قطاع كبير من المهتمين بالشأن الثقافي لا يعي العلاقة الطردية بين الثقافة والاقتصاد، تلك العلاقة التبادلية التي تتعاظم في الدول المتقدمة وتقل تدريجيًا في الدول الأقل تنمية، فكلما ازدهرت الثقافة ازدهر الاقتصاد، فالأخير والتنمية لا شك أنهما يستفيدان من المنظومة الثقافية برمتها.
الكثير من الدول حققت فوائد اقتصادية كبيرة من خلال التوظيف الجيد لخريطتها الثقافية، سواء عن طريق انعكاس السلوك المجتمعي الجيد على ممارسات شعوبها الاقتصادية، أم عن طريق استثمار تراثها الثقافي لا سيما الحرف اليدوية والسينما والمنتجات الإبداعية في تحقيق عوائد ومدخولات مالية مباشرة.
ونتاجًا لهذه العلاقة الديناميكية ظهر ما أُطلق عليه “الاقتصاد الثقافي”، هذا المفهوم الذي بدأ يتداول بشكل كبير مع بداية الألفية الجديدة، حيث أصبح القطاع الثقافي يشكل موردًا حقيقيًا لتطوير الأنشطة الإنتاجية في الأسواق العالمية، ورغم حالة القلق التي فرضت نفسها بشأن مخاوف تنميط التعبيرات الثقافية وتسليعها وإخضاعها هي الأخرى لمنطق السوق، فإن الرهان على استثمار التنوع الكوني في التعبيرات الثقافية والحفاظ على أبعادها الحضارية والتاريخية يشكل خزانًا حقيقيًا للتنمية الاقتصادية.
وفي العالم العربي لا يزال هذا المفهوم في أطواره التمهيدية الأولى، حيث إن الثقافة كمفهوم عام تقبع داخل أطر تقليدية جامدة، محصورة في عدد من المرادفات دون غيرها، ويتعامل معها الأغلبية على أنها أمور غير ضرورية، فقط من باب الرفاهية، رغم ما حققته دول العالم من نجاحات كبيرة في تحويل هذا المفهوم إلى قوة اقتصادية هائلة.
مفهوم بحاجة إلى مراجعة
رغم تباين وتعدد مفاهيم الاقتصاد الثقافي، فإنها تنحصر في مفهوم أعم وأشمل، يتناول “كل الديناميات المرتبطة بالتعبيرات والأنشطة الثقافية، المادية وغير المادية، المُساهمة في السوق الاقتصادية عبر إستراتيجيات إنتاج وتوزيع وتعميم الخدمات الثقافية المفتوحة للعموم”.
ووفق هذا التعريف فإن تلك الخدمات التسويقية تساهم في إحداث قيمة مضافة تتمثل في خلق فرص التشغيل وتصدير المنتوج الثقافي وتنويع الخدمات الاقتصادية وتنمية المقاولات الصغرى والمتوسطة، وتضم هذه الأنشطة قطاعات متنوعة ومتداخلة الاختصاصات مثل (الموسيقى – السينما – التليفزيون – الراديو – السمعي البصري – الكتاب والنشر – الصحافة – المكتبات – الأركيولوجيا – المنتجعات – حدائق الحيوان – المحميات – الفنون الاستعراضية – التراث الشعبي – المسرح – الرقص -الفتوغرافيا – التشكيل – النحت – المعارض – المهرجانات – تكنولوجيا الاتصال – الصناعات التقليدية الفنية والإنتاجية -الهندسة المعمارية…).
يتميز هذا المفهوم بنظرة شمولية متسعة، تضم تحت سقفها أغلب الأنشطة المرتبطة بصورة أو بأخرى بالمفهوم الثقافي، لكن تطبيقه ميدانيًا لم يكن على المستوى المأمول والمتسع الذي يعكسه هذا التعريف منذ الوهلة الأولى، لا سيما في الدول النامية، رغم توافر المواد الإبداعية والأنشطة الثقافية القادرة على تشكيل البنيات الهيكلية لصناعة ثقافية مستدامة.
كثير من المهتمين بهذا المجال يرون أن النهوض بالتنمية الثقافية كرافعة للتنمية الاقتصادية، يتطلب تدشين سياسات عامة تدمج كل الأنشطة والقطاعات الثقافية من منظور إستراتيجي عرضي (السياحة الثقافية – البنيات التحتية – التربية والتعليم والتكوين – العمل الجمعي – التكوين المستمر – المتدخلون المهنيون – وسائل الاتصال السمعي البصري…)، بهدف تطوير نظام مؤسساتي للصناعة الثقافية من خلال تقوية المؤهلات المؤسساتية العمومية وشبه العمومية والقطاعات الخاصة المشتغلة في المجالات الثقافية المختلفة، بما ينجم عنه في النهاية مخرج قادر على الإسهام في دفع عجلة النمو الاقتصادي للأمام.
