أعيد رسم خريطة العالم عدة مرات على مر التاريخ، وفي معظم المحطات التاريخية كانت أجزاء منه عبارة عن مناطق مفتوحة على مصراعيها مع وجود بعض الحدود الفضفاضة أو غير المحددة بالكامل، وذلك حتى تشكلت غالبيتها بفعل معاهدات وصفقات الحروب والصراعات التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية وأعقبت الحرب العالمية الأولى، ومثلها ما فرضته الدول الاستعمارية الغنية على جغرافية الشرق الأوسط بموجب اتفاقية سايكس بيكو (1916)، التي يرى البعض أنها مصدر أساسي في نشوء النزاعات الحدودية والتوترات الطائفية التي لم تتجاوزها شعوب المنطقة بعد.
وهناك ما أنشئ في حقبات زمنية أقدم من ذلك، مثل الفترة ما بين 1555 و1918 التي شهدت توقيع نحو 18 معاهدة تتعلق بخلافات حدودية بين الدولة الصفوية والعثمانية. ورغم قدم الفكرة نفسها، فإن عمر ثلث الحدود الموجودة حول العالم لا يتجاوز الـ100 عام، ولعل أبرزها الحدود الداخلية والإقليمية في السودان وجدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، وقد نشهد في السنوات المقبلة تغييرات حدودية جديدة في سوريا وشبه جزيرة القرم وإقليم كتالونيا في إسبانيا.
آلاف الأميال من الأسلاك الشائكة
استحوذت أخبار الحدود وبناء الجدران العازلة على قدر كبير من أحاديث العالم في السنوات الماضية القليلة، لا سيما بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وما تبعها من هجمات شنتها تنظيمات إرهابية بطريقة عشوائية على عدد من دول العالم، الأمر الذي يفسر سبب ترسيخ الحدود السياسية على الأرض بالسياجات والجدر في الوقت الحاليّ أكثر من أي وقت مضى، فقد كان عدد الجدران الحدودية في فترة التسعينيات نحو 15 جدارًا حول العالم، أما اليوم فهناك ما يقرب من 70 منها، وذلك عدا عن تطورها الملحوظ من الناحية العسكرية والتكنولوجية.
تأتي هذه التعزيزات الأمنية أيضًا نتيجة للأموال الهائلة التي تنفقها الدول الغنية لإغلاق حدودها وتسييجها بجدران إسمنتية عملاقة أو أسلاك مكهربة شائكة، على سبيل المثال منذ عام 2007 أنفقت الولايات المتحدة 9.7 مليار دولار على بناء الحواجز الحدودية، وكلها تقريبًا على الحدود الجنوبية الغربية، وحاليًّا يخطط الاتحاد الأوروبي لإنفاق 34.9 مليار يورو (38.4 مليار دولار) على أمن الحدود. واستجابة لتصاعد أزمة المهاجرين الأخيرة على الحدود التركية اليونانية أعلنت المفوضية الأوروبية بأنها ستقدم للسلطات اليونانية نحو 700 مليون يورو لتأمين حدودها على اعتبار أن “هذه الحدود ليست حدود اليونان فقط، بل حدود أوروبا”.
تقودنا هذه الأرقام إلى زاوية أخرى تبين لنا أحد العوامل التي تدفع أوروبا إلى تشديد إجراءاتها على الحدود، إذ كشف تقرير صادر عن معهد عبر الحدود الوطنية عام 2019 أن مجموعة صغيرة من شركات الأسلحة الأوروبية تستفيد بشكل كبير من تزايد ميزانية الاتحاد الأوروبي المخصصة لتأمين الحدود، وهذه الشركات بالذات لها تأثير كبير على تبني المفوضية هذه السياسة بكل إخلاص وإصرار، ما يعني أن تعامل الاتحاد الأوروبي مع الحدود كمسألة أمنية حساسة، يخدم مصالح هذه الشركات التجارية بقوة.
الأمر الذي يضم أصحاب هذه الأعمال التجارية إلى خانة مجموعات الضغط التي تنظر إلى عسكرة حدود أوروبا كمصدر أساسي لاستمرار أنشطتها، وذلك دون الأخذ بالحسبان المخاطر التي يتعرض لها المهاجرون على الحدود، إذ تتعامل هذه الكيانات مع الهجرة كتهديد أمني ومكسب مادي في المقام الأول، وليس أزمة إنسانية، وبالتالي تجتهد في ردع المهاجرين وتعقيد عملية عبورهم من البوابات المسيجة والمسلحة.
