بوادر أزمة صامتة بين الرباط ومدريد، ومصالح تشعل حربًا باردةً لم تهدأ بعد، سببها ترسيم الحدود البحرية بين الصحراء وجزر الكناري، ففي الوقت الذي يتمسك المغرب بموقفه السيادي الخاص، ترفض إسبانيا سياسة فرض الأمر الواقع واختارت التصعيد ضد قرار تعتبره “أحادي الجانب”.
تعيين الحدود حق تمارسه الدول
ترى الرباط أن تعيين الحدود البحرية حق تمارسه الدّول ذات السيادة بحرية تامة ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال الإذن أو التشاور المسبق، كما جاء على لسان وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، لكن في حالة وجود خلاف متعلق بترسيم الحدود البحرية، تشترط الأمم المتحدة في اتفاقية البحار أن يتفاوض البلدان من أجل التوصل لاتفاق ثنائي، ويتعين على الرباط إقناع مدريد بحقها السيادي على مستوى المناطق المقابلة للصحراء، كما يتوجب إيداع كل الخرائط والوثائق المرتبطة بحدود المنطقة الخالصة أو الجرف القاري لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
بالإجماع صادق البرلمان المغربي، في 19 من يناير/كانون الأول 2020، على قانونين يوسعان سلطة المملكة القانونية لتشمل المجال البحري لمنطقة الصحراء التي كانت خاضعة للاحتلال الإسباني إلى حدود 1975، وترى الحكومة المغربية أن هذا القرار يتعلق بمسألة سيادية داخلية، لكنه لم يستبعد استعداده للتفاوض مع الجار الإسباني، بشأن القانون الأول الذي ينص على امتداد سواحله الأطلسية من طنجة في أقصى الشمال إلى الكويرة أقصى الجنوب بالصحراء، بينما ينظم القانون الثاني تحديد منطقة اقتصادية تمتد إلى مسافة 200 ميل على المياه الواقعة بين الصحراء وجزر الكناري الخاضعة للتاج الإسباني.
أزمة وزيارة خاطفة
القرار تسبب في شبه أزمة بين الجارين الإفريقي والأوروبي وأثار غضب المسؤولين الإسبان خاصة في جزر الكناري، فقامت وزيرة الخارجية الإسبانية أرانشا غونثاليث لايا بزيارة خاطفة إلى المغرب لدعوة الرباط إلى مفاوضات مباشرة، بعد يومين من مصادقة البرلمان على هذا القرار، بينما يرى محللون أن هذه الزيارة لم يكن سببها المباشر إعلان المغرب ترسيم الحدود البحرية، بل يتعلق بتقليد في أدبيات العلاقة المغربية الإسبانية، المتمثلة في أن كل وزير خارجية جديد يستوجب عليه القيام بزيارة له خارج الفضاء الأوروبي، إلى المغرب.
فيما بعد ستعلن عمدة الدبلوماسية الإسبانية أن بلادها لن تقبل فرض سياسة الأمر الواقع، “وستتخذ الإجراءات الدولية التي تراها مناسبة في حال قرر المغرب التحرك بشكل أحادي الجانب في ترسيم حدوده البحرية”، مشيرة إلى أن القانون الدولي واتفاقية حقوق البحر ينصان بوضوح على أن حدود المياه يمكن ترسميها فقط بالاتفاق بين الدول المعنية.
مدريد تُصعّد ضد الرباط
بما فيها أحزاب مشاركة في حكومة بيدرو سانشيز، ترفض مكونات سياسية قرار ترسيم الحدود البحرية، إذ نجح البرلمان الإسباني في تمرير ملتمس يطالب بتبني موقف تصعيدي لمواجهة القرار المغربي، تقدم به حزب تحالف الكناري، وفي المقابل أعلنت الحكومة المغربية رفضها لهذا التحرك تجاه “القرار السيادي للمملكة”، وشددت على أن الرباط “لا تتعامل مع سلوكات داخل إسبانيا، بل تتعامل مع الحكومة الرسمية، وهي بدورها تتعامل باحترام وتقدير، وليس هناك مشكل على المستوى الرسمي”.
