شهد تاريخ الإمبراطورية العثمانية الطويل والحافل، العديد من المواقف الجميلة والصعبة، وكان للطابع الإنساني في هذه المواقف أثره الكبير في مسيرة خلفاء الدولة العثمانية، ومن خلالها أثبتوا عطاءهم وتدخلهم الإيجابي تجاه القضايا العالمية، وخير مثال على ذلك ما قدموه دون تردد لأيرلندا.
ونحن هنا بصدد الحديث عن “العلاقات التركية الأيرلندية التاريخية”، التي بدأت منذ نحو 500 عام، لم تتوان فيها تركيا عن تقديم يد المساعدة المنقذة التي غيرت فيها مصير الإيرلنديين الذي يذكرون ويقدرون هذه المناسبة حتى اليوم، على الرغم من بعد المسافات الجغرافية، وكذلك الأيدولوجية والدين بين البلدين.
بداية العلاقة.. خدمة بحرية
أول حدث معروف في العلاقات التركية الأيرلندية هو إعادة البحرية العثمانية، السفينة التجارية الأيرلندية التي احتلها وسرقها القراصنة بينما كانت تجوب البحر الأبيض المتوسط، في القرن السادس عشر.
وكانت البحرية العثمانية، أو “الأسطول الهمايوني” هي القوات البحرية للإمبراطورية العثمانية التي تأسست في القرن الرابع عشر الميلادي لتكون الذراع العسكري البحري للدولة، وقد وصلت فتوحاتها إلى البحر بفضل أسطولها الذي أمن الدعم من خلاله في الحروب التي خاضتها هناك.
مجاعة أيرلندا الكبرى
كانت أيرلندا التي يعتنق غالبية شعبها المذهب الكاثوليكي، في القرن الـ19، تُعاني من النظام الإقطاعي والتبعية للإدارة البريطانية، حيث كانت الأراضي الزراعية هناك ملكًا لعشرة آلاف شخص فقط يعيش معظمهم في إنجلترا.
كانت تلك الأراضي تؤجر إلى 600 ألف مزارع أيرلندي، وكانت الإيجارات مرتفعة بسبب زيادة الكثافة السكانية، علاوة على أنه كانت تُنقل معظم المحاصيل إلى إنجلترا، وفي عام 1845 تم تصدير مليون طن من الغلال و258 ألف شاة إلى إنجلترا، في الوقت الذي كانت فيه البطاطا غذاء الناس والمزارعين الوحيد.
استمرت المجاعة لفترة طويلة، وتوترت العلاقات بين الأيرلنديين وحكومتهم البريطانية بسبب المجاعة التي لم يبال بها الإنجليز
في عام 1845 نفسه، اجتاحت أيرلندا مجاعة كبيرة، وتعد تلك المجاعة من أهم الأحداث في تاريخ أيرلندا، وتعرف بـ”مجاعة البطاطا”، لأنها حدثت إثر تلف محصول البطاطا الذي يعد الغذاء الرئيسي للسكان، بآفة فطرية تسمى “اللفحة المتأخرة” أو “فيتوفثورا إنفستنس” التي انتقلت من القارة الأمريكية.
على إثر ذلك تلف ثلث المحصول، وفي السنة التالية تلف نحو 90% من المحصول الذي يعتمد عليه السكان في غذائهم، وبلغت المجاعة ذروتها عام 1847 عندما اضطر الشعب الجائع إلى أكل البذور اللازمة للزراعة، وبعدها بعام تلف نصف المحصول مجددًا عندما تم استخدام بذور مستوردة من الخارج.
وخلال هذه المجاعة المأساوية، اضطر نحو مليوني أيرلندي للهجرة إلى الولايات المتحدة، حيث تغير الشكل الديموغرافي هناك، بسبب انخفاض في عدد السكان دام قرنًا من الزمان في حين لم يملك أبناء الطبقة الفقيرة إلا البقاء في ديارهم، وانتظار الموت المحتم، وبالفعل مات أكثر من مليون شخص.
استمرت المجاعة لفترة طويلة، وتوترت العلاقات بين الأيرلنديين وحكومتهم البريطانية بسبب المجاعة التي لم يبال بها الإنجليز الذين حملهم الأيرلنديين المسؤولية واتهموهم بالتقاعس، مما أدى لاحقًا لبروز مشكلات عرقية وقومية بين الشعب الإيرلندي والحكومة البريطانية.
كانت سنة 1874 أشرس سنوات المجاعة، حيث تذكرها المصادر التاريخية بالسنة 47 السوداء، فوقتها لم تتحسن البذور، ولم تقدم لهم الحكومة الإنجليزية يد العون، وهنا كان آخر شيء يتوقعه الأيرلنديون أن تأتيهم المساعدة من العثمانيين.
يد المساعدة العثمانية
في أثناء المجاعة، لم تكن وسائل الإعلام كما هي الآن، فلم يكن المسلمون يعلمون ما يحدث تمامًا في شمال كوكب الأرض، ففي إسطنبول على بعد آلاف الكيلومترات، أخبر طبيب أسنان أيرلندي السلطان عبد المجيد بالمجاعة التي يعيشها شعبه.
