ترجمة وتحرير: نون بوست
كان أنور كسّار يتناول الشاي مع أحد الجيران قبل ساعات من إطلاق النار عليه وحرقه حتى الموت. رأى جاره أن الوقت قد حان للمغادرة، إذ اندلع العنف بين الهندوس والمسلمين في الجوار وظهرت شائعات حول العصابات التي تستهدف المسلمين. ومع ذلك، قال أنور إنه لن يبارح مكانه، ويتذكر جاره أنه على الرغم من أنه وشقيقه كانا العائلة المسلمة الوحيدة في البلدة، إلا أن هذا المكان هو منزله لأكثر من 30 سنة، وأن ما كان سيحدث هو مصيره.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، سحب العشرات من الرجال أنور، الذي يبلغ من العمر 58 سنة، من منزله وأطلقوا النار عليه وألقوا به في النار في وضح النهار، على حد قول شاهدين أحدهما شقيقه الأصغر سليم كسار، البالغ من العمر 52 سنة. ويُذكر أن سليم شاهد الحادثة من نافذة في الطابق الثالث.
مرت أكثر من عشرة أيام منذ أن سقطت دلهي في دوامة العنف بمستوى لم يسبق له مثيل منذ عقود، وما زال حجم الكارثة الحقيقي لعمليات إراقة الدماء يتّضح. لا شك أن ما حدث كان أسوأ بكثير مما يعرفه الناس في البداية، إذ قُتل أو أُصيب بجروح بالغة ما لا يقل عن 53 شخصًا في أعمال عنف استمرت لمدة يومين، ولا تزال حصيلة القتلى في ارتفاع مستمر.
كان غالبية القتلى من المسلمين، حيث تعرضوا لإطلاق النار أو الاعتداء أو الحرق حتى الموت. بالإضافة إلى ذلك، قُتل ضابط شرطة وضابط مخابرات، وتعرض أكثر من 12 هندوسيًا إلى العنف، سواء بإطلاق النار عليهم أو التعرّض للاعتداء. في المقابل، واجهت قوة الشرطة التي تشرف عليها الحكومة المركزية مباشرة انتقادات لفشلها في وقف العنف. وفي الواقع، يقول شهود إن بعض الضباط انضموا إلى الهجمات على المسلمين.
لقد تبيّن أن هذا الحدث هو الأعنف من بين أعمال العنف بين الهندوس والمسلمين في العاصمة الهندية منذ سنة 1950 على الأقل، خاصة عندما أصبحت الأرقام الموثوقة متاحة للعموم. ويأتي ذلك وسط توترات متزايدة حول جدول أعمال رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي سعى إلى التأكيد على الأسبقية الهندوسية في الهند من خلال تدابير تشمل قانون الجنسية المثير للجدل الذي وقع إقراره في كانون الأول/ ديسمبر.
صورة لأنور كسار، الذي يبلغ من العمر 58 سنة، أحد سكان حي شيف فيهار في دلهي.
كُشفت هذه الوحشية مع قيام الرئيس ترامب بأول رحلة رسمية له إلى الهند، وهي زيارة استغرقت 36 ساعة وتضمّنت يوما من الاجتماعات في وسط دلهي. عندما تناول ترامب الغداء مع مودي في 25 شباط/ فبراير في قصر من الحجر الرملي الذي وقع بناؤه في الأصل لأمير، تغيرت حياة الكثيرين إلى الأبد على بعد 10 أميال.
كان أنور، وهو أرمل، يعيش بمفرده في كوخ مكون من غرفة واحدة يقع في الأزقة الضيقة المزدحمة في حي يُسمى شيف فيهار. في شبابه، كانت وظيفته كي الملابس وفي السنوات اللاحقة، أصبح يُؤجّر عربات للبائعين ويربي الماعز في قطعة أرض صغيرة شاغرة. كان شقيقه سليم، سائق عربة التوكتوك، يعيش في الشارع المجاور مع زوجته وأطفاله.
في الحقيقة، حلّت المشاكل على المنطقة بسرعة. ففي 24 شباط/ فبراير، اندلعت أعمال عنف واسعة النطاق بين الهندوس والمسلمين بعد خطاب استفزازي من أحد أعضاء حزب مودي الحاكم بهاراتيا جاناتا، الذي هدد فيه المعارضين لقانون الجنسية.
قال سليم إنه في صباح اليوم التالي، خرج من منزله الضيق المتكوّن من غرفتين فقط ليشاهد عربته تتعرض للتخريب. كان العديد من الشباب يدفعونها بعيدا لإضرام النار فيها. عندها، هرع الرجل إلى الداخل وصرخ على زوجته نسرين وأطفاله الخمسة، أصغرهم يبلغ من العمر سبع سنوات وأكبرهم 20 سنة، ليهربوا إلى الخارج. غادروا سريعا ولم يكن لديهم وقت لارتداء أحذيتهم.
على بُعد بابين إلى الأسفل، كانت البوابة الحديدية ذات اللون الماروني لمنزل جاره مفتوحة، فركض جميع أفراد عائلة سليم إلى الداخل. في ذلك الوقت، قال سليم لجيرانه في يأس “إن هناك عصابة آتية”. نتيجة لذلك، أغلقوا البوابة وأمروا الجميع بالصعود إلى الطابق العلوي. وفي الطابق الثالث، حبس سليم عائلته في غرفة وركض باتجاه نافذة مطلة على منزل شقيقه.
سليم كسار، الرجل الجالس، مع زوجته إلى اليسار، وثلاثة من أولاده. عندما اندلعت أعمال الشغب في دلهي في أواخر شباط/ فبراير، راقب سليم مقتل شقيقه الأكبر على يد العصابة.
