بعد مرور 5 سنوات تقريبًا على دخول القوات الروسية إلى الأراضي السورية لدعم نظام بشار الأسد، استقر في يقين الكثير أن هذه الخطوة لم تكن كما رُوج لها أول مرة كإجراء مؤقت يهدف إلى دعم نظام حليف ضد شعبه، لكن سرعان ما انجلت الأمور رويدًا رويدًا حتى تكشف الهدف الحقيقي.
صورة بطريك الأرثوذكس الروسي، كيريل الأول، وهو يبارك أول فوج من قوات بلاده المتوجهة إلى سوريا، ما تزال عالقة في أذهان الملايين من المسلمين، حيث أرجعتهم للوراء قرونا طويلة، لتستعيد معها ذكريات المجازر الدامية التي قام بها قياصرة روسيا ضد شعوب المنطقة وعلى رأسهم الشعوب المسلمة.
ذاكرة التاريخ وعت وبشكل كبير ما تعرض له العالم الإسلامي من ويلات الهجمات والغارات المتكررة من الاستعمار الغربي على مر العصور، لكنها في المقابل نست أو تناست أفاعيل روسيا في حق أمّة الإسلام، فكثير من المنتسبين للإسلام يجهلون أن الروس، منذ بروز القياصرة مرورًا بالحقبة الشيوعية حتى يومنا هذا أبادوا ملايين المسلمين عبر تاريخهم الدموي، واستغلوا ثرواتهم قرونًا طويلة.
مساعي موسكو غسل تاريخها الدموي عبر تصدير صورة إيجابية للعالم العربي والإسلامي، من خلال تعميق علاقاتها مع الأنظمة الحاكمة في بلدان هذا العالم، تتعارض بشكل كبير مع ما توثقه صفحات التاريخ – فضًلا عن وقائع الحاضر كما في سوريا- التي تكشف بصورة كبيرة أن الروس ما وطئوا بأقدامهم أرضًا إلا وأحرقوها، لا لدعم نظام بعينه، لكن لتحقيق أجندة سياسية ضاربة في عمق التاريخ.
في ملف “سجل روسيا الأسود”، نسعى في “نون بوست” إلى تسليط الضوء على أبرز وأهم المحطات في سجل العداء والممارسات القمعية والدموية التي سلطتها روسيا على العالم الإسلامي، ليقف المنبهر بالنموذج الروسي، على حقيقة العداء التاريخي والمستمر لهذه الدولة التي مارست شتى أنواع الإبادة بحق المسلمين وأذاقتهم ويلات العذاب والتنكيل.
قرون من الإبادة
في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين، وبينما كانت الدول الاستعمارية تحكم قبضتها على بلدان العالم العربي، كانت روسيا القيصرية ومن بعدها الشيوعية تستولى على بلدان وسط آسيا والقوقاز المسلمة ومنطقة البحر الأسود والقرم، هذا بجانب أنها كانت شريكة وشاهدة على اتفاقية “سايكس بيكو”، حين اتفقت فرنسا وإنجلترا على تقسيم قلب العالم الإسلامي في العراق والشام وبلاد جنوب الأناضول عشية الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية سنة 1915، 1916م.
العنصرية.. كان هذا الوصف الأكثر شيوعًا لتوثيق حروب الإبادة والمجازر التي قام بها الروس ضد المسلمين، وقد كان النصيب الأكبر من هذه الجرائم لمسلمي القرم ودول القوقاز وأبرزها الشيشان، حيث تعرض الشعب الشيشاني المسلم لموجات متلاحقة من الإبادة، سقط بها ما يزيد على نصف الشعب، أما المقاتلون منه فقد جُمعوا في إسطبلات الخيول وسُكبت عليهم المواد المشتعلة وأُحرقوا أحياء، تلك الحملات كانت تهدف لتهجير شعوب تلك البلدان وإحلال مواطنين روس مكانها، بعد تفتيت النسيج الاجتماعي بها.
