المقصود بالسؤال هو نحن كأمة، لا كأفراد، وبالتالي فهذا السؤال ينطلق من مقدمة ضرورية وأساسية، مفادُها أنّنا، كأمة، نحاول باستمرار الاستجابة لتحدٍّ ما والإجابة عن سؤال محوريّ، وتأتي هذه الاستجابة والإجابة في أشكال متنوعة ومتعدّدة، وبصرف النظر عن الاختيار الشخصيّ الذي يتخذه كلٌّ منا إزاء أحد هذه الأجوبة أو بعضها أو جميعها، فإنّ علينا أن نبقى دائمًا متنبّهين إلى أنها جميعًا محاولاتٌ للإجابة عن السؤال والاستجابة للتحدّي، وهي بالتالي تعنينا جميعًا بشكل أو بآخر، وسنقع في خطأ كبير إذا تجاهلنا السياق الذي تبرز فيه هذه الإجابات المتنوعة واكتفينا باختيار جواب فرديّ مريح يقرّر أن السائد كلّه فارغ أو ناقص أو عبثيّ.
بالتالي فتجربة الإخوان، شأن التجارب العربية والإسلامية الأخرى التي برزت إجابة على سؤال الحداثة والدولة الحديثة تحديدًا، تعنينا جميعًا كمهتمّين بشأننا العام، بصرف النظر عن موقفنا الفردي منها وتقييمنا لأدائها، يمكن أن ينضم كثيرون للإخوان أو ينفصلوا عن هذه التجربة، ويمكن أن تذوي التجربة، ويمكن أن تبقى هيكلاً بلا روح، شاهدًا على محاولة جسورة للجواب والاستجابة، لكنها في الأحوال جميعها تشكّل مستوى فارقًا ومرحلة مهمة من جوابنا كأمة على سؤال الحداثة، وبناء عليه، فإن السؤال عن مصير تجربة الإخوان ليس فقط سؤالاً عن مصير الجماعة متمثّلة في وجودها المادّي -تنظيمها – والرمزي – أفكارها -، بل عمّا سنقدّمه كأمة من بعدها.
يعلمنا التاريخ أن تجربة بهذا الحجم لا تختفي مهما واجهت من إشكالات داخلية وتحديات خارجية، وبالتالي فليس هذا سؤالنا، سؤالنا عمّا إذا كنّا كأمة، سنقدّم في وجود الإخوان أو غيابها جوابًا يتقدّم ويتفوق على ما قدّمته.
هل يستبطن الكلام السابق أن تجربة الإخوان هي التجربة الأكثر تقدّمًا في الجواب على سؤال الحداثة والدولة الحديثة، بحيث يصبح ممكنًا الحديث عن مدى تقدمنا عن التجربة أو تراجعنا عنها؟
ما ينطلق منه المقال هو أن تجربة الإخوان يمكن اعتبارها في السياق العربي المسلم الاستجابةَ الجماعية المنظّمة الأكثر نضجًا في الجواب على سؤال الحداثة، في الجملة السابقة تحديد مهم وحصرٌ مقصود تمامًا، هو الحكم على تجربة الإخوان باعتبارها تجربة جماعية منظّمة، وبهذا الاعتبار وحده يمكن القول إنها الإجابة الأكثر نضجًا على سؤال الحداثة والدولة الحديثة، خارج هذا الاعتبار سيصبح الجواب مختلفًا بالتأكيد، فعلى صعيد الإجابات الفردية التي قدّمها المفكرون والفلاسفة والمنظّرون، سنجد بالتأكيد إجابات أكثر تقدّمًا عما قدّمه الإخوان، وعلى صعيد مراكز البحث وبعض النخب الأكاديمية سنجد إجابات أكثر تقدّمًا، وعلى صعيد الحيز الإسلامي غير العربي سنجد إجابات أكثر نضجًا وتقدّمًا، متمثلة في تجارب جماعية بل حتى في مسيرات دول وأنظمة مكتملة التكوين.