الحدود والعنف السياسي
يرى ريس جونز، أستاذ مشارك في جامعة هاواي ومؤلف كتاب “عنف الحدود: اللاجئون والحق في التنقل” أن تشديد الإجراءات على الحواجز بالشكل الحاليّ أدى إلى ارتفاع عدد وفيات المهاجرين بسبب اضطرارهم إلى وضع حياتهم بين أيدي المهربين – غالبيتهم محتالين – واتخاذ طرق أكثر خطورة من ذي قبل، وذلك بمقارنة البيانات بين الثمانينيات والتسعينيات التي رصدت مئات الوفيات سنويًا على الحدود، وبين منتصف عام 2000 الذي ارتفع فيه العدد إلى 1500 و2000 حالة.
ولوحظ ارتفاع في هذا الجانب بشكل أكبر في السنوات القليلة الماضية، ففي عام 2015 كان هناك أكثر من 5000 حالة وفاة على الحدود، أما في عام 2016 لقي 7500 شخص مصرعهم أو فقدوا وهم يحاولون عبور الحدود، ونظرًا لهذا الواقع، لا يمكننا تجاهل أو إنكار العلاقة بين الحدود والعنف الذي يحيط بها.
ومعظمنا يعرف شكل هذا العنف الذي يأتي على شكل حراس عسكريين أو مراكز احتجاز أو الإعادة القسرية أو ما هو أسوأ.. تركهم على الطرقات في الخلاء دون خيم أو طعام أو حماية كما تفعل اليونان حاليًا مع المهاجرين الذين ينتظرون أمام بوابتها للمرور عبرها نحو أوروبا.
تشارك شورا والين – إحدى المتطوعات والناشطات الحقوقية في قضية الهجرة وخصوصًا في المناطق الحدودية الأمريكية – رأيها في هذا الجانب وتقول: “تغيرت الطرق بشكل كبير، أصبحت أكثر خطورة الآن، أكثر بكثير مما كانت عليه في الماضي”، مشيرة إلى التضاريس الوعرة وحرس الحدود وطائرات المراقبة.
وبالنسبة إلى جونز فإن الفاصل الإسمنتي أو السلك الشائك بحد ذاته مثال على العنف، لأنه بحسب قوله: “إذا رسمت خطًا وقلت: ما يوجد على هذا الجانب من الخط هو ملكي، فهذا يعتمد على تهديد بالعنف، ففي حال انتهك شخص ما ذلك الفاصل ووصل إلى الفضاء المخصص لك، فإن الخيار الوحيد في النهاية هو استخدام نوع من القوة لنقله، وهو ما يعتمد ضمنيًا على العنف”.
كيف نتخلص من الحدود وتعقيداتها؟
حماية الحدود قضية أساسية، وفي الوقت ذاته مسألة حساسة ومكلفة تفتح أبوابًا من التساؤلات السياسية والاقتصادية والأخلاقية أيضًا، لكن الخطابات اللاذعة من السياسيين أبرزهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والشعبيين اليمينيين في جميع أنحاء أوروبا، عن “بناء جدران” و”ضبط الحدود” و”استعادة السيطرة” و”حماية الأمن القومي” و”تنظيم الهجرة” و”طرد اللاجئين” و”زمن المهاجرين الجميل ولى” و”الإعادة القسرية” و”الترحيل” و”مخيمات الاحتجاز” و”حظر السفر”، غطى على الجانب الإنساني والأخلاقي المرتبط بهذه القضية.
ويمكن تبرير خشونة هذه الأصوات بخوفها من المجهول أو إرباك مصالحها الخاصة أو تغيير ميزان القوى، ولذلك ينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى تقييد حق الإنسان في التنقل عبر الحدود، لا سيما من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، مع أن القانون الدولي الحاليّ لحقوق الإنسان، تنص فيه المادة رقم (13) على أن لكل فرد الحق في حرية التنقل وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة، ولكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده، كما تحتوي المادة (14) على حق الفرد في اللجوء لبلدان أخرى والتمتع به خلاصًا من الاضطهاد.
وبناءً على هذه المعطيات، تأسست منظمات ومبادرات لضمان هذا الحق، فظهرت جماعة “أشخاص بلا حدود” وحركة “الحدود المفتوحة” ومنظمة “لا يوجد إنسان غير قانوني”، كما برز مفهوم “المواطن العالمي” لاعتبارات أخلاقية تشير إلى أنه لا يمكن معاملة البشر بطريقة مختلفة لمجرد أنهم ولدوا على الجانب الآخر من العالم، وجميعها محاولات متفرقة للترويج للحدود العالمية المفتوحة كخيار سياسي قابل للتطبيق، يضاف إلى هذه الجهود، تطبيقات رقمية ذكية تساعد المهاجرين في العثور على الممرات والطرق الآمنة في أثناء توجههم إلى أوروبا أو تنقلهم من منطقة لأخرى، وهي وسيلة إضافية للتشكيك في شرعية الحدود التي تقيد حركة الناس.
ومن هذا المنظور، يؤمن أنصار الهجرة الحرة بأن الحدود المفتوحة أكثر الطرق فعالية للحد من الفقر في العالم، حيث يمكن للمهاجرين من البلدان النامية كسب أجور عالية نسبيًا بعد الانتقال إلى البلاد الأكثر تقدمًا، كما يساهمون في تدفق الأموال إلى البلدان النامية من خلال التحويلات المالية التي يرسلونها إلى الأقارب في وطنهم الأم. من جانب آخر، يرى الاقتصادي والكاتب فيليب ليجرين أن دول العالم تحتاج إلى تنشيط الهجرة لتنمية التجارة العالمية والحد من الحروب والنزاعات الإقليمية، وبالعموم، قدر الاقتصاديون أن وجود عالم من الحدود المفتوحة سيضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
يدعم هؤلاء آرائهم، بنماذج وقصص المهاجرين الذين صاروا رواد أعمال في الدول المضيفة، إضافة إلى الأرقام والإحصاءات التي تستعرض حجم مشاركتهم الكبيرة في القوى العاملة، ومساهمتهم في أسواق العمل التي تعاني من نقص معين من الخبرات، إضافة إلى ذلك يجتهدون في نشر روايات ونظريات تثبت أن الشكل الحاليّ للعالم ما هو إلا إفرازات الأنظمة الاستعمارية الأوروبية.
ويستندون إلى وجهات النظر التي ترى أن نظام الحدود هو نظام خلق للتحكم في الموارد والسيطرة على الناس واستبعاد الآخرين من الوصول إلى هذه الموارد، ما يعني بأنه يحرم نوعًا أو فئة محددة من العالم من الامتيازات التي تراكمت في ركن ما، ورغم قوة حجج أنصار الهجرة فإن عدد من العاملين في المجال الإنساني للتطوع في خدمة قضية المهاجرين يشيرون إلى صعوبة عملهم بسبب المناخ السياسي المعادي والحاد الذي يعارض مبدأ حرية الحركة والتنقل.
يظهر ترامب مجددًا في هذه الصورة لأنه أحد أبرز السياسيين الذين ساهموا في خلق بيئة معادية للاجئين والمهاجرين الذين يعبرون، وربما كان أكثرهم سرعة وإصرارًا على اتخاذ إجراءات تعسفية على أرض الواقع، حتى إنه لم يتوان عن اتهام أنصار الحدود المفتوحة بمشاركتهم في تهريب والاتجار بالبشر وتأسيس شبكات إجرامية تضر المجتمع وأمن الدولة، وانحصارهم في مصطلحات ضيقة عن “مهارات المهاجرين” و”المساهمات الاقتصادية”، وعدم اهتمامهم باستغلال الآخرين لامتيازات وحريات البلاد واستهلاك أموال دافعي الضرائب.
لن يكون رسم الحدود، إلا فعل ممارسة القوة وفرض السيطرة على الإنسان
جدير بالذكر أن الأوضاع تختلف في الدول التي لا تشهد موجات هجرة، خذ مثلًا حالة الحدود المغربية الجزائرية المغلقة بين الجانبين منذ عام 1994 حيث يتظاهر نشطاء حقوقيون للمطالبة بفتحها وإنهاء معاناة السكان في الجانبين مع السفر جوًا، ما يعني أن الحدود المفتوحة ليست بالضرورة مرادفًا ملازمًا للهجرة واللجوء.
“يُولد الإنسان حرًا، ولكننا نجده مكبلًا بالأغلال أينما كان”، ولو كان روسو قائل هذه العبارة ما زال حيًا إلى يومنا هذا لأعاد صياغة عبارته وقال إننا محاصرون بين الأسلاك الشائكة والجدران الخرسانية ومراكز الرقابة والحراس المدججين بالسلاح على حدود الدولة التي ولدنا فيها أو التي نسعى للانتقال إليها، مع أن هذه الاحتياطات الأمنية لا يمكن أن تكون حلًا طويل الأجل وليس من المؤكد أنها تجدي نفعًا في صد الإرهاب ولم تثبت بعد أنها نجحت في التعامل مع ملف اللجوء.
ولذلك، لن يكون رسم الحدود، إلا فعل ممارسة القوة وفرض السيطرة على الإنسان الذي لا يشبه بثقافته ولغته ولونه ودينه العالم الذي يقع على الجانب الآخر، وأفضل مثال على ذلك أن نموذج الحدود المفتوحة لم يطبق إلا في منطقة شنغن الأوروبية التي اتفقت فيها البلدان الأوروبية المتشابهة نسبيًا مع بعضها البعض على إنقاذ فكرة الحدود المفتوحة من خلال إقامة أسوار جديدة على الحدود الخارجية. بعبارة أخرى، إن فكرة الحدود المفتوحة فكرة عقيمة، والأمل في تحطيمها يبقى مرتكزًا على الوقائع التاريخية التي تخبرنا بأن النظم تتغير دائمًا وبعد مئتي عام من الآن قد نتجول في العالم دون أن يلاحقنا أحد.