وعلى الفور، قرر السلطان إرسال 10 آلاف جنيه إسترليني (1.3 مليون دولار) إلى أيرلندا لنجدة شعبها، في لفتة طيبة حازت تقدير وإعجاب جميع العالم، رفضت الملكة فيكتوريا قبول المبلغ، طالبة تخفيضه إلى 1000 جنيه إسترليني، لأنها لم تتبرع إلا بمبلغ 2000 جنيه إسترليني، فإنجلترا لم ترغب بقبول مبلغ يتجاوز مساعدات ملكتها، ويقلل من اعتبارها.
وافق السلطان العثماني لكنه أرسل إضافة إلى المال ثلاث سفن محملة بالغذاء والأدوية والبذور اللازمة للزراعة، ولكن الحكومة الإنجليزية المتعنتة رفضت السماح لسفن المساعدات العثمانية بأن ترسو في ميناء دبلن، لذلك رست السفن بميناء دروهيدا الذي يبعد 30 ميلًا عن ميناء دبلن.
بعد انتهاء غمة المجاعة، أرسل النبلاء وعامة الشعب في إيرلندا خطاب شكر للسلطان العثماني، ولا يزال الخطاب محفوظًا حتى اليوم بأرشيف متحف طوب قابي سراي، ويقول الخطاب باختصار: “يتقدم الشعب الأيرلندي والنبلاء الموقعون على هذا الخطاب بجزيل الشكر والتقدير لجلالة السلطان عبد المجيد على كرمه وإحسانه تجاه الشعب الأيرلندي الذي يعاني المجاعة، كما يتقدم بالشكر الجزيل لجلالته على تبرعه السخي بألف جنيه إسترليني لتلبية احتياجات الشعب الأيرلندي والتخفيف من آلامه”.
الامتنان التاريخي
أظهر الشعب الأيرلندي امتنانه لكرم السلطان العثماني، وأخلاق العثمانيين في صور عديدة، كان أولها وضعهم الهلال والنجمة (شعار الدولة العثمانية) على شعار نادي دروهيدا لكرة القدم الذي أُسس عام 1919.
خلال احتفال بلدية دروهيدا بالذكرى السنوية الـ800 لتأسيسها عام 2006، خلدت البلدية ذكرى هذه الواقعة عن طريق تعليق لوحة شكر ضخمة على جدار مبنى البلدية القديم الذي استضاف البحارة العثمانيين الذين أحضروا المساعدات في أثناء المجاعة.
يتم تنظيم الحفل كل عام في نفس الميناء الذي قدم إليه البحارة العثمانيون بالمساعدات، وقال السفير التركي طارق باي كوت في إيرلندا الذي تحدث كممثل فخري عن الدولة العثمانية خلال الحفل: “لمن دواعي سروري كحفيد للدولة العثمانية أن أكون موجودًا في هذا الحفل المهيب الذي يرسخ مبادئ الدولة العثمانية التي كانت على الدوام معلمًا من معالم الإنسانية والحضارة”.
وفي صورة أخرى لتجديد الوفاء، أعربت رئيسة أيرلندا ماري مكاليس، خلال زيارتها لتركيا عام 2010، عن وفاء وشكر شعبها لتركيا، قائلة: “الشعب الأيرلندي لم ينس أبدًا هذا الكرم الذي لا مثيل له. الرموز الموجودة في علمكم (الهلال والنجمة) أصبحت شعارًا للمدينة. حتى إننا نرى أيضًا هذا الشعار التركي الجميل على زي فريق كرة القدم لدينا”.
العلاقات التركية الأيرلندية اليوم
بدأ أول تمثيل دبلوماسي تركي معتمد لدى أيرلندا في العمل عام 1972، من خلال مكتب ملحق بالسفارة التركية في باريس، حتى تم افتتاح السفارة التركية في دبلن في 1973، في حين تم افتتاح السفارة الأيرلندية في أنقرة عام 1998.
تطورت العلاقات التركية الأيرلندية بشكل ملحوظ خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، إثر سياسة الانفتاح الاقتصادي بشكل أكبر على العالم، التي عملت عليها الحكومة في دبلن، محققة بذلك تنمية اقتصادية هائلة.
عام 2010 بدأت العلاقات الثنائية بين البلدين بالتطور أكثر، وذلك إثر زيارة وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو الرسمية إلى أيرلندا في ذلك العام، لتليها الزيارة الرسمية للرئيس ماكاليس إلى تركيا، التي تعتبر أول زيارة رئاسية رسمية لأيرلندا إلى تركيا، وتلتها زيارات لتحقيق التعاون الاقتصادي بينهما، ودائمًا ما تعرب الحكومة الأيرلندية عن دعمها لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين عام 2011 نحو 1.19 مليار دولار أمريكي، وشهد عام 2012 نشاط 289 شركة برؤوس أموال أيرلندية في تركيا، حيث بلغت استثمارات أيرلندا المباشرة في تركيا 337 مليون دولار أمريكي، فضلًا عن النشاط السياحي بينهما.
هذه إحدى قصص كرم وتعاون الخلفاء العثمانيين حتى مع من هم على غير دينهم وملتهم، التي لم تركز عليها وسائل الإعلام الغربية والعالمية، لكن الشعب الأيرلندي يحفظ في قلبه وتراثه وفولكلوره الشعبي هذه المساعدة التي كانت نقطة فاصلة في مصير شعبهم الذي كان يواجه الفناء.