حين أطلقت المملكة العربية السعودية برنامج رؤية 2030 عام 2016 على لسان ولي ولي العهد وقتها محمد بن سلمان، كان واضحًا أن المملكة في طريقها للتغيير على كثير من الأصعدة، وحين تسلم الأمير الصغير منصب ولي العهد، كان هناك تفاؤل بأن روحًا جديدةً تدب مع شاب يُدخل المملكة عهدًا جديدًا في الاقتصاد والسياسية، خاصة أنها كانت قد دشنت دورًا إقليميًا غير مسبوق حين قادت تحالفًا عسكريًا وحّدت خلاله دولًا خليجية وعربية وإسلامية تحت رايتها للتدخل في اليمن وتغيير المعادلة هناك بالقوة، ما دفع الكثيرين للحديث عن شرق أوسط جديد تمتلك فيه المملكة كل أسباب القوة حتى تلك النووية منها إن تطلب الأمر، وتختزل بإمكاناتها المالية والعسكرية دور العراق ومصر اللذين طالما تنافسا على زعامة العالم العربي.
الآن، وبعد انتهاء المرحلة الأولى من تلك الرؤية في العام 2020، بات الجميع يعرف أن كل هذا كان محض هراء! بل إن ما حصل هو العكس!
أمير تحت الحصار!
إحدى المسلمات الجيوسياسية التي يمكن خلالها الحكم على قوة أي دولة أو ضعفها، موقع نفوذها وبعُد المعارك التي تخوضها عن حدودها، يمكن القول أيضًا إن هذا مقياس يخبر بدقة عن عمر الدولة وإمكانية سقوطها، فالإمبراطورية الإسلامية مثلًا كانت تقاتل خلال أوج شبابها قرب باريس، وكانت عاصمتها دمشق، ثم ضعفت وشاخت حتى أمست تقاتل لاسترجاع القدس، غير بعيد عن عاصمتها بغداد التي ما لبثت أن سقطت بعد أقل من مئة عام، قِس على ذلك كثيرًا من الدول القطرية أو الإمبراطوريات: ألمانيا النازية، فرنسا، بريطانيا، الاتحاد السوفيتي، إلخ.
كانت المملكة العربية السعودية بشكلها الحديث منذ إعلان قيامها عام 1932 وحتى منتصف الستينيات بعيدة عن التأثير الحقيقي في مجريات الأحداث، لم يخض جيشها أي منازلات كبيرة – التدخل الأبرز هو مساندة الجيش الأردني في حرب 67، ووصل متأخرًا -، وكان جل همها الدفاع عن نفسها أمام مد حركات التحرر الوطني التي اجتاحت البلدان العربية تلك الفترة.
في أعقاب نكسة يونيو/حزيران 67، تغير الموقف بالكامل وتحولت الإستراتيجية السعودية من الدفاع إلى الهجوم بعدما رأت أن الاعتماد على الولايات المتحده وحده لن يجدي نفعًا. يقول مدير مشروع الاستخبارات في معهد بروكنغز بروس رايدل: “بعد تلك الحرب، تحولت السعودية إلى قائدة للعالم الإسلامي، أنهت الخلافات مع مصر، تصدت للقضية الفلسطينية، دعت إلى قطع النفط عن الدول الغربية منذ اليوم الثاني للحرب، وهو ما تحقق لاحقًا في حرب أكتوبر عام 1973”.
منذ ذلك الوقت، شكلت المملكة محورًا مهمًا في كل الصراعات والحروب الإقليمية: الحرب اللبنانية، حرب أفغانستان، الحرب العراقية الإيرانية، حرب الخليج الثانية، حرب العراق 2003، الربيع العربي، لم يكن هناك حوار أو طاولة مفاوضات إلا وكانت السعودية حاضرة فيها إما بمالها أو بعلمائها أو بأذرعها، فماذا حصل بعد ذلك؟
من خلال المال كانت كلمة ملوك السعودية وأمرائها مسموعة في كل حوارات الحرب والسلام
أصبحت المملكة محاصرة من جميع الجهات، تقاتل الآن على حدودها الجنوبية قبالة خطر حوثي وصل بصواريخه إلى المدن الكبيرة فيها، في الشمال نحو العراق مجاميع مسلحة لا تخفي عداءها للمملكة بل وتتحين الفرص للانقضاض عليها، ومن ورائهم إيران، الخطر الداهم أمام السعودية الذي يبعد مرمى حجر عنها.