الاستثمار في الثقافة
الكتاب المعنون بـ”الاستثمار في الثقافة: بحوث علمية محكمة لمجموعة من الباحثين والباحثات العرب والعمانيين” الصادر عن النادي الثقافي في عمان، استعرض رؤية شمولية تدرس علاقة الاستثمار الثقافي بجوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بهدف تحقيق التكامل بين عناصر هذه العملية المستدامة، من خلال ما يمكن أن تضيفه الثقافة من تعزيز للاقتصاد الوطني من خلال هذا الدور.
ينطلق الكتاب من الإيمان بأهمية الدور الذي تلعبه الثقافة الذي جعلها محورًا أساسًا في أجندة القرن الحاليّ، وفي توجهات منظمة اليونسكو لتعزيز التنوع الثقافي في العالم، وهو ما ظهر جليًا في خروج العديد من الدراسات العلمية التي تسعى لتقديم الثقافة بوجوهها المتعددة كمواد اقتصادية يمكنها المساهمة في الدخل الاقتصادي للدولة، باعتبارها مواد ذات أبعاد تنموية قابلة للتشكل بأشكال وصور أخرى عند توافر الظروف المطلوبة لذلك.
الباحثتان جليلة بنت راشد الغافرية وزيانة بني عبد الله أمبو سعيدية، أشارتا في بحثيهما المنشور بالكتاب إلى أن الثقافة ذات قيمة اقتصادية عالية، تتجلى في إحياء مهن ترتبط بالثقافة المادية وغير المادية، وفي توفير فرص العمل، كما هو ظاهر في التوجه العالمي نحو توظيف الثقافة المحلية وتطويرها من الجهات الرسمية وغير الرسمية، لافتين إلى أن الدور الكبير الذي لعبته الثقافة في جلب المستثمرين دفع مدن المركز إلى مضاعفة الاهتمام بدور الثقافة في سياسات التنمية.
تحقيق الأرباح في مجال الاستثمار الثقافي غير ممكن على المدى القصير
ونوهت الكاتبتان إلى ضرورة الاهتمام برأس المال الثقافي وتفعيل دور الثقافة بشتى أشكالها، وفي مقدمته التراث المادي واللامادي، وهو الرأي ذاته الذي ذهب إليه الخبير الاقتصادي مسعود بن سعيد الحضرمي الذي قدم مفهومًا أشمل لعملية التنمية الشاملة، يكون فيه دور العامل الثقافي ليس أقل أهمية من العامل الاقتصادي.
الحضرمي في بحثه طالب بدمج البُعد الاجتماعي للتنمية مع البُعد الاقتصادي، في عملية التنمية الشاملة، وهو ما يتطلب كما يرى الباحث ضرورة إحياء التراث العربي وتشجيع الابتكار وتعزيز التفاعل بين المجتمعين الحضري والريفي، والعمل على إدخال تدريس مادة التنمية الثقافية في مناهج التعليم العالي ليكون خريجو الجامعات على معرفة بمعنى وأهمية هذه التنمية.
الكتاب في مجمله خلص إلى مناشدة القائمين على أمور الثقافة في العالم العربي، بأن يكون الاستثمار الثقافي ذا مردود ربحي من أجل خدمة الإنسان وتسويق عطائه وإبداعه الفكري وخلق الكوادر المتعلمة والمتدربة لتعزيز الاستثمار الثقافي، معتمدًا في ذلك على بعض الإستراتيجيات منها التركيز على مسألة إعداد الموارد الإنسانية وسبل تنميتها وتأهيل البنية الثقافية التحتية عبر تأهيل مؤسسات المجتمع المدني الثقافية، لكي تصبح منتجة، مع الأخذ في الحسبان أن تحقيق الأرباح في مجال الاستثمار الثقافي غير ممكن على المدى القصير، لذلك يدعو إلى وضع سياسة لصناعات ثقافية حديثة تراعي التنوع الثقافي في البيئات العربية المختلفة.
5% من حجم الاقتصاد العالمي
شريحة كبيرة من المثقفين يرون أن الثقافة كمفهوم له علاقة بالاقتصاد بثلاثة أبعاد: الأول الاقتصاد الثقافي وهو الذي يتعامل مع المنتج الثقافي كسلعة أو خدمة، والثاني ثقافة الاقتصاد وهو الذي يتعامل مع السلوك كمؤثر على الاقتصاد، والثالث الاقتصاد الإبداعي وهو الذي يتعامل مع الأفكار الإبداعية في الاقتصاد بهدف تحسينه أو بناء أنواع جديدة من المؤسسات لم تكن معروفة من قبل.
