شمخاني جاء ليحرك المياه الراكدة في العراق

جاءت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني إلى بغداد، لتعيد الحديث مرة أخرى عن حجم الاهتمام الإيراني بالعراق، وهو اهتمام لم يكن بعيدًا عن متابعي الشأن السياسي العراقي منذ عام 2003 وحتى اليوم، إذ لطالما نظر صانع القرار السياسي والأمني في إيران، إلى التطورات السياسية والأمنية الجارية في العراق، على أنها من صميم الأمن القومي الإيراني وخط الدفاع الأول عن الوحدة السياسية الإيرانية.
وقد برهنت إيران على هذه الأهمية في مناسبات كثيرة أبرزها الدعم المستمر لحلفائها في السيطرة على السلطة بعد عام 2006، والدفاع عن مكتسباتهم بعد بروز تنظيم داعش عام 2014، وسخرت في سبيل ذلك مقدراتها السياسية والعسكرية لتحقيق هذه الغاية القومية.
جاءت التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها الساحة السياسية العراقية منذ أكتوبر 2019، لتضع النفوذ الإيراني أمام اختبار حقيقي، ورغم أن التظاهرات الاحتجاجية جاءت بدوافع اقتصادية واجتماعية في بادئ الأمر، فإن العنف المفرط الذي استخدمته الأجهزة الأمنية بدفع وتخطيط من الغرف الأمنية التي كان يديرها قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني، حول مسار التظاهرات في جانب كبير منها إلى الدعوة بإنهاء النفوذ الإيراني في العراق، وهو ما برهنت عليه عمليات حرق واقتحام القنصليات الإيرانية في كربلاء والنجف والبصرة، إلى جانب حرق العديد من المقرات التابعة لأحزاب وفصائل عراقية مقربة من إيران.
إن الضربة الإستراتيجية التي تعرض لها النفوذ الإيراني في العراق، كانت عملية اغتيال قاسم سليماني رفقة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، لتدخل الأدوار الإيرانية في العراق بحالة من الارتباك السياسي والأمني، فخليفة سليماني “إسماعيل قآني” ليس له تلك الخبرة السياسية والأمنية في الملف العراقي باعتباره مسؤولًا عن ملف باكستان وأفغانستان، والتصرفات الطائشة التي بدأت على سلوكيات العديد من الفصائل التابعة للحشد الشعبي أكدت هي الأخرى مدى أهمية وتأثير أبو مهدي المهندس، والأكثر من ذلك حالة التمرد السياسي التي بدت عليها العديد من قوى الإسلام السياسي الشيعي، في التمسك بخياراتها الحزبية فيما يتعلق بالمرشح الذي سيجلس على كرسي المستقيل عادل عبد المهدي، وهو ما أكدته الصعوبة التي مرت بها عملية تكليف السيد محمد توفيق علاوي، ليجد نفسه بالنهاية مجبرًا على الاعتذار عن عملية التكليف.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن زيارة شمخاني للعراق جاءت لتعبر عن مدى الخشية التي بدأت تعيشها دوائر صنع القرار في إيران، من إمكانية أن تؤدي عملية العجز السياسي التي بدأت تعيشها الأحزاب القريبة من إيران من جهة، والضغوط الشعبية والجماهيرية من جهة أخرى، إلى الإتيان برئيس وزراء خارج المظلة الإيرانية، ومن ثم فرض مزيد من الضغوط على إيران التي تعيش اليوم ظروفًا سياسية واقتصادية وبيئية صعبة.
الضرورات الإستراتيجية التي تتعاطى بها إيران مع الحالة العراقية، تعبر عن أهمية أن يأتي رئيس وزراء قريب من رؤية إيران ودورها في العراق
إذ إنه من المهم الإشارة إلى أن هناك دوائر مختلفة تتحرك عن طريقها أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق، خصوصًا عندما يتعلق الأمر في العلاقة مع إيران، فهناك أحزاب مرتبطة بالخارجية الإيرانية وأخرى مرتبطة بقوة القدس والثالثة بمكتب المرشد الأعلى، ومن يقنن هذه العلاقات هو المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، وعندما يزور رئيس هذا المجلس العراق، فهذا يعني أن هناك خطرًا كبيرًا بدأ يعيشه النفوذ الإيراني في العراق.
أفرزت طبيعة اللقاءات التي قام بها شمخاني أن هناك خلطة سياسية جديدة يسعى إلى إنتاجها في العراق، فإلى جانب لقائه برئيس الجمهورية برهم صالح، التقى شمخاني برئيس جهاز المخابرات العراقي مصطفى الكاظمي، كما أنه التقى برئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، إلى جانب زيارته لمقر تيار الحكمة في بغداد واللقاء بزعيمه السيد عمار الحكيم.
وقد تراوحت أجندة الزيارة التي قام بها شمخاني، بالإضافة إلى بحث مسألة مرشح رئاسة الوزراء، الحديث عن مستقبل وجود القوات الأمريكية في العراق، التي أشار لها بتصريح صحفي منوهًا بأن العد العكسي لإخراج الولايات المتحدة من المنطقة قد بدأ، هذا إلى جانب الحديث عن ضرورة الإسراع بتمرير الاتفاقية العراقية الصينية.
يشكل العراق الشريان الرئيس الذي تتنفس منه أذرع إيران في الشرق الأوسط، ومن ثم فليس بهذه السهولة أن تتخلى طهران عن بغداد
إن الضرورات الإستراتيجية التي تتعاطى بها إيران مع الحالة العراقية، تعبر عن مدى أهمية أن يأتي رئيس وزراء قريب من رؤية إيران ودورها في العراق من جهة، وأن يتخذ موقفًا قريبًا من الرؤية الإيرانية في التعاطي من الضغوط الأمريكية من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس تفسر زيارة شمخاني أن الهدف الرئيس منها الوقوف على آخر المستجدات الخاصة بعملية البحث عن رئيس وزراء جديد، بل إن زيارته لم تغب عنها فكرة إمكانية إعادة ترشيح السيد عادل عبد المهدي مرة أخرى.
فعلى الرغم من كل التحديات التي تمر بها إيران اليوم داخليًا وخارجيًا، ما زالت مؤمنة بأن هناك المزيد من الحلول التي يمكن أن تنتجها في العراق، إذ يشكل العراق الشريان الرئيس الذي تتنفس منه أذرع إيران في الشرق الأوسط، ومن ثم فليس بهذه السهولة أن تتخلى طهران عن بغداد، إذ أنشأ النفوذ الإيراني في العراق، أدوات تدخل عديدة شكلت بمجملها دولة عميقة تتحرك حسب المصلحة الإيرانية، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن زيارة شمخاني جاءت لتحرك المياه الراكدة، لكن ليس بالضرورة أن تكون حسب ما تشتهيه المصلحة الإيرانية في العراق.