رغم مرور أكثر من قرن وربع على ميلاد صناعة السيارات على يد الألماني كارل بنز ومهندسين آخرين من أبناء بلده، وتطور هذه الصناعة إلى أن وصلت بعض نماذجها إلى حد “الجنون” لما تحتويه من رفاهية وإبداع، ظل العالم العربي طيلة هذه المدة حبيس قيود سياسة الاستهلاك والتبعية، يأكل مما لا تزرع سواعده ويركب مما لا تصنع أياديه.
وصحيح أن طفرة إنتاج السيارات في أوروبا في مهدها الأول لم تكن وليدة الخيار السياسي بل نتجت عن مبادرات فردية تزامنت مع الثورة الصناعية التي عاشتها القارة في القرن التاسع عشر، إلا أن الحكومات طورتها فيما بعد واتخدتها خيارًا إستراتيجيًا لبناء منوال اقتصادي قوي ومتطور، كما أن أنموذج كارل بنز وزوجته بيرتا التي دعمته بمهرها في إنتاج أول سيارة لن نرى منه في عالمنا العربي لعدة أسباب أهمها البيروقراطية والتعقيد الإداري وغياب التشجيع على البحث العلمي ودعم الطاقات الشابة المبدعة كالمخترعين.
واقع الصناعة
يرى خبراء أن العالم العربي سيعسر عليه لاحقًا مواكبة التطور الحاصل في العالم الذي أوشك على دخول ما يُطلق عليه الثورة الصناعية الرابعة، خاصة أنه لم يغنم ولم يكن له نصيب في الثورات الصناعية الثلاث السابقة، رغم امتلاكه لكل مقومات النجاح وتوافر الإمكانات كالمواد الطبيعية والثروات، إذ عملت معظم الدول العربية منذ استقلالها عن المستعمر على اعتماد منوال اقتصادي يقوم على تصدير المواد الطبيعية الخام مقابل توريد ما تحتاجه من مواد بما فيها الآلات والسيارات.
ولم تكن المحاولات الأولى لتركيز صناعة محلية جادة (ثقيلة) ذات جدوى تجعل منها دولة منتجة قادرة على منافسة البلدان الغربية، كذلك لم يعرف العرب أيضًا ما يُسمى بـ”التصنيع المتأخر” الذي حصل خلال القرن العشرين، وهو التصنيع الذي لا يحتاج إلى مقدرة على الاختراع، بل قام على “تعلم” كيفية إعادة الإنتاج مع المحافظة على ذات مواصفات، وهي وسيلة اعتمدتها دول شرق آسيا لبناء اقتصاداتها حيث جلبت الآلات من أوروبا وفككتها وأعادت تركيبها وصنعت نماذج تُماثلها، أو من خلال شراكات مع دول مصنعة كما حدث مع كوريا الجنوبية التي أصبحت فيما بعد من بين رواد صناعة السيارات في العالم، وذلك عندما منعت الحكومة الشركات العالمية من العمل داخل ترابها إلا من خلال مشاريع مشتركة ساهمت بدورها في انتشار الشركات الوطنية وميلاد صناعة سيارات محلية ذات جودة عالمية.
تجارب عربية.. مصر
لا تذكر صناعة السيارات العربية في التقارير العالمية المختصة في هذا القطاع نظرًا لعدم وجود مقومات للصناعة بجزئياتها التكنولوجية واللوجستية في المنطقة، وإن وجدت فإنها لا تستطيع أن تنتج سيارة محلية 100% لعدم وجود الصناعات المكملة كالإطارات والمحرك وغيرها، حيث تعتمد تلك المشاريع على المورد الأجنبي لجلب المكونات وتجميعها محليًا.