الأبعاد الثلاث لتلك العلاقة يمكنها أن تلعب دورًا محوريًا في اقتصاد الدول، إذ إن السلوك في النهاية هو محصلة الأفكار التي يؤمن بها الفرد، وهذه الأفكار تمثل ثقافته في النهاية، التي على مؤسسات الدولة – على مختلف أنواعها – وضعها تحت المجهر وبالتالي الفحص الدقيق لمعرفة مجموعة كبيرة من الحقائق، منها مدى تأثير هذا السلوك على اقتصاد الدولة، ومن هنا يمثل السلوك عنصرًا بالغ الأهمية في الاقتصاد.
الخبير المعلوماتي محمد عيد، مدير علاقات الناشرين بالشركة المتحدة للبرمجيات (مؤسسة مصرية خاصة) يرى أن قيمة الاقتصاد الثقافي تبلغ قرابة 5% من حجم الاقتصاد العالمي، لافتًا إلى أن العالم خلال السنوات العشرة الأخيرة بدأ يفطن إلى مكانة الثقافة كمورد اقتصادي هائل يمكن أن يعزز موارد الدولة ويعالج أي عجز من الممكن أن يطرأ على مواردها التقليدية.
العديد من الخسائر تكبدتها الدول جراء غياب مفهوم الاقتصاد الثقافي عن دائرة أولوياتها، هكذا أضاف عيد في حديثه لـ”نون بوست”، كاشفًا أن خسائر مصر على سبيل المثال بلغت نحو 50 مليار دولار خلال السنوات العشرة الماضية، وهذا الرقم يقترب من التريليون دولار خلال الربع قرن الماضي.
الأوضاع الاقتصادية المتأرجحة التي يشهدها العالم تتطلب إعادة النظر في كل الموارد المتاحة لتوظيفها بشكل أمثل لتحقيق العوائد منها
وأرجع الخبير المصري هذه الخسائر إلى ضعف مردودات اقتصاديات الثقافة التي كان لها نتائج عكسية تمثلت في تفشي أفكار التطرف والتعامل مع الموارد الطبيعية بصورة غير منطقية، مما أرهق ميزانية الدولة، هذا بجانب إهدار مليارات الدولارات في التعاطي مع خريطة ثقافية ممزقة لا تراعي مستجدات العصر ولا تتفهم طبيعة دورها الجديد كأحد منافذ التنمية المستدامة.
ومن الأخطاء التي تقع بها الدول العربية في تعاملها مع الاقتصاد الثقافي محدودية وعيها مع فكرة الصناعة، حيث تحصر الثقافة في الكتاب وفقط، وتحصر الكتاب في الغالب في فنون السرد والشعر، وفي المقابل يتم تهميش بقية العلوم الإنسانية كلها مثل: الفلسفة وعلم النفس وعلم النفس السياسي وعلم النفس الثقافي وعلوم الاجتماع، بحيث يبدو للناظر أن الثقافة هي الرواية.
هذا بخلاف تجاهل المجالات الإبداعية المختلفة التي من الممكن أن تدر دخولًا اقتصادية هائلة حال استغلالها بالشكل الأمثل، مثل الحرف اليدوية ومنها الخط العربي وفنون التراث والخيامية والزجاج، وهذه تمثل عنصرًا مهمًا في الثقافة، بجانب السينما والمسرح والمعارض وخلافه.
تلك المجالات كانت سببًا في إنعاش خزائن دول بأكملها حين وضعتها تحت مجهر الاهتمام وأقامت لها الخطط والدراسات، ومن أكثر الأمثلة التي تجسد ذلك، الصين التي تحقق مكاسب من الصناعات اليدوية تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات وتعفيها من الضريبة على الدخل، بل الأكثر من ذلك تشتري الحكومة هذه المنتجات وتسوقها عبر سفاراتها وملحقيها الثقافيين.
الأوضاع الاقتصادية المتأرجحة التي يشهدها العالم بصفة عامة ومنطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، تتطلب إعادة النظر في كل الموارد المتاحة لتوظيفها بشكل أمثل لتحقيق العوائد منها، وعلى رأسها الثقافة، مع الوضع في الاعتبار أن العلاقة بين الفرد والثقافة علاقة عضوية ديناميكية، تحتاج لأن تفرد لها المساحات لأجل تطويرها بما يحقق التنمية المستدامة المنشودة لكل الأمم والشعوب.