تاريخ روسيا مع الدول العربية لم يكن ناصع البياض كما يظنه البعض الآن، وبينما يعزف الكثير من الحكام العرب ومعهم بعض شعوبهم على أوتار تمجيد التحالف مع الدب الروسي، يتناسى الكثيرون أن الدولة الروسية كانت أحد عوامل تقسيم المنطقة العربية وتوزيع غنائمها على الاستعمار الأجنبي.
كانت روسيا أحد الشركاء الثلاث في معاهدة سايكس بيكو الشهيرة، تلك المعاهدة التي سمحت لفرنسا وبريطانيا باقتسام الدول العربية الواقعة شرقي البحر المتوسط، ولا يزال العرب يحصدون نتائجها الكارثية حتى اليوم، خلافات حدودية ونزاعات عرقية وصراعات على الموارد والنفوذ.
كثير من صفحات التاريخ لم تتطرق إلى الدور الروسي في المعاهدة الموقعة في 19 من مايو 1916، مكتفية بأنها كانت مناصفة بين بريطانيا وفرنسا، حيث مثل الأولى مارك سايكس (1879 – 1919) والثانية جورج بيكو (1870 – 1951) وكان هدف المعاهدة تقسيم الشرق الأوسط بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى التي بدأت سنة 1914.
لكن بالعودة إلى الوراء قليلًا سنجد أن تلك المعاهدة – التي ركز الإعلام الغربي والشرقي على حد سواء على ثنائيتها – كان لها طرف ثالث، فروسيا كانت الدولة الثالثة التي شاركت في إبرامها، على أمل أن تنال حظها من توزيع كعكة دول المنطقة، إذ كانت تحلم بالسيطرة على بعض أجزاء الإمبراطورية العثمانية القديمة، لكن هزيمتها النكراء في الحرب أخرجتها من سباق المكاسب الذي كانت تهرول إليه.
سايكس – بيكو – سازونوف
حين اندلعت الحرب العالمية الأولى سعت الإمبراطوريات العظمى في ذلك الوقت لإحكام سيطرتها على دول الشرق الأوسط، فبعيدًا عن كونها ساحة المعركة إلا أنها كانت تتمتع بموارد اقتصادية أسالت لعاب قوى العالم المختلفة، وعلى الفور عينت الحكومة الفرنسية، قنصلها العام السابق في بيروت مندوبًا ساميًا لمتابعة شؤون الشرق الأدنى ومفاوضة الحكومة البريطانية في مستقبل البلاد العربية.
التقى المندوب الفرنسي بنظيره البريطاني، في القاهرة، بإشراف مندوب روسيا، وأسفرت هذه الاجتماعات والمراسلات عن اتفاقية عُرفت باسم “اتفاقية القاهرة السرية”، ثم انتقلوا إلى مدينة بطرسبرغ الروسية، حيث جولة جديدة من المفاوضات نتج عنها اتفاقية ثلاثية سُميّت باتفاقية سايكس بيكو.
ووفق تلك الاتفاقية تستولى فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أضنة، في مقابل استيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين، أما روسيا القيصرية فكان من نصيبها الولايات الأرمنية في تركيا وشمال كردستان، بجانب حقها في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الأماكن المقدسة في فلسطين.
أما المنطقة المحصورة بين الأقاليم التي تحصل عليها فرنسا وتلك التي تحصل عليها بريطانيا، فتكون – بحسب المعاهدة – اتحاد دول عربية أو دول عربية موحدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تقسم إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، ويشمل النفوذ الفرنسي شرق بلاد الشام وولاية الموصل، بينما النفوذ البريطاني يمتد إلى شرق الأردن والجزء الشمالي من ولاية بغداد وحتى الحدود الإيرانية.
ظلت الإمبراطورية العثمانية مطمعًا لروسيا القيصرية لسنوات طويلة، ودومًا ما كانت تتحين اللحظة المناسبة للانقضاض وفرض سيطرتها على بعض مناطق النفوذ في تلك الإمبراطورية
وقبل توقيع تلك الاتفاقية بعام واحد فقط، كانت بريطانيا وروسيا قد وقعتا معاهدة سرية مارس 1915، تعطي لروسيا مضيقي البوسفور والدردنيل، بالإضافة إلى مدينة إسطنبول مقابل إعطاء بريطانيا مناطق من الإمبراطورية العثمانية، ومنها وادي الرافدين الغني بالنفط.
لكن بعد فشل حملة الدول الحلفاء في الحرب على الدردنيل وغاليبولي بفترة قصيرة، رأت بريطانيا وفرنسا ضرورة ضم روسيا إلى معاهدة سايكس – بيكو، التي ضمنت لروسيا مناطق مثل أرمينيا التركية (أي الجزء الشرقي بأكمله من تركيا الحاليّة) بالإضافة إلى مضيقي الدردنيل (الذي تشرف عليه مدينة إسطنبول) والبوسفور ومدينة إسطنبول، وعلى الفور تغير اسم المعاهدة ليصبح (سايكس – بيكو – سازونوف)، فقد كان وزير الخارجية آنذاك سيرغي سازونوف ممثلًا لروسيا في مفاوضات هذه المعاهدة.
حين وقعت تلك المعاهدة كانت سرية للغاية – باتفاق الدول الأطراف – ولم يتم كشفها إلا لاحقًا، غير أنها كشفت وبصورة كبيرة أطماع الدولة الروسية التي بدأت حتى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث حاولت التوسع في الصين وشمال إيران وأفغانستان.
بل إن أطماعها في الهند التي كانت تحت الاحتلال البريطاني آنذاك لم تكن سرًا، وفي حالة الانتصار في الحرب العالمية الأولى فإن الصراع البريطاني الروسي كان على الأغلب سيعود الى الواجهة، وكانت روسيا تحاول جاهدة التوسع في أوروبا الشرقية لتأسيس نوع من الإمبراطورية السلافية هناك، لكنه لم يحدث.. فقد خسر الروس الحرب.
روسيا خارج السباق
معلوم أن سايكس بيكو كغيرها من المعاهدات الدولية الأخرى، لم تكن محكومة بأي قانون يلزم الأطراف الموقعة بالتزامات محددة، وهو الحال كذلك حال نشوب أي خلاف بينهم، وعليه كانت قابلية كل طرف في حماية حقوقه تخضع بشكل كبير لما يمتلكه من قدرة عسكرية تؤهله لفرض كلمته، وما يقال بشأن رغبة تلك الدول في الالتزام بما جاء في نص المعاهدة لا يعدو كونه التزامًا أدبيًا يسدل ستاره مع نهاية الحرب العالمية الأولى ليفرض المنتصر شروطه كاملة.
ظلت الإمبراطورية العثمانية مطمعًا لروسيا القيصرية لسنوات طويلة، ودومًا ما كانت تتحين اللحظة المناسبة للانقضاض وفرض سيطرتها على بعض مناطق النفوذ في تلك الإمبراطورية التي كانت ذات يوم من أكبر القوى العسكرية والاقتصادية في العالم، وفي عصرها الذهبي في القرن الخامس عشر بسطت سيطرتها على مساحة لم تشمل فقط أراضيها الأساسية في آسيا الصغرى، بل شملت أيضًا جزءًا كبيرًا من جنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ورغم استمرار هيمنة الإمبراطورية العثمانية مدة 600 عام، فإن دخولها الحرب العالمية الأولى كان علامة فارقة في تاريخها، حيث كان المسمار الأول في نعشها، فبعد خسارة الحرب بسنوات جرى توقيع معاهدة لوزان في سويسرا عام 1923، بين تركيا – وريثة الدولة العثمانية – والقوى المنتصرة في الحرب، التي حددت حدود دولة تركيا الحديثة، وكانت خسارتها الحرب ذريعة للقوى الأوروبية لتقاسم غنائم السلطنة التي كانت تعرف بـ”رجل أوروبا المريض”.
مع الإعلان الروسي إنهاء مشاركته في الحرب، خفت نجم الإمبراطورية الروسية القيصرية، ومن ثم سقطت حقوقها المزعومة في المعاهدة
ومع قدوم عام 1922 تفككت الإمبراطورية بصورة رسمية مع سقوط آخر السلاطين العثمانيين محمد السادس، بعد عزله ومغادرته العاصمة العثمانية (إسطنبول) على متن سفينة حربية بريطانية، وقد نشأت الدولة التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المندثرة.
لكن لم تجر رياح الحرب كما تشتهي سفن الروس الحالمة، فقد خرجت روسيا من الحرب بعد أن سقط النظام القيصري ليحل محله النظام الشيوعي الذي كانت له رؤية مختلفة، فيما يتعلق بالمعاهدات الموقعة، هذا في الوقت الذي لم يكن الجيش الروسي في حالة تسمح له بالاستمرار في القتال.
ومع الإعلان الروسي إنهاء مشاركته في الحرب، خفت نجم الإمبراطورية الروسية القيصرية، ومن ثم سقطت حقوقها المزعومة في المعاهدة، وفي المقابل كانت بريطانيا تتصدر المشهد بعد انتصارها، فاستولت على شمال العراق واحتلت أجزاءً من تركيا ومنها إسطنبول ومضيقا البوسفور والدردنيل ودخلت مع فرنسا في مفاوضات جديدة لتقسيم الغنائم بمعزل عن روسيا.
ومع تأسيس الجمهورية التركية الحديثة بوضعيتها الحاليّة، بما يفند ما أقرته المعاهدة وما سبقها، (حصول بريطانيا وفرنسا على أجزاء كبيرة من تركيا) يمكن القول إن المعاهدة لم تنفذ أبدًا فيما يتعلق بشقها التركي، وإن تغولت بشكل كبير في مسارها العربي، حيث أحكمت الدولتان الكبيرتان سيطرتهما على معظم الدول العربية.
وبقي الاستعمار الفرنسي البريطاني حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 مهيمنًا على بلدان المشرق ومتسلحًا بسلطة الانتداب الممنوحة له من عصبة الأمم في مؤتمر لندن عام 1922 مع استثناءات في اليمن والسعودية والأردن، وارتبطت مصر والعراق مع بريطانيا بمعاهدات حدت عمليًا من استقلالهما إلى حين الإطاحة بالأنظمة الملكية فيهما تباعًا عامي 1952 و1958.