بدأ مشروع تصنيع سيارة مصرية ضمن مخطط من (الإبرة إلى الصاروخ) وبالتزامن مع إنشاء شركة “النصر للسيارات” عام 1959، التي كانت تهدف في ذلك الوقت إلى تجميع السيارات العالمية محليًا، إلى جانب تصنيع سيارة وطنية، وهو ما تحقق بتصنيع السيارة “رمسيس” وهي نموذج معدل عن السيارة الألمانية “برينز 4” التي كانت تنتجها شركة “NSU” الألمانية الغربية، وتم أيضًا الاعتماد على محرك من إنتاج الشركة الألمانية.
استطاعت شركة النصر في بداياتها إنتاج 8 سيارات من موديل “رمسيس” يوميًا، ولكن بقرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والقاضي بتأميم المؤسسات والمشاريع، إضافة إلى تعثر شركة “NSU” الألمانية واستحواذ شركة “فولكس فاجن” عليها عام 1964، تعطل إنتاج رمسيس وتوقف عام 1972، لتدخل شركة النصر للسيارات فيما بعد في شراكة مع “فيات” الإيطالية من أجل تجميع عدد من موديلات سيارات فيات، مع وضع علامة “نصر” عليها، وهو التعاون الذى استمر حتى عام 2009.
وفي الوقت الراهن، يوجد في مصر 170 شركة تعمل في صناعة السيارات، منها 19 شركة لتجميع السيارات بأنواعها (الأتوبيسات والميكرو والميني باص وسيارات النقل)، إضافة إلى أكثر من 150 شركة في مجال تصنيع المكونات، وتجمع مصر سيارات نيسان شيفروليه وبي واي دي وهيونداي وشيري الصينية ولادا وتويوتا وجيب وجيلي، إضافة إلى كيا.
المغرب
أما المغرب، فيعتبر من البلدان الإفريقية القليلة التي قررت الاستثمار في صناعة السيارات، وذلك بإنشائه لشركة صناعة السيارات (صوماكا) عام 1959، ووضعه اللبنة الأولى لبناء صناعة محلية معتمدةً في مرحلة أولى على تقنية إيطالية توفرها شركتا “فيات” و”سيمكا”، اللتان كانتا تمتلكان مناصفة في رأسمال “صوماكا” 40%، وكانت حصة الدولة المغربية في حدود آنذاك 38% وشركة “رينو” 8%، في حين ترجع النسبة المتبقية (14%) إلى مستثمرين مغاربة من الخواص، وفي عام 1962 أنتج المصنع أولى سياراته متمثلة في أربعة أنواع من الماركة التجارية “فيات” ونوعين من ماركة “سيمكا”.
وكان للمغرب تجربة في التصنيع من خلال شركة لاراكي التي أنشئت في الدار البيضاء عام 1999 على يد عبد السلام لاركي، وتُعنى الشركة بصناعة السيارات الفخمة، وأصدرت ثلاث سيارات خلال فترة عملها، قبل أن يتم إغلاقها عام 2008 لعدم تحقيقها أرباحًا كافية.
وفي السياق ذاته، تحتل السيارات قائمة القطاعات المصدرة بالمغرب بحصة 24.4% من مجموع الصادرات خلال العام 2016، مما يعادل 54.6 مليار درهم (نحو 5.8 مليار دولار)، متقدمةً على صادرات القطاعات التقليدية مثل الفلاحة والفوسفات، وتأتي بعد السياحة ضمن القطاعات التي تجلب العملة الصعبة للبلاد.
وكان وزير الصناعة المغربي مولاي حفيظ العلمي قد أعلن في وقت سابق أن بلاده بلغت سلفًا القدرة على إنتاج 650 ألف وحدة عبر مصنعي رونو و”بي إس أي”، وبذلك تتصدر قائمة الدول المصدرة لمنتجات السيارات في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، متوقعًا تجاوز هدف مليون سيارة المبرمج في أفق 2020.
تونس
من جهتها، حققت تونس إنجازات كبيرة في مجالات تأهيل وتدريب القوى العاملة المختصة في الصناعات الميكانيكية ومكