائق، لأن المسألة تتصل بقوة سياسية مهيمنة على قرار الحكومة وعلى صلة وطيدة بدولة تفشى فيها الفيروس.
لقد ظهر عجز الحكومة وقلة حيلتها أمام هذا المشهد، ولذلك شهدت الأروقة اللبنانية سجالًا بين أطراف في الحكومة وأطراف خارجها انتقدت الطريقة التي جرى بها التعامل مع الفيروس، وإن كان الانتقاد لا يخلو من خلفية سياسية تتصل بالموقف السياسي العام للأطراف الداخلية والخارجية من الأحداث، وهو ما دفع رئيس الحكومة حسان دياب، إلى الاعترف بأن الدول باتت غير قادرة على حماية مواطنيها.
لبنان اليوم بات أمام تحدٍ ليس سهلًا، فالاعتراف بالانتقال إلى حالة انتشار الفيروس يستدعي إجراءات أكثر صرامة للعودة إلى حالة الاحتواء أو الانتهاء منه، ولا يبدو حتى الساعة أن الحكومة أو القوى المُسيرة لها ستتخذ مثل هذه الإجراءات، بل على العكس من ذلك فإنها قد تستغل هذه الحالة للتهرب من استحقاقات وتحديات أخرى على المستوى الاقتصادي، سواء أمام اللبنانيين أم أمام الدول والجهات التي لها استحقاقات مالية على لبنان.