قبل نحو سبع سنوات من الآن، تحديدًا يوم الـ17 من يوليو/تموز 2013، رحل الصحافي الفرنسي والمناضل الشيوعي هنري علاق الذي كان من أصدق المصادر التاريخية التي وثقت التعذيب خلال حرب تحرير الجزائر من المستعمر الفرنسي.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف “فرنسيون ضد الاستعمار“، سنتطرق معًا لشخصية هذا الحقوقي الذي يعد أحد أبرز المدافعين عن الثوار الجزائريين والثورة إبان الاحتلال الفرنسي وأحد أهم المساهمين في فضح الجرائم والانتهاكات التي مارسها الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
تبني القضية الجزائرية
ولد هنري علاق في 20 من يوليو/تموز 1921 بالعاصمة البريطانية لندن، من والدين يهوديين ينحدران من أصول بولندية روسية هربا من المذابح في بلديهما، انتقل علاق بعد ذلك صحبة عائلته إلى باريس، حيث أمضى هناك طفولته ومراهقته.
أكتوبر/تشرين الأول سنة 1939، أي بعد شهر فقط من انطلاق الحرب العالمية الثانية، انتقل هنري علاق إلى الجزائر، وهناك عاين جرائم الاستعمار الفرنسي بحق السكان الأصليين للبلاد وشاهد حجم العنف والقمع الممارس ضدهم.
في أثناء فترة اعتقاله بسجن بارباروس في وهران الجزائرية، ألف هنري علاق سرًا كتابه “السؤال” الذي وثق فيه وحشية التعذيب وأساليبه
عند وصوله الجزائر، أدرك هنري علاق أن هناك فئتين من الناس في المستعمرة الفرنسية: معمرين ومستعمرين، ليقرر بعد ذلك الانضمام إلى الحزب الشيوعي الجزائري الذي كان يضم جزائريين وفرنسيين ويدافع عن حقوق الجزائريين.
في الجزائر تعرف الحقوقي هنري علاق على جيلبيرت سرفاتي التي ستصبح زوجته سنة 1946، وتنضم معه إلى الحزب الشيوعي الجزائري ويناضلا معًا في سبيل استقلال الجزائر وخروج المستعمر الفرنسي من هذه الأراضي العربية.
حمل هنري علاق القضية الجزائرية في قلبه ووجدانه وآمن بضرورة استقلال البلاد وتخلى عن فرنسيته مقابل إنسانيته، حين تحدى سلطات الاحتلال الفرنسي وانخرط في الثورة الجزائرية وناصر الثوار في مسيرتهم ضد المستعمر.
السجن في انتظاره
سنة 1950 انضم الفرنسي هنري علاق إلى أعمدة صحيفة “الجزائر الجمهورية” – صحيفة يسارية ليبرالية نددت بالاستعمار الفرنسي للجزائر – كمحرر، ثم أصبح بعد فترة وجيزة مدير تحريرها، ففتح أعمدتها لمختلف الآراء الديمقراطية والوطنية الجزائرية.
أدار هنري علاق تحرير هذه الأسبوعية الناطقة بالفرنسية لمدة 5 سنوات (بين 1950 إلى 1955)، وفي تلك الفترة برزت مواقف علاق المنددة بالاستعمار الفرنسي للجزائر والرافضة له، فعمل على فضحه وفتح صفحات جريدته إلى كل مؤيد لاستقلال الجزائر.
كتابات جريدة “الجزائر الجمهورية” أثارت حفيظة المستعمر الفرنسي، ما عجل بغلقها ومنع صدورها في صيف 1955، لكن ذلك لم يضع حدًا لنشاط هنري علاق، إذ انتقل للعمل السري بدايةً من سنة 1956 لمساعدة الثوار الأحرار في نيل استقلال بلادهم.
في الـ12 من يونيو/تموز 1957 – في خضم “معركة الجزائر” – اعتقلت فرقة من المظلين الفرنسيين المناضل الحقوقي هنري علاق بينما كان يُحاول الاتصال بالمناضل الفرنسي موريس أودان الذي قتل لاحقًا تحت التعذيب.
اعتقل علاق في أحد الأحياء بالعاصمة الجزائر، في “فيلا سوسيني” بالأبيار لمدة شهر تقريبًا، ونُقِل بعد ذلك إلى سجن لودي بمدينة المدية حيث بقي شهرًا آخر، ومنه إلى سجن بربروس، وهو سجن الجزائر المدني.
أدانته المحكمة العسكرية لشمال الجزائر (العاصمة) بالسجن عشر سنوات نافذة، بتهمة المس بأمن الدولة الخارجي وإعادة تشكيل رابطة محظورة رفقة صديقه موريس أودان، ثم تم نقله إلى سجن رين الفرنسي لاستكمال مدة عقوبته.
خلال فترة اعتقاله بمبنى مهجور في حي الأبيار بأعالي المدينة بالعاصمة الجزائر، تعرض هنري علاق لشتى أنواع التعذيب من جماعة القومندان بول أوساريس الذي أشرف على “التحقيقات المعززة” وهو مصطلح يعني في لغة اليوم “التعذيب”.