يتذكر سليم أنه شاهد حشدًا من بضع مئات من الأشخاص، معظمهم يرتدون خوذات ومسلحين بالعصي والسيوف والمسدسات الصغيرة، كما سمع صيحات “النصر للرب رام” التي تميّز القوميين الهندوس والحزب الحاكم. وفي خوف وحالة يأس، شاهد مقتل أخيه أنور. والجدير بالذكر أن سليم وجيتندرا كومار، وهو رسام يعيش في المنطقة، قدّما روايات مماثلة ولكنها مستقلة عن وفاة أنور. كما قدم شهود آخرون تفاصيل تطابقت مع وصف سليم وكومار للأحداث.
أولًا، قامت العصابة بتخريب منزل أنور وإلقاء ملابسه ومؤنه من الباب وإشعال النيران فيها، على حد قول سليم. وأضاف أن أنور كان يلعن مثيري الشغب وهم يدمرون منزله. في المقابل، كان بعض الرجال يمسكون بذراعي أنور بينما أطلق عليه شخص آخر النار مرتين، ثم ألقته العصابة في النار. حاول أنور الوقوف على قدميه ولكنه أصيب بطلق ناري للمرة الثالثة. بعد ذلك، رفع المهاجمون عربة ريكشا ووضعوها فوقه ليحاصروه في النيران.
لكن العصابة لم تتوقف عند ذلك الحد، فكانت محطتهم التالية منزل سليم، حيث قام المتظاهرون بجولة في المنزل الصغير، محطمين كل شيء في الأفق، وذلك وفقا لما أفاد به عدد من جيرانه، ثم أشعلوا النار فيه. قال الجيران إنهم صرخوا وطلبوا من العصابة التوقف خوفًا من اشتعال النار في المنازل الهندوسية.
بعد أيام من العنف، كانت الممرات هادئة مرة أخرى. قال أكثر من عشرة من السكان إنهم لم يروا شيئا مما حدث لأنور وهم قابعون في منازلهم
قال سليم إنه مع حلول الليل، طلب من جيرانه مساعدته وأسرته على الفرار من المنطقة، فجعلوهم يتنكرون على هيئة الهندوس ورسموا خطّا من عجينة الزعفران على جباههم ووضعوا وشاحًا بلون الزعفران حول رقبة سليم. من جهته، يتذكر سليم: “أخبرونا ألا نقف وننظر إلى منزلنا وألا نحاول التقاط أي شيء. ما علينا سوى الركض”.
بعد أيام من العنف، كانت الممرات هادئة مرة أخرى. قال أكثر من عشرة من السكان إنهم لم يروا شيئا مما حدث لأنور وهم قابعون في منازلهم. وادعى عدد غير عادي أنهم كانوا خارج المدينة في ذلك اليوم. في المقابل، جلست مجموعة من الجيران على سرير أطفال أخذوه من تحت أنقاض منزل سليم واعترفوا بجهلهم لسبب استهداف منزله هو وشقيقه فقط.
قال باوان كومار، وهو سائق توكتوك يبلغ من العمر 38 سنة، “لا نعرف السبب، لذا كيف لنا أن نجزم؟”. أما البعض الآخر، فأعربوا عن حزنهم. بالإضافة إلى ذلك، أفاد جيتندرا كومار، الرسام الذي قال إنه شاهد عملية القتل: “شعرت بالرعب. يقسم الزعماء السياسيون الناس حسب جدول أعمالهم، وفي النهاية يكون الموت للمواطن العادي”
في ظهر أحد الأيام الأخيرة، عاد سليم إلى المكان الذي قُتل فيه أخوه وانحنى في شمس الظهيرة وتحسّس كومة من الرماد الأسود والرمادي بيديه بحثا عن العظام. بعدها، رفع الشظايا المتفحمة التي تشبه المفاصل من الأرض ووضعها في وعاء مضروب ثم قال وهو ينظر إلى المنازل المحيطة: “كان الكثير من الناس يشاهدون الحادثة من فوق أسطح منازلهم، لكن لا أحد أنقذ أخي”.
في هذا الصدد، قال اثنان من ضباط الشرطة إن السلطات التقطت نصف ساق متفحمة من المنطقة وأرسلتها لاختبار الحمض النووي باستخدام عينات من سليم وابنة أنور. وقال راجيش ديو، المسؤول البارز في شرطة دلهي الذي يتولى التحقيق في أعمال العنف الواقعة الأسبوع الماضي، إنه ليس على علم بالقضية بعد.
في حديثه عن قتلة أخيه، قال سليم إنهم كانوا في الغالب غرباء من خارج الحي ولكنه تعرف على ثلاثة رجال محليين، أحدهم يعرف بالاسم. وأكّد الرجل: “لا أعتقد أنني أستطيع العودة إلى هناك بعد ما شاهدته. كل ما تبقى لدينا هو الملابس التي تكسونا”. وفي هذه الأيام، يجد سليم، الرجل الشجاع ذو الشعر الأسود القصير، صعوبة في النوم. فعندما يغلق عينيه، يعود به شريط ذكرياته إلى نافذة الطابق الثالث تلك.
إنه يفكر في تحوّل منزله وكل ما يملكه إلى خراب، كما أنه يفكر في شقيقه، الرجل الذي كان يفضل المشي حافي القدمين والذي كان طيّبا مع أبنائه وأخواته. يحتفظ سليم بالعظام الهشة والمسودّة التي جمعها، على أمل أن يتمكّن في يوم من الأيام من دفنها في مقبرة أسفل الطريق.
المصدر: واشنطن بوست