خلال السنوات الخمسة الأخيرة على وجه التحديد، بدأت تتحرك روسيا بوتين لإحياء إمبراطوريتها المهزومة، عبر لملمة شتاتها على حساب أرض العرب
أحلام اليقظة
الغريب أنه ورغم سقوط المعاهدة بشكل عملي بعد استقلال البلدان التي تضمنتها الاتفاقية، فإن الإعلام الروسي ما زال يعزف على ذات الوتر، مؤملًا نفسه بوجوب حصول بلاده على ما أرادته من هذه المعاهدة، وهو ما أثار الكثير من الجدل والسخرية في آن واحد من السياسيين والخبراء.
قناة “روسيا اليوم” التي تعد أحد الوجهات الإعلامية الروسية على العالم، في برنامجها الشهير “رحلة إلى الذاكرة” المذاع في 22 من يونيو 2016 تحت عنوان “أسرار اتفاقات “سازونوف – سايكس – بيكو”.. كيف سقط العنصر الروسي في الاتفاقية الشهيرة؟” كان مدير مركز دراسات الشرق الأوسط وبلدان وسط آسيا، سيميون باغداساروف، ضيف هذه الحلقة مع مقدم البرنامج خالد الراشد.
الخبير الروسي وبكل صراحة أعرب عن رغبته بوجوب حصول روسيا على ما أرادته من اتفاقية سايكس بيكو، مشيرًا أنه إذا كان هذا غير ممكن فيجب العودة للمعاهدة السابقة بين روسيا وبريطانيا التي أبرمت سنة 1915 على أساس أن هذا يشكل “الإرث الشرعي” لروسيا، على حد وصفه.
مدير مركز دراسات الشرق الأوسط وبلدان وسط آسيا أسهب خلال الحلقة في وصف ما أسماه “حقوق روسيا” في احتلال إسطنبول التي كان يسميها القسطنطينية طوال المقابلة التليفزيونية، وهو اسمها قبل الفتح الإسلامي عليها، مدعيًا أن الامبراطور الروسي إيفان الرهيب (1530 – 1584) كان حفيد ابنة آخر إمبراطور بيزنطي، معتبرًا أن تلك الأسباب كفيلة بتبرير الأطماع الروسية في الحصول على المدينة التركية.
وبعد مرور قرن كامل على سايكس بيكو، يبدو أن الأجواء الآن تتهيأ لمعاهدات من نوع جديد، ربما لم تكتب بشكل رسمي، لكن إرهاصاتها تظهر تباعًا، حيث تقسم المنطقة مرة أخرى جيوبوليتيكيًا على حساب العرب، من حيث الممارسات ومناطق النفوذ، بإضعاف مكونات الدولة العربية الوطنية ونفوذها حتى إذا لم تتغير الحدود الدولية جوهريًا.
وخلال السنوات الخمسة الأخيرة على وجه التحديد، بدأت تتحرك روسيا بوتين لإحياء إمبراطوريتها المهزومة، عبر لملمة شتاتها على حساب أرض العرب، وأصبحت الاتصالات الشرق أوسطية الروسية متعددة، وتشمل حتى حلفاء الغرب وأمريكا، والزيارات المتبادلة للرئيس الروسي ووزرائه مع مختلف الأطراف الشرق أوسطية وصلت إلى معدلات ومستويات لم نشهدها طوال القرن الماضي.
وبفلسفة لعبة الشطرنج السياسية تسعى موسكو اليوم لتوظيف التغيرات الجيوبولتيكية والبراجماتية في المنطقة، لحساب أجنداتها الاستعمارية الخاصة، حيث تسعى للحصول على مكان نظيرتيها البريطانية الفرنسية، تأمينًا لأهداف ومصالح خاصة بها، تجعلها تدخل في مواءمات وصفقات إقليمية وعالمية مع دول أخرى.
اللافت أن الحق العربي المسلوب بات العنصر المتكرر في كل موجات الاستعمار الأجنبي خلال القرنين الماضيين، وهو ما أثار الكثير من المخاوف مؤخرًا بشأن استنساخ تجارب التاريخ مرة أخرى، تلك المخاوف التي عززتها المستجدات الأخيرة التي تؤكد أن موسكو باتت الآن أحد الأطراف الأكثر تأثيرًا في مواءمة الترتيبات المستحدثة، وفقًا لمصالحها الخاصة التي تتفق بين الحين والآخر مع الأطراف العربية، حسب الموقع والظروف والحدث.
مثل هذه التحركات تأتي في وقت بلغت فيه المكايدة السياسية بين دول المنطقة حد الارتماء في أحضان قوى استعمارية بعينها نكاية في قوى أخرى، وهي الإستراتيجية التي قد يدفع العرب في الشرق الأوسط ثمنها غاليًا جدًا هذه المرة، فالدب الروسي ليس كما يظنه العرب، والتاريخ لا يرحم والجرائم لا تسقط بالتقادم.