ولكي يتحدّد هذا التوضيح، فنحن نقارن الإخوان هنا بالسلفيات جميعها، العلمية والجهادية والحركية، وبالصوفيات المتنوعة، وبتيار طلب العلم الأشعري المتمذهب ومثاله الأزهر، وبحزب التحرير، وسيكون لزامًا علينا أن ندلّل على هذا الزعم قبل أن نشرع في الجواب على سؤالنا الذي يلخصه عنوان المقال.
سؤال المعيار، المبدأ والمنتهى:
أولاً، ما المعيار الذي سنتخذه في المقارنة؟ هنا تبدأ الطرق في التشعّب، والإجابة على هذا السؤال هي في الحقيقة تشكّل البداية والنهاية لكلامنا على السواء، فبحسب المعيار الذي نحتكم إليه سينتج حكمنا ويتوضّح، إذا ما وضّح كلُّ متحدِّث في شئون هذه التشكّلات المنظّمة معيارّه الذي يحتكم إليه ومنهجه الذي يقيس به، فستتّضح الأحكام، وسيبقى مجال الخلاف محصورًا في تنزيل التجربة على المعيار وتقويمها حسب المنهجية المتبَّعة، ولسنا غافلين هنا عن التبعات الفكرية والواقعية التي تترتّب على اختيار المعيار، ونكرّر هنا شكوى العروي من التقليل من أهميّة قضيّة المنهج واعتبار أنه “لا مشاحّة في المنهج”، ونؤكّد على مقولته في أن المشاحّة كلَّ المشاحة في المنهج، لأنّ المنهج اختيار بين بدهيات متكافئة أو متقاربة القيمة، نعترف هنا بمعيارنا في الحكم وندعو غيرنا ليعترف بمعاييره ويعلنَها، فكم عمرٍ أُهدِر وكم نقاشٍ استغلق لأننا نقيّم في ضوء معايير مختلفة لا نمتلك شجاعة التصريح بها.
في “مفهوم العقل” وضع المفكّر المغربي عبد الله العروي شيخَ الإصلاح الحديث محمّد عبده في موضعٍ وسط بين الأزهريّين ودعاة التحديث، ورأى العروي أن هذا الموقع بالذات هو ما جعل محمد عبده ضحيّة مفارقة الإصلاح وهو ما عرّضه لآلام تناقضاتها، الأزهريّ المعمّم لا يرى المشكلة، أو يراها ويقترح لها حلّاً مؤجَّلاً غير قابل للاختبار وبالتالي غير قابل للفشل. الحلّ هو عودة بالتاريخ أو للتاريخ أو في التاريخ، اصطناعٌ لظرفٍ مختلف عن ظروف الخبرة المعيشة، وتأكيد على أن الحلّ ناجعٌ لو توفّر الظرف، في غفلة عن أن الظرف هو التجربة والتجربة هي الظرف، وداعية التحديث الليبيرالي لا يدري لماذا نبحث عن توافقات وتوفيقات فيما نستطيع أن نغلق ملفّ التاريخ ونعترف أن لكل عصر ظروفه التي أنتجت أفكاره، وبالتالي فأفكار العصر تفسِّر العصرَ وتُفسَّرُ به، ولا داعي للتوفيق والتلفيق، عاش عبده المفارقة، وترك لخصومه الاتساق مع أنفسهم، وجمع التناقض الذي عودنا تاريخ الشخصيات الكبيرة أنه ينحلّ في أتباعهم ويتفرّق.