تسعى إسبانيا إلى لعب دور دائم ومؤثر في منطقة الصحراء التي كانت تحتلها
وترى الرباط أنها اتبعت إجراءات قانونية مستندة إلى اتفاقية الأمم المتحدة 1982 بشأن قانون البحار التي عينت امتداد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري (المادة 57)، وتقول المادة 76 من الاتفاقية: “يشمل الجرف القاري لأي دولة ساحلية قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء بحرها الإقليمي في جميع أنحاء الامتداد الطبيعي لإقليم تلك الدولة البري حتى الطرف الخارجي للحافة القارية، أو إلى مسافة 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة القارية يمتد إلى تلك المسافة”.
تصادم المصالح يُعقّد الحل
كانت اتفاقية البحار السابقة 1958 تقول بوجوب ترسيم الحدود بناءً على التحديد الوسطي، لكن هذه المقاربة سرعان ما أبانت عن محدوديتها وبدت مجحفة في حق كثير من البلدان الساحلية، لهذا جاءت اتفاقية 1982 لتأخذ بعين الاعتبار أهمية الديمغرافيا والبُعد القاري والبُعد الأرخبيلي والبُعد التاريخي وباقي الأبعاد التي يمكن أن تستعملها الدول لحماية مصالحها، على أساس مبدأ الإنصاف دون إلحاق ضرر بهذا الطرف أو ذاك.
تصادم المصالح بين إسبانيا والمغرب يجعل ترسيم المنطقة الاقتصادية على مستوى جزر الكناري مسألة معقدة جدًا، خاصة أن ما يفوق 90% من الثروة السمكية موجودة في تلك المنطقة.
كما تسعى إسبانيا إلى لعب دور دائم ومؤثر في منطقة الصحراء التي كانت تحتلها طيلة الفترة الممتدة بين 1884 إلى 1976، وفي حال استجابت الأمم المتحدة لمشروع المغرب الرامي إلى حفظ حدوده، فذلك اعترافٌ صريح بسيادته على المياه المحاذية للصحراء.
انتقاص من مياه بحر الأرخبيل
من سيتمكن من استغلال بركان “طروبيك” الذي يقع داخل حدود الجرف القاري؟ هذا هو السبب الحقيقي للخلاف بين إسبانيا والمغرب، حسب ما تحدثت به تحليلات صحفية، فإن البركان الذي يبلغ عمره نحو 119 سنة، يوجد جنوب جزر الكناري على بعد 269 ميلًا، وغرب مدينة الداخلة على بعد 290 ميلًا، وفي رحم هذا الجبل البركاني توجد كميات هائلة من التليريوم والكوبالت اللتين تدخلان في صناعة السيارات الكهربائية والصفائح الشمسية، فضلًا عن معادن الباريوم والنيكل والرصاص والفاناديوم والليثيوم وغيرها قد اكتشفت في قاع البحر.
أصبحت الجزر نقطة توقف الإسبان والتجار والمبشرين في طريقهم إلى العالم الجديد
تخشى مدريد أيضًا من ترسيم الحدود البحرية كخطوة قد تهدد سيادتها على أرخبيل الكناري الذي يخضع حاليًّا للتاج الإسباني، فيما تعتبره الرباط جزءًا من أراضيها المحتلة شأنها شأن مدينتي سبتة ومليلية شمال المغرب، وجزيرة البران والجزر الجعفرية وجزيرتي بادس وليلى.
والكناري أو كما يطلق عليها باللغة العربية جزر الخالدات عبارة عن أرخبيل يضم 13 جزيرة في المحيط الأطلسي وهي إحدى مناطق الحكم الذاتي الـ17 في إسبانيا، يقطن الناس في سبع منها، وسكانها الأصليون من الغوانش ذوي الأصول الأمازيغية، وفي القرن الخامس عشر انتزعتها مملكة قشتالة من البرتغاليين والسكان الأصليين، ومنذئذٍ أصبحت الجزر نقطة توقف الإسبان والتجار والمبشرين في طريقهم إلى العالم الجديد.
تسعى إسبانيا بكل وسائلها، لإبطال قرار ترسيم الحدود، إذ تراه ينتقص من مياهها الإقليمية في بحر أرخبيل الكناري، وصرح رئيسها بلهجة شديدة أن بلاده لن تسامح إذا مس المغرب ميلًا واحدًا من مياه بحر الجزر.