قصة: ورد فراتي. تصوير: يحيى نعمة – رافي الشامي
على مدخل خيمة في أحد المخيمات العشوائية المنتشرة على طول الشريط الحدودي مع تركيا، التي تضم النازحين جرّاء الحملة الروسية لاحتلال الشمال السوري المحرر، تجلس امرأة خمسينية مراقِبةً المصوِّر الذي يلتقط لها صورةً دون اهتمام، بعد رؤيتها عشرات فرق التصوير التي زارت المخيم وتحدثها لبعضهم بشأن احتياجاتهم في المخيم، دون أن يزورها من يقدم لها ولمئات النازحين في مخيمها المُنشَأ كيفما اتفق يد العون.
امرأة نازحة من جنوب إدلب تجلس أمام خيمتها في منطقة عفرين بريف حلب الشمالي
في هذه المخيمات التي ترافق إنشاء أكثرها مطلع العام الحاليّ مع عاصفة ثلجية قاسية، يعيش السوريون أوضاعًا إنسانية صعبة، في ظل النقص الكبير في المساعدات الإنسانية وغياب وسائل العيش الأساسية، ينتظر هؤلاء حدوث معجزة من نوع ما تعيدهم إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم التي هُجِّروا منها منذ بدء الحملة الروسية لاحتلال الشمال المحرر، منذ شهر مارس/آذار عام 2019.
نازحون من منطقة إدلب يتوافدون إلى أحد المخيمات شمالي حلب في ظل تساقط الثلوج
الانكسار
بدأَت أرتال النزوح تغادر منطقة إدلب بعد بدء روسيا حملة عسكرية شرسة لاحتلالها في مارس/آذار 2019، وتضم منطقة إدلب (محافظة إدلب وأجزاء من ريف حماة الشمالي وأرياف حلب الجنوبية والغربية والشمالية)، التي كان يفترض بحسب اتفاق سوتشي الذي وقّعه الحلفاء الثلاث (روسيا – تركيا – إيران) في سبتمبر/أيلول، أن تكون منطقة آمنة للمدنيين تحت الوصاية التركية.
لكن انطلاق الحملة الروسية وتمكنها في مرحلتها الأولى التي انتهت أواخر شهر أغسطس/آب 2019 من احتلال مساحة واسعة جنوبي إدلب شملت مدينة خان شيخون، ومن ثم استكمالها المرحلة الثانية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه بمشاركة قوات إيران في العملية انطلاقًا من مدينة حلب باتجاه ريفها الغربي، دفعَ أكثر من 1.7 مليون مدني من سكان المنطقة للخروج منها مُهجّرين باتجاه الشريط الحدودي مع تركيا شمال إدلب وحلب.
أرتال النازحين المغادرين لجبل الزاوية عبر طريق المسطومة قرب إدلب باتجاه ريف حلب الشمالي
منذ بدء المرحلة الثانية للحملة العسكرية كان واضحًا أن الجانب التركي غير راض عن الحملة الروسية، حيث بدأ يزج بأرتال متتابعة من جيشه إلى المنطقة في محاولة لإظهار جديته، وفرض إيقاف الحملة من خلال إنشاء نقاط مراقبة جديدة في طريق التمدد الروسي، لكن محاولاته هذه لم تفلح واستمر الجانب الروسي في التمدد مسيطرًا على مساحات واسعة ومحاصرًا النقاط التركية!
رتل عسكري للجيش التركي يدخل منطقة إدلب عبر معبر باب الهوى 7-2-2020
ووسط هذا العجز التركي وفشل الثوار في إيقاف التقدم الروسي، بدا أنّ المنطقة كلها تتجه للسقوط، خاصة بعد تقدم الجيش الروسي باتجاه مدينة سراقب، غير آبهين بنقاط المراقبة الـ4 التي أنشأها الجيش التركي في محيطها لمنع سقوطها، لتكثِّف فرق إخلاء المدنيين جهودها لإخلاء سراقب، ويخرج منها آخر أهلها بعد إيقانهم بعدم جدوى الانتظار.