الإخوان والمفارَقة:
مفارقة عبده النظرية حمل الإخوانُ شقيقتَها العملية، جاءت دعوتهم تعويضًا رمزيًا عن انهيار الخلافة وسعيًا دؤوبًا لإعادتها، وانخرطوا مع ذلك في السياسات الوطنية، حملت تربيتهم الداخلية نزعة طهورية عالية وأقبلوا على المجتمع في جميع مفاصله ومؤسساته، آمنوا بأنهم الفهم الأفضل للإسلام ولم ينشغلوا بالتحصين الكلامي لأفكارهم، حفلت أدبياتهم بالوطن الإسلامي الممتدّ والدولة الإسلامية، وانخرطوا في هموم دولهم تحريرًا أو نضالاً سياسيًا أو تحالفًا مع النظم القائمة بحسب طبيعة الظرف، جَمَعَهم سمتُ تديّن متشابه ولم ينفصلوا عن أهل بلدانهم في الملبس والمناسبات والعادات، انتمى إليهم علماء الدين وفقهاء الشريعة والأطباء وأساتذة الفيزياء، أنشأوا نمطَ تدين ملحوظًا وبارزًا وأقاموا المدرسة والجامعة والمستشفى والمصرف، خرجت من عباءتهم حركات المقاومة والأحزاب السياسية وفرق النشيد الإسلامي على السواء.
لا نريد أن نُقِيمَ مما سبق استنتاجًا مفاده أن هذا الجمع كان جمعًا منسجمًا مستقرًّا، قلنا في البداية إنّ الإخوان حملوا هذه المفارقة العملية في بنية وعيهم وأفكارهم، وفي تشكّلاتهم التنظيمية عبر البلدان المختلفة، كانت المفارقة تهدأ حينًا وتتململ حينًا وتنفجر حينًا، لكنّها بقيت دائمًا مفارقة، وما تزال هذه المفارقة المكوّن الأبرز في بنيان الإخوان الفكري والتنظيمي، وما كان يساعد على تسكينها هو انبناء جماعة الإخوان على أسس عملية، وابتعادهم عن التوسّع في التأصيل النظريّ والجدل الكلاميّ، والعمل من طبعه أن يخفّف من المفارقات، لأنه يطرح نفسه حلاً محتمَلاً لها من الأساس.
لعلّ سيد قطب كان إحدى المحطات الفارقة التي كادت عندها المفارقة أن تنحلّ. الحضارة الغربية جاهلية، والحضارة الإسلامية متفوقة عليها بالقوة إن لم يكن بالفعل، الوضع الطبيعي والضروريّ أن تتفوق حضارة الحاكمية على حضارة الجاهلية، وكلّ انعكاس لهذا الوضع هو حالة مؤقتة، اختلاس، خطأ ينبغي تصحيحه.. في الذهن أولاً، لا على الأرض .. هنا كان سيّد يأخذ قفزتين معًا في اتجاه مخالف لما قامت عليه جماعة الإخوان، يحاول العودة بالمفارقة إلى حيّز النظر لا العمل، ويبتعد خطوة عن محمد عبده في اتجاه الأزهري المعمّم، وهي خطوةٌ من الواضح أن سيد كان يريد بها شدَّ قوسِ النظر من أجل انطلاقة أقوى لسهم العمل، الجديد هنا هو أن الأزهري المعمّم أصبح سلفيًا، ولن يعيش سيد بما يكفي ليعلم ذلك.
لبعض أفكار سيد قدرة تسليفية غير قليلة، فالثنائية الصارمة بين الحاكمية والجاهلية، والعودة المباشرة للنصّ ومحاولة تجاوز تراكمات القرون، تلتقي مع الرؤية السلفية التقاءً واضحًا، يفترق سيّد عن التسلّف النظريّ في نقطة غاية في الأهمية، وهي أنّ عينه دائمًا على الحركة، على الفعل، النظر عنده شدّ للقوس لينطلق العمل كما تقدّم، لكنّ المفارقات التي ينجح المفكّر في التأليف بينها لا تلبث أن تنحلّ فيمن بعده أو تتعرّض لسوء تأويل أو تترك بعض معتنقيها في منتصف الطريق، سيخرج من عباءة سيد بعض دعاة العدالة الاجتماعية واليسار الإسلامي، وبعض جماعات التكفير والعنف، وبعض متبنّي العنف الرمزي والجهاد الهوياتي، لكنّ الواضح أن سيّد فتح طريقًا من أفكار الإخوان باتجاه التسلف، وستتولى مرحلة ما بعد عبد الناصر وهجرة الإخوان للخليج فتح طريق مقابل، سيظل سيد والتلاقي الإخواني السلفي في الخليج طريقًا سالكًا لتسليف الحركيين وتحريك السلفيين.