حين أسس جوزيف ستالين الشيشان بحكم ذاتي في 1944، نفى شعبها بالكامل إلى سيبريا ودول أخرى بعد عام واحد فقط من التأسيس
لا توجد دراسات أو إحصاءات موثقة بشأن ضحايا الروس والشيوعيين، لكن التقارير التأريخية المختلفة تشير إلى أن العدد يتجاوز عشرات الملايين، فوفقًا لكتاب البروفيسور روميل الذي جاء تحت عنوان “الموت عن طريق الحكومة“، فقد قُتل نحو 110 ملايين شخص من الأجانب والمحليين بسبب الإبادة الجماعية الشيوعية من عام 1900 حتى عام 1987.
ولعل تجربة تأسيس جمهورية الشيشان كفيلة وحدها بتقديم صورة شبه كاملة عن تعامل السوفييت قديمًا مع البلدان المسلمة، فحين أسس جوزيف ستالين الشيشان بحكم ذاتي في 1944، نفى شعبها بالكامل إلى سيبريا ودول أخرى بعد عام واحد فقط من التأسيس، وهي العملية التي وصفت بأنها واحدة من أكبر جرائم الإبادة في التاريخ.
ونتيجة الظروف الجوية القاسية والأساليب غير الآدمية التي عومل بها المنفيون، مات ما يقرب من نصفهم، حيث حُشر الناس في عربات القطارات المخصصة لنقل البضائع، من دون طعام ولا ماء ولا كساء، وكل من يرفض تنفيذ الأوامر يُقتل مباشرة أمام الناس، بوحشية تُرهب من يرى ويسمع.
وبعد استقلال البلاد على يد الجنرال جوهر دوداييف 1994، حين حقق المسلمون انتصارًا تاريخيًا على الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلستين، بدأت مرحلة جديدة من العلاقات، وبعد مجيء فلاديمير بوتين، شن حرب إبادة على الشعب الشيشاني، دمّر فيها عاصمة البلاد غروزني عن بكرة أبيها، وارتكب أبشع المجازر فيها وحرقها وشرد شعبها، ونصّب أحد عملائه رئيسًا عليها.
خداع ومكر
تشير صفحات التاريخ إلى مكر وخداع الشيوعيين في تعاملهم من المسلمين، فبعد نجاح الثورة الماركسية البلشفية، سعى أباطرتها لاستمالة المسلمين في البلاد، واستثارتهم ضد الحكم القيصري الذي كان يضطهدهم ويعتدي على حرماتهم، وذلك من أجل أن يساند المسلمون الشيوعيين الثائرين ضد المعارضة الموالية للحكم السابق.
وفي 1917 أصدر مجلس فوميسيري البلشفي نداءًا موجهًا للمسلمين جاء فيه: “إن إمبراطورية السلب والعنف والرأسمالية توشك أن تنهار، والأرض التي تستند عليها أقدام اللصوص الاستعماريين تشتعل نارًا، وفي وجه هذه الأحداث الجسام نتجه بأنظارنا إليكم أنتم يا مسلمي روسيا، والشرق، أنتم يا من تَشْقَوْن وتكدحون، وعلى الرغم من ذلك تُحرمون من كل حق أنتم أهل له”.
وتابع “أيها المسلمون في روسيا، أيها التتر على شواطئ الفولجا وفي القرم، أيها الكرغيز والسارتيون في سيبيريا والتركمستان، أيها التتر والأتراك في القوقاز، أيها التشيشيين، أيها الجبليون في أنحاء القوقاز، أنتم يا من انتهكت حرمات مساجدكم وقبوركم، واعتدي على عقائدكم وعاداتكم، وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكم.. ستكون حرية عقائدكم وعاداتكم، وحرية نظمكم القومية، ومنظماتكم الثقافية مكفولة لكم منذ اليوم، لا يطغى عليها طاغٍ، ولا يعتدي عليها معتدٍ.. هُبُّوا إذًا فابنوا حياتكم القومية كيف شئتم فأنتم أحرار لا يحول بينكم وبين ما تشتهون حائل، إن ذلك من حقكم إن كنتم فاعلين”.