عائلة من مدينة سراقب تفرغ منزلها تحضيرًا للنزوح
رجل مسن من أهالي سراقب يركب سيارة نقل متوسطة الحجم مغادرًا مدينته
فرق إخلاء المدنيين على مشارف سراقب تخرج آخر أهلها 28-1-2020
دخل الجيش الروسي مدينة سراقب في 8 من فبراير/شباط من العام الحاليّ، وأكمل توسعه في محيط المدينة حتى دخل بلدة النيرب إلى الغرب من سراقب، باتجاه مدينة إدلب التي لم يعد يفصلهم عنها إلا قرية قميناس، حيث تعد إدلب أكبر تجمع سكاني في الشمال السوري المحرر، خاصة أن أهلها لم يغادروها بسبب إحجام الطيران الروسي عن استهدافها خلال حملتهم، وهو ما أعطى انطباعًا بأن الحملة الروسية لا تهدف للسيطرة عليها أو على البلدات التي تليها، التي باتت مكتظّة بالنازحين من مناطق إدلب الجنوبية.
خاصة أن الحملة الروسية منذ البداية اعتمدت على سياسة الأرض المحروقة، التي تتلخص في سوريا بالاستخدام المكثف للطيران الحربي والصواريخ المتفجرة ضد المدنيين في مناطق سكنهم، مرتكبة مجازر مروّعة أكبر من قدرة طواقم الدفاع المدني وفرق الإنقاذ على الاستيعاب، بل ومستهدفة المنشآت الحيوية نفسها في تلك المناطق، لإجبار قاطنيها على مغادرتها.
أحد أعضاء فرق الإسعاف يتفقد مشفى الكنانة في درة عزة بعد قصفه 17-2-2020
لكن وبعد وصول الجيش الروسي إلى النيرب، وتزايد حدة التصريحات التركية التي ترفض الحملة الروسية، وتهدد بدخولها مباشرة في عمليات الدفاع عن المنطقة، بدأ الروس يضغطون على الجانب التركي، من خلال استهداف المناطق في محيط إدلب التي لم تقصفها سابقًا مثل سرمين والمدينة الصناعية في إدلب، ولم تسلم من الاستهداف حتى المخيمات المؤقتة التي أنشأها النازحون في المنطقة، دافعة المدنيين إلى موجة نزوح جديدة، ومهددة بتفاقم الأزمة الإنسانية في الشمال السوري.
آثار القصف المدفعي على أحد أحياء إدلب 11-2-2020
طفل يتفقد خيمتهم بعد قصف مدفعي ليلي على مخيمهم العشوائي قرب بلدة سرمدا\ 15-2-2020
الأمل
بعد دخول الجيش الروسي إلى مدينة سراقب ومن ثم بلدة النيرب، تمكن الثوار من تنظيم صفوفهم في غرفة عمليات عسكرية وتحركوا في عملية هجومية بغطاء ناري كثيف من المدفعية التركية لاستعادة بلدة النيرب الإستراتيجية على مشارف سراقب، وبعد خمس محاولات فاشلة لاستعادة البلدة امتدّت لأيام، تمكنوا أخيرًا من تحريرها في 24 من فبراير/شباط من العام الحاليّ، في أول عملية استعادة لمنطقة سقطَت منذ انطلاق الحملة الروسية، وهو ما مثل نقطة تحول مفصلية في مسار الأحداث.