ستقوم الثورات العربية وجماعة الإخوان في وضع محيّر، فروعها في كثير من الدول العربية شقت طريقها الخاص واتخذت طريقًا أكثر وطنية، نمطُ تديّنها متآكل لصالح النمط السلفيّ، وتراجع التدين الأشعريّ المتمذهب – الذي كان في الغالب هو الخلفية الشرعية لعلماء الجماعة – لصالح التوجه السلفيّ سيلقي بظلاله عليها، ولو أخذنا جماعة الإخوان في الأردن كمثال، فالعشرية الأولى من الألفية شهدت مظاهر واضحة لتنازع المكوّنات التي حاولت الجماعة منذ تأسيسها أن تحتويها وتؤلف بينها، حيث ظهرت في الجماعة وحولها دعوات تنتقد الضعف التربوي والروحي عند أفراد الجماعة وتدعو لتوجّه صوفي، وظهرت في الجماعة وحولها دعوات تنتقد ضعف التكوين العلمي الشرعي وتدعو لتكثيف طلب العلم الشرعي في صفوف الجماعة في الاتجاه الأشعري المتمذهب أو السلفيّ حسب توجه أصحاب هذه الدعوات، وشهدت الجماعة كذلك خلافات متكررة حول التركيز على الشأن المحلي في مقابل الشأن الفلسطيني وعنوانه العلاقة مع حركة حماس.
انحلالات المفارَقة:
قامت الثورات إذن بعد عقود كانت تشهد تحولات بطيئة داخل الجماعة، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى التشكلات التنظيمة، والعنوان العام لهذه التحولات هو الانزياح نحو أحد مكونات الجماعة وانحلال نمطها التوليفي الذي كان يحتوي المفارقة، هذا الانزياح كان يأخذ أحيانًا شكلاً جماعيًا بحيث تنحو الجماعة التي تعتبر امتدادًا للإخوان في بلد ما منحى سياسًيا عامًا وتبتعد عن التأصيلات الفقهية أو الهمّ الدعوي، وكان يأخذ أحيانًا شكلاً فرديًا، بحيث “يتخصص” الفرد الإخواني في العمل السياسي أو الحقوقي أو النقابي، أو ينزع نحو طلب العلم الشرعي ويبقى انتماؤه للجماعة وجدانيًا غير متفق بالضرورة مع مناهجها، أو ينزع نحو الفكر والاهتمامات النظرية ويشعر بعجز الجماعة عن التحديث والمواكبة، أو غيرها.
بعد المسيرة المتعثرة للإخوان في الحكم في مصر، والتي تُوِّجت بالانقلاب العسكريّ، دخلت الجماعة أحد أكبر منعطفاتها التاريخية، وشعور الأعضاء والأنصار والخصوم بضعف الجماعة وغياب الرؤية والعجز عن قراءة الوقائع وتسيير الأحداث؛ كلّه دفع كثيرين للحديث عن تجاوز الإخوان، بدت الجماعة لكثيرين من محبيها وناقديها وأعدائها على السواء رجلاً مريضًا، هيكلاً ضخمًا يسير بالقصور الذاتي بلا رؤية توجيهية ولا روح دافعة، وصار الحديث يتردّد حول مقارنات بين الجماعة وتشكيلات متعددة، مقارنة بين الإخوان والنهضة التونسية أو العدالة والتنمية المغربي وأساسُها الحنكة السياسية أو مسألة الديموقراطية أو التعاطي مع الدولة الحديثة، ومقارنة بين الإخوان وداعش وأساسها وسائل التغيير والسلمية في مقابل العنف والارتهان لضيق الدولة الحديثة في مقابل عالمية الدولة الإسلامية، ومقارنة بين الإخوان والسلفية العلمية وأساسُها المتانة المنهجية والاتساق مع الأصول والموقف من الحداثة والدولة والدولة الحديثة، وغيرها.