عام 1921 أباد الروس مئة ألف مسلم في القرم جوعًا، وأرغموا 50 ألف على الهجرة
واختتم البيان المخادع قائلًا: “واعلموا أن حقوقكم شأنها شأن حقوق سائر أفراد الشعب الروسي، تحميها الثورة بكل ما أوتيت من عزم وقوة، وبكل ما يتوافر لها من وسائل: جند أشداء ومجالس للعمال ومندوبين عن الفلاحين. وإذًا فشدوا أزر هذه الثورة، وخذوا بساعد حكومتها الشرعية”.
حينها فطن المسلمون لما بين سطور هذا البيان، وعلى الفور بادروا في تجييش قواهم وأعلنوا استقلالهم، مستعيدين بذلك سيادتهم على أراضيهم التي سلبها الروس على مدار القرون السابقة، وبدأ الإعلان عن العديد من الجمهوريات الإسلامية – بعضها صغير المساحة والسكان – الحاضرة حتى الآن.
لكن مثل هذه التحركات لم ينسها البلاشفة الجدد، فما أن ثبّت الشيوعيون أقدامهم حتى بدأت مرحلة الانتقام، حيث توجهوا بجيشهم المعروف بالجيش الأحمر، فأعملوا أسلحتهم بالمسلمين، وحصدوا الجمهوريات الإسلامية حصدًا، وفي أقل من ثلاث سنوات استولى الشيوعيون على هذه الجمهوريات الإسلامية بعد أن قدم المسلمون تضحيات جسيمة، ولكن قواهم كانت أضعف من أن تقاوم جيشًا مدربًا مزودًا بأحدث أنواع الأسلحة.
التاريخ لا ينسى
تحت حكم الشيوعيين، تعرض المسلمون لأبشع الأعمال الوحشية، مذابح لم يشهدها التاريخ على مدار حقب طويلة، تفنن وإبداع في التنكيل والتعذيب، إستراتيجية ممنهجة لسحق كل ما له صلة بالإسلام، دينًا وقومية، وهو ما نستعرض بعض ملامحه في هذه السطور التي يجب أن يقف التاريخ حيالها طويلًا.
تنقسم تلك الجرائم إلى قسمين: الأول يتعلق بالمذابح التي واجهها المسلمون على أيدي الشيوعيين، على رأسها الإبادة الجماعية أو نفي جزء من الشعب أو الشعب كله من وطن آبائه وأجداده إلى وطن آخر، وهو ما حدث كما ذكر سالفًا مع الشيشانيين حين نفوا إلى سيبيريا.
كما شهدت تلك الفترة عشرات الجرائم منها، مقتل 100 ألف مسلم من أعضاء الحكومة المحلية في تركستان عام 1934، وما بين سنة 1937- 1939م ألقت روسيا القبض على 500 ألف مسلم، وعدد من الذين استخدمتهم في الوظائف الحكومية، ثم أعدمت فريقًا وأرسلت فريقًا آخر إلى مجاهل سيبيريا.
وفي عام 1950 قُتل نحو سبعة آلاف مسلم، فيما تم نفي 300 ألف مسلم من تركستان وحدها سنة 1934، وخلال عامين فقط (1932-1934) مات ثلاثة ملايين تركستاني جوعًا، نتيجة استيلاء الروس على محاصيل البلاد وتقديمها للصينيين الذين أدخلوهم البلاد.
تعددت صور تعذيب المسلمين منها: دقُّ مسامير طويلة في رأس المُعذَّب حتى تصل مُخَّه وصبُّ البترول على المُعذَّب، ثم إشعال النار فيه حتى يحترق، وتحويل المساجين لأهداف لإطلاق الرصاص عليها من الجنود الروس خلال تدريباتهم العسكرية
وفي عام 1921 أباد الروس مئة ألف مسلم في القرم جوعًا، وأرغموا 50 ألف على الهجرة في عهد بلاكون الشيوعي الهنغاري الذي نصبوه رئيسًا للجمهورية القرمية الإسلامية، وفي سنة 1946 نفوا شعبين إسلاميين كاملين وهم شعب جمهوريتي القرم وتشيس إلى مجاهل سيبيريا، وأحلوا محلهم الروس.