بدل مواجهة ذلك، دعمت انقلابًا عسكريًا أضعف مصر وأعادها سنوات إلى الوراء، وفتحت صراعًا عبثيًا مع قطر أنهى ما تبقى من منظومة التكاتف الخليجي، وضغطت بلا سبب مبرر على حليفها الأردن وأضعفت موقف ملكها المواجه للمد الإيراني، وقضت على كل قوة يملكها حليفها سعد الحريري ليتمكن بذلك حزب الله من تحويل لبنان إلى حديقة خلفية لإيران، كما دعمت أي جهد يقوض النفوذ التركي الذي يواجه عدوها المباشر “إيران” هناك!
وفي العراق، أهدت الحكومة العراقية الموالية لإيران مليارات الدولارات بشكل مشاريع ومنح لتقوّي شعبيته المعدومة أصلًا، وأذلت حليفها الإستراتيجي في باكستان عمران خان، ما أدى لانتقاله إلى المعسكر القطري التركي، وحتى في ساحة صراعها المباشر باليمن، أضعفت كل القوى المناوئة لخصمها الحوثي: حزب الإصلاح والقبائل اليمنية وعبد ربه منصور هادي نفسه!
فتش عن ابن زايد والنفط الصخري
خلال فترة نفوذها الذهبية، كان طائر المملكة يحلق بجناحين جعلها تطير عاليًا في السياسية الدولية: ثقلها الديني وإمكاناتها المالية، فوجود الحرمين الشريفين فيها وكونها مركزًا للتيار السلفي منح قراراتها شرعية ضمنية تخطت حدودها لتمتد عبر العالم الإسلامي وتكون على تماس حتى على الصعيد الفردي، أما إمكاناتها المالية، مع امتلاكها 15.7% من نفط الكوكب في المرتبة الثانية من حيث احتياطي النفط، مكنتها من التحرك يمنة ويسرة، تشتري أسلحة وأفرادًا ومنظمات وحتى حكومات حين يتطلب الأمر!
من خلال المال كانت كلمة ملوك السعودية وأمرائها مسموعة في كل حوارات الحرب والسلام، دون أن يكون في ذلك أثر عكسي على أمنها القومي طالما أنه تحت حماية واشنطن، وهو تحت الحماية الأمريكية طالما أن السعودية تصدر ما معدله 900 ألف برميل يوميا إليها، معادلة تغيرت بالكامل مع زيادة الاعتماد على النفط الصخري الأمريكي الذي تسبب بانخفاض صادرات النفط السعودية إلى الولايات المتحدة بنسبة الثلثين، ما دفع بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقول صراحة إن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة لنفط الشرق الأوسط ولا داعٍ للتدخل هناك، وبالتالي انكشفت المظلة الأمريكية عن كيان ضعيف لم يستطع التحرك أمام ضرب أكبر منشأة تكرير للنفط في البلد وشلّ قدرة المملكة على تصدير النفط لأسابيع.
وبينما كان النفط الصخري الأمريكي يأخذ مكان النفط السعودي في اقتصاد الولايات المتحدة وسياستها، كان ولي العهد الجديد يقدم نفسه للغرب كزعيم عصري محارب للإرهاب والتطرف، متبعًا وصفة كتبها له ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، وصفة ستكلفه الكثير إعلاميًا وإستراتيجيًا.