ثوار من الجيش السوري الحر يتوجهون لاقتحام بلدة النيرب انطلاقًا من قرية قميناس 20-2-2020
ارتفعت معنويات ثوار المنطقة والمدنيين فيها على حد سواء بعد تحرير النيرب، وانطلقت أرتال الثوار بعدها بيومين باتجاه مدينة سراقب التي تمكنوا من تحريرها في عملية ليلية خاطفة، ليأتي رد الفعل الروسي قاسيًا باستهداف نقطة تجمّع لمقاتلين من الجيش التركي، استشهد فيها ما يقارب الـ40 جنديًا تركيًّا، وهو ما دفع الجيش التركي للزج بسلاح طيرانه المُسيّر في المعركة بصورة واسعة، أصبح معها استهداف الأرتال العسكرية المعادية أمرًا اعتياديًا، مسببًا خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
ثوار من الجيش السوري الحر يطالعون خريطة سراقب قبيل تحريرها 27-2-2020
استمرت العمليات التركية تصعد من حدة استهدافها لقوات النظام، دون أن تقصر أهدافها على الآليات العسكرية على الأرض، بل تجاوزتها إلى الطيران الحربي لجيش النظام (أحد التشكيلات التي اعتمد عليها الجيش الروسي في حملته، إلى جانب الميليشيات الإيرانية والشركات الأمنية الروسية الخاصة)، وبات شائعًا مشهد أهالي مدينة إدلب يعلّقون أنظارهم في السماء، انتظارًا لطائرة معادية جديدة تسقط، بينما انشغل آخرون بما تبثّه “المراصد العسكرية” عبر التردد العام لأجهزة التواصل اللاسلكية من أخبار المعارك، التي كانت تبدأ غالبًا بعبارة “الله أكبر.. تدمير رتل عسكري أو طائرة.. إلخ”.
رجل من مدينة إدلب يراقب طائرة حربية لنظام الأسد في سماء المدينة
صاحب محل في مدينة إدلب يتابع بانتباه تعميمًا لأحد المراصد العسكرية يتحدث عن تدمير رتل لقوات النظام
تمكن الثوار من إحراز تقدم كبير في جبل الزاوية وصولًا إلى ريف حماة الشمالي، ورغم اضطرارهم للانسحاب من سراقب، بعد حملة عنيفة اشتركت فيها مجموعات نخبوية من حزب الله اللبناني إلى جانب مجموعات من “ميليشيا فاغنر” الروسية، تحت غطاء ناري روسي كثيف، فإنهم لم يوقفوا عملياتهم في محيط المدنية أو حتى في ريف حلب الغربي الذي بدأوا يتحركون لاستعادته أيضًا، ومع إصرار الحكومة التركية في تصريحاتها إلى عودة الخريطة إلى ما كانت عليه في سبتمبر/أيلول 2018، استبشر كثير من أهالي إدلب بأن العسر قد انقضى، ورُفِعَت الأعلام التركية إلى جانب علم الثورة في مظاهرة ضمَّت أهالي بلدة سرمدا مع النازحين إليها، الذين اعتبروا مسألة عودتهم مظفّرين إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم مسألة وقت لا أكثر.
مظاهرة لأهالي بلدة سرمدا والنازحين إليها في ريف إدلب الشمالي تحيي الجيش التركي
الانتظار
لكن وبعد عدد من المفاوضات بين الجانبين التركي والروسي، أُعلِن عن توصّلهما لاتفاق يقضي بإيقاف العمليات العسكرية في إدلب مطلع الشهر الحاليّ، مع إقامة ممر أمنيّ على بعد 6 كيلومترات شمال و6 كيلومترات جنوب الطريق الدولي السريع الرئيسي في إدلب “أم 4″، إضافة إلى نشر دوريات روسية – تركية مشتركة على طوله ابتداءً من 15 من مارس/آذار الحاليّ، بما يوحي بتثبيت خريطة السيطرة الحاليّة على المنطقة، مُحبِطًا آمال السوريين بالتحرير.
أحد مهجري ريف إدلب في الشمال السوري، يحتضن طفله ساندًا ظهره إلى جدار مركز إيواء مؤقت
رغم ذلك كان القرار مريحًا نوعًا ما لأهالي مدينة إدلب وريفها الشمالي الذين رأوا فيه إبعادًا لشبح التهجير عنهم، أما مئات ألوف المدنيين المنتشرين على الحدود السورية التركية في المخيمات ومراكز الإيواء المؤقت، فقد جاء القرار كالصاعقة على رؤوسهم، مُجهِضًا آمالهم بالعودة.
لكن هؤلاء – كحال السوريين جميعًا – لا يملكون إلا الأمل بالغد، منتظرين تجدُّد الحرب، ونوعًا من عدالة أرضية تتحقق لهم، فيعودون إلى ديارهم التي هجروها مكرهين.