ومن مظاهر الحملة ضد المسلمين كذلك هدم المساجد وتحويلها إلى دور للهو واستخدامها في غايات أخرى وإقفال المدارس الدينية، إذ بلغ مجموع المساجد التي هُدِّمت أو حُوِّلت إلى غايات أخرى في دولة واحدة مثل تركستان 6682 مسجدًا، منها أعظم المساجد الأثرية مثل (منارة مسجد كالان) في مدينة بخارى و(كته جامع) في مدينة قوقان و(جامع ابن قتيبة) و(جامع الأمير فضل بن يحيى) و(جامع خوجه أحرار) في مدينة طشقند.
فيما بلغ مجموع عدد المدارس والكتاتيب التي أقفلوها 7052 مدرسة، منها: (ديوان بيكي مدرسة) في مدينة بخارى، و(بكلريك مدرسة) و(بران حان مدرسة) في مدينة طشقند، وغيرها من المدارس التاريخية التي كانت منهلًا من مناهل العلم والعرفان.
وفي القرم طمسوا معالم الإسلام بما فيها الجوامع الأثرية في مدينة (باغجة سراي) عاصمة القرم الجميلة مثل (جامع حان) وجامع (طوزيازرا) وجامع (أصماقويو) وغيرها، كما هدموا في مدينة (زغرب) في يوغسلافيا جامعًا عظيمًا شيد رمزًا لوحدة عنصري الشعب الكرواتي، فيما أغلقوا في مدينة (سراييفوا) الأكاديمية الإسلامية العليا للشريعة الإسلامية، وجميع المدارس الدينية باستثناء واحدة فقط، أبقوها للدعاية!
هذا بخلاف قتل علماء الدين ونفيهم خارج البلاد، ومن أشهر العلماء الذين قتلوا على أيدي الروس: الشيخ برهان البخاري قاضي القضاة التركستاني والشيخ خان مروان خان مفتي بخارى والشيخ عبد المطلب واملا والشيخ محسوب متولي والشيخ عبد الأحد وادخان والشيخ ملا يعقوب والشيخ ملا عبد الكريم، وفي يوغسلافيا قتلوا مفتي كرواتيا الشيخ عصمت مفتيش والعالم الفاضل مصطفى يوصلولاجيتش.
وفي السياق ذاته تعددت صور تعذيب المسلمين، منها: دقُّ مسامير طويلة في رأس المُعذَّب حتى تصل مُخَّه وصبُّ البترول على المُعذَّب ثم إشعال النار فيه حتى يحترق وتحويل المساجين لأهداف لإطلاق الرصاص عليها من الجنود الروس خلال تدريباتهم العسكرية.
بجانب منع دخول الشمس لمعتقلات المسلمين وفرض الجوع عليهم حتى الموت، كذلك إجبارهم على ارتداء خوذات معدنية ثم صعقهم بها بعد تمرير التيار الكهربائي بها وتمزيق أجسادهم عبر ربطها من الطرفين بآلة قوية تشد كل طرف على حدة حتى تفصله عن بقية الجسد.
حتى المسلمين الآن الموجودين في روسيا لا يسلمون من سياسات التنكيل والتعذيب لمن يفكر في رفع رأسه أو التعبير عن رأيه أو المطالبة بحقوقه لا سيما الدينية، هذا في الوقت الذي تفرض فيه موسكو تعتيمًا غير مبرر على أعداد المسلمين الحقيقيين داخل البلاد، إذ تشير الأرقام غير الرسميَّة إلى أنَّ عددهم يتراوح بين 20 – 30 مليون نسمة.
وهكذا بات من الواضح أن الصورة التي تسعى روسيا لإيهام العالم الإسلامي بها، مستخدمة قوتها الناعمة لتحقيق ذلك، لم تستطع الصمود طويلًا أمام صفحة واحدة من صفحات التاريخ الدموي الملطخ بشتى صور التعذيب والإبادة بحق الملايين من المسلمين على أيدي الروس، وفي الحلقات القادمة نستعرض بعض تلك المجاز بشيء من التفصيل لإسقاط هذا القناع المزيف الذي طالما أغرى الكثيرين ممن لا يقرأون التاريخ جيدًا.