قاد إعجاب ولي العهد السعودي بالتجربة الإماراتية في الاقتصاد والسياسية إلى تسهيل مهمة محمد بن زايد في اختراق المملكة بل وجعلها تابعة من خلال التأثير على مراكز النفوذ وصنع القرار فيها، ومع قلة خبرة الأمير السعودي الشاب وحاجته إلى محمد ولي عهد أبو ظبي لتثبيت حكمه ودعمه دوليًا، أحاط نفسه بمستشارين من أمثال تركي آل الشيخ وسعود القحطاني وبدر العساكر وآخرين “لا يملكون العلم ولا الأخلاق” كما يصفهم الناشط الحقوقي السعودي يحيى عسيري، لتبدأ رحلة الهبوط نحو المجهول.
الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية لا تختلف كثيرًا عن النظام القبلي في وجود شيخ يقرر فيهز جميع من في الخيمة رأسهم
على الصعيد الديني كان دور اعتقال الدعاة وقمع المصلحين وافتتاح النوادي الليلية والحفلات الصاخبة وتوجيه المجتمع المحافظ نحو الانفتاح المشوه، كبيرًا في تجريدها من ثوبها المحافظ وإلباسها ثوبًا قبيحًا أزال عنها تلك القداسة التي أحاطت بها نفسها طوال السنوات السابقة.
أما على الصعيد المالي، فيبدو أن الوصفة الإماراتية أتت بنتائج عكسية، ففي تقرير لمؤسسة موديز الائتمانية، تظهر الأرقام أن النفط والغاز يشكلان 43% من الناتج المحلي السعودي، بينما تشير تقارير صندوق البنك الدولي أواخر العام 2019 إلى أن العجز المالي سيصل إلى 6.5% من الناتج المحلي في المملكة.
في حين شهدت الديون، ارتفاعًا غير مسبوق بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز، ففي حين كانت تبلغ 16 مليار دولار فقط (25% من الناتج المحلي) عام 2013، تبلغ الآن 180 مليار دولار (24% من الناتج المحلي)، هذا غير الشركات التي تعلن إفلاسها تباعًا، إذ أعلنت 10 شركات إفلاسها في يوم واحد مع زيادة في ارتفاع معدلات الإفلاس، حيث زادت نسبة تلك القضايا في المحاكم التجارية 60% خلال العام الماضي بحسب عضو مجلس الشورى عبد الله الحربي.
هذا غير تأثير سياسات القمع على الطريقة الإماراتية وفضيحة اغتيال جمال خاشقجي وحبس رجال الأعمال والانقلاب على الأمراء – آخرهم محمد بن نايف وأحمد بن عبد العزيز – السيئ على استقدام الاستثمار من الخارج.
إن الخطر المحدق بالسعودية من كل ناحية لم يكن إلا نتاج تحالف مختل التوازن بين ولي عهد أبو ظبي وولي عهد المملكة، ورطت فيه أبو ظبي السعودية الجديدة بملفاتٍ ملغمةٍ يصعب عليها الخروج منها، من دون تنسيق مع أبو ظبي، وكل ذلك من أجل مشروع توسعي يريد فيه محمد بن زايد أن يكون زعيمًا بأي ثمن حتى ولو كان ذلك يفضي إلى سقوط المملكة أو تقسيمها.
إن الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية لا تختلف كثيرًا عن النظام القبلي في وجود شيخ يقرر فيهز جميع من في الخيمة رأسهم، وهو توصيف استخدمه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كيسنجر حرفيًا عن زيارته إلى الشرق الأوسط عقب حرب 1973 في كتابه سنوات الغليان بعد نصيحة تلقاها من أستاذ في جامعة هارفاد يوصيه بأنه مقبل على سوق فيها خيمة، بداخلها هرج ومرج ورجال كثر، لا تلتفت لهم – تقول التوصية -، هناك رأس في زاوية الخيمة، بيده قرار الحرب والسلم يُقرر فيطع الجميع، فإن استطعت إقناعه، حصلت منه على ما تريد وبأرخص الأثمان.. ما أشبه البارحة باليوم!