إذن فهناك حالة عامة من الشعور إما بقرب الخروج أو ضرورة الخروج أو حتى حصول الخروج من بارادايم (النموذج التفسيري) الإخوان، وسواء أكان الحديث عن هذا الخروج يتخّذ طابع التقرير لحصوله أو قرب حصوله، أو يتخذ طابع الدعوة إليه والتنظير له، فإن السؤال المهم الذي يجب أن يُطرَح: الخروج إلى أين؟
ما قبل؟ ما بعد؟
انطلاقًا من الرؤية التي نتبناها، فإننا نعتبر هذه الدعوات منقسمة إلى قسمين كبيرين، مع الأخذ في الاعتبار أن التداخل والتشابك واقع لا محالة، هذان الاتجاهان الكبيران هما: الخروج إلى ما قبل الإخوان، والخروج إلى ما بعد الإخوان.
لا نقصد هنا “قبل” و”بعد” بالمعنى الزمنيّ، بل بمعنى تقديم تجربة متقدّمة عن تجربة الإخوان، التي ظلّت تقود الجواب الإسلامي الجماعيّ المنظّم على تحدّي الحداثة منذ عقود، ونؤكد على هذا المعنى لأن كثيرًا من دعوات تجاوز الإخوان هي في الحقيقة تراجع عما حقّقه الإخوان، لكنّها ترى ورطةَ نموذجهم وتعجز عن رؤية الظرف الذي انوجدوا فيه، فتتوهم قدرة على التجاوز بينما الحاصل تراجع وتأخّر.
المعيار في الحكم على أي خطة أو اقتراح أو دعوة لزمن ما بعد الإخوان هو التعاطي مع المفارقة نفسها والقبول بها والاستجابة للتحدّي الذي تطرحه، العودة إلى داعية التغريب ليس تقدّمًا عن الإخوان، والعودة إلى الأزهري المعمّم – أو ما يكافئه اليوم – ليس تقدمًا عن الإخوان، هذان الحلّان موجودان أصلاً منذ قرنين، وطرحُهما ليس إبداعًا، والإخوان كانوا أصلاً تجاوزًا لهما. كيف نكون مسلمين في العالم اليوم؟ هذا هو سؤالنا الصعب وهذه هي مفارقتنا، يمكننا أن نحذف “مسلمين” من السؤال وسيصبح الجواب سهلاً، ويمكننا أن نحذف منه “في العالم اليوم” وسيصبح الجواب سهلاً، ومن يفعل ذلك لا يقدّم حلاً إلا لمشكلة غير قائمة أصلاً، وهو يقدّم حلاً قديمًا وموجودًا ولا ينطوي على أي إبداع، وهو بعينه إضاعة الوقت في المجرَّب والموجود.
هل الأحزاب السياسية المغربية جوابٌ محتمَل؟ ربما، لكنّ وعيها بمعادلات القوة التي تحكم السياسة لا يبدو في أفضل حالاته، هناك وعي أخلاقي جيد بقيم الحرية والعدالة والمساواة والتعدد والتنوع، لكنّ الوعي بطبيعة السياسة الصراعية وسطوة الدولة الحديثة لا يبدو بالقدر نفسه، وهناك التخوف المشروع دائمًا من إهمال المجال العام في المجتمع ورفده بالتربويين والشرعيين والمنظرين والمفكرين والحقوقيين، وبالتالي حصر الخيارات في مسارات السياسة والدولة التي يمكن أن تتعثّر، والغفلة عن أن خيارات الفكر والمجتمع أوسع دائمًا من ضرورات الدول ووضعيات السلطة الراهنة.
هل داعش جواب محتمل؟ هناك شبه إجماع من الاتجاهات الإسلامية – في منابرها الرسمية على الأقل – على التخوّف من التجربة وعنفها وضيق أفقها واحتمالها للواقع واحتمال الواقع لها، يرافقه إعجاب خفيّ لدى من نكّلت بهم نخب الدولة العربية الحديثة في السلطة والإعلام والجامعات والسجون والميادين، وهناك إحراج واضح لمن ينطلقون من منطلقات داعش نفسها لكنهم يخالفونها في تفاصيل هنا وهناك، إذ يرون هذا الانفضاض العام عن التجربة والتبرؤ المستمرّ منها، بقدر ما كانت داعش خنجرًا مسمومًا في خاصرة الثورة السورية إلا أنها كشفت لكثيرين تناقضاتهم ووضعتهم أمام حقائق صعبة ومربكة، وتتراوح ردات الفعل بين التبرؤ الكامل أو الجزئي أو الاعتراض على الممارسة واستبقاء المنطلقات، في تكرار مأساويّ ملهاويّ للخطأ الذي نقع فيه باستمرار: نهدر الواقع ونتغاضى عن كل ما يجب أن نتعلمَه منه من أجل أن تسلم النظرية، وكل ما علينا فعلُه هو إضافة اسم جديد لقائمة الخروج والمروق، أما وضعيتُنا التاريخية المتعثرة، ومزالقنا النظرية والعملية التي تُنتِج كلّ هذه الكوارث فنتجاهلُها لتسلم النظريّة.
هل السلفية العلمية أو الحركية جواب محتمل؟ هناك حديث مستمر في هذا الوسط عن تورط الإخوان في السياسة وإهمالهم للمجتمع، يعبَّر عنه أحيانًا بالعودة لسؤال المجتمع في مقابل سؤال السلطة، هل حقًا أهمل الإخوان المجتمع؟ وهل ستصل هذه السلفيات في المجتمع إلى حيث وصل الإخوان؟ هل ستنشئ المدرسة والجامعة والمستشفى والمصرف وتشارك في المجالس البلدية والجمعيات الأهلية؟ هل ستقدّم شيئًا متقدِّمًا عن الإخوان في هذه المجالات التي تشتبك بقوة مع الحياة الحديثة؟ وماذا ستقدّم بخصوص الأسئلة الأصعب المتعلقة بالسياسة والاقتصاد في الدولة الحديثة، والأدب والفنّ والعلوم الاجتماعية؟ ألا تنطوي هذه الدعوة على محاولة لتجميد الإشكال أو تأجيله؟ أليست تضييقًا جراحيًا ذهنيًّا للواقع على قدر النظريّة الضيقة محدودة الأفق؟ أليست شكلاً آخر لدعوة “التصفية والتربية” حتى تتهيّأ الظروف؟ ومتى وكيف يمكن اختبار هذه النظرية؟ وهل هي نظرية مطروحة للاختبار أصلا؟ وهل إشكالنا الذي انطلقنا منه في واردها أصلاً؟ وهل ستكفّ القوى المناوئة – سواء أكانت الغرب أم النخب الحلية المرتبطة به – عن ترسيخ نفوذها وهيمنتها وتشكيل الواقع حسب رؤاها؟ ألا تزداد التحديات الفكرية التي نواجهها كلّ يوم، ولا نفعل أكثر من تدريب متكلّمين على الرد والحجاج الباهت في مقابل وقائع تزداد رسوخًا وتمكّنًا؟
وبعد هذا الاستعراض المطوّل، يعود السؤال الأول ملحًّا: هل خرجنا من بارادايم الإخوان؟ وإن كنّا نخرج أو سنخرج قريبًا، فإلى أين؟
نُشر هذا المقال لأول مرة في منتدى العلاقات العربية والدولية