تم استعمال أساليب ووسائل مريعة للتحقيق معه وتعذيبه منها الصعق بالكهرباء واستخدام ما سمي وقتها “مصل الحقيقة”، لدفعه للإدلاء بمعلومات تتعلق بالثوار الجزائريين الذين رفعوا السلاح في وجه الاحتلال الفرنسي، فضلًا عن دفعه للتنكر للقضية الجزائرية.
بعد ثلاث سنوات، وفي أثناء أخذه إلى مستشفى مدينة رين، انتهز هنري علاق فرصة اشتغال حراسه وفر من المستشفى بمساعدة بعض رفاقه، وذهب إلى تشيكوسلوفاكيا ثم عاد إلى الجزائر، وأعاد إصدار صحيفة “الجزائر الجمهورية” لسان حال الشيوعيين الجزائريين، ثم تم العفو عنه بموجب اتفاقيات إيفيان التي سمحت بإعلان وقف إطلاق النار ووضع حد لحرب الجزائر.
كتاب “السؤال”
في أثناء فترة اعتقاله بسجن بارباروس، ألف هنري علاق سرًا كتابه “السؤال” الذي وثق فيه وحشية التعذيب وأساليبه ووضح فيه جرائم الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين والأوروبيين المؤمنين باستقلال الجزائر.
هرّب محامي هنري علاق “لِيو ماتاراسو” صفحات الكتاب من السجن، ليصدر عن “منشورات مينوي” الفرنسية عام 1958، ويوزع منه أكثر من 60 ألف نسخة، لكن السلطاتُ الفرنسية عمدت إلى مصادرته من المكتبات ومنع تداوله، وقبل ذلك، رفضت بعض دور النشر في فرنسا وغيرها نشره بسبب مضامينه.
بقي هنري علاق وفيًا للقضية الجزائرية وحق شعبها في تقرير مصيره والعيش بحرية وكرامة بعيدًا عن المستعمر الفرنسي
أعيد بعد ذلك نشر الكتاب في سويسرا، ورغم محاصرة عملية ترويجه من السلطات الفرنسية، نجح في كشف الوجه القبيح للاستعمار الفرنسي وتنبيه الرأي العام الفرنسي إلى حقيقة ما يحدث في الجزائر المستعمَرة.
شهادات حية على وحشية الاستعمار
في هذا الكتاب كشف هنري علاق جحيم مراكز الاعتقال والسجون وفضح أساليب التعذيب التي مارسها الاحتلال الفرنسي ضد الثوار والمتعاطفين معهم، في مسعى منه لإدانة فرنسا الاستعمارية وتدويل القضية الجزائرية.
وفق ما جاء في الكتاب تعرض علاق بشكل خاص للتعذيب بواسطة الماء، واصفًا هذه العملية باسم “إغراق إلى حد الاختناق”، كما روى التفاصيل الدقيقة لتعرضه للتعذيب بالمولدات الكهربائية من الجيش الفرنسي، ما أحدث مضاعفات سلبية على جسده.
يقول علاق في كتابه السؤال: “تجرعتُ الكثير من الآلام والإهانات إلى درجة أنني كنت لا أتجرأ على استعادة ذكريات التعذيب، لم أكُن لأفعل لولا اعتقادي أنها تسهم في كشف الحقيقة، وتساعد في التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار وبلوغ السلم المنشود”.
يضيف في مكان آخر من الكتاب “كان شاربونييه (أحد المظليين الفرنسيين) يعذبني بالكهرباء رافعًا صوته مرددًا نفس الكلام أين قضيت ليلتك قبل أن يتم توقيفك؟ كما كانوا يأخذون وقودًا يشعلونه ويضعونه على صدري وأطراف أصابع رجلي، ومن كثرة الألم أصبحت لا أحس مما أزعجهم كثيرًا”.
“كان شاربونييه قد أرسل في جسدي أول شحنةٍ كهربائية، كانت شرارةٌ طويلة قد صدرت قرب أذني وأحسست بقلبي يقفز في صدري، تلويت صارخًا وتصلبت حتى جرحت نفسي، في حين كانت الذبذبات الكهربائية تتوالى دون توقف بإيعاز من شاربونييه، والمولد المغناطيسي في يده”.
كان المظليون يمنعون الطعام والشراب عن المعتقل ويضعون الكهرباء داخل فمه دون أي رأفة أو إنسانية، حتى إذا جف ريقه وعرفوا بأنه وصل إلى درجة لا يحتمل بعدها العطش، أعطوه كمية ماء تكون شديدة الملوحة، لدفعهم إلى التكلم والاعتراف.
لم يكن للجلادين الفرنسيين قلوب أو لعلها ماتت، وفق هنري علاق، فقد أصبح التعذيب مهنتهم وقوتهم اليومي، يتلذذون بما يقومون به ويسعون جاهدين إلى ابتكار أنواع وصنوف جديدة من أصناف التعذيب لإذلال وإهانة الجزائريين والأوروبيين المساندين لهم.
بقي هنري علاق وفيًا للقضية الجزائرية وحق شعبها في تقرير مصيره والعيش بحرية وكرامة بعيدًا عن المستعمر الفرنسي، فقد عمل طوال حياته على فضح جرائم المحتل مخلفًا وراءه أرشيفًا ثريًا يشهد على التعذيب الممنهَج الذي مارسه الفرنسيون خلال الثورة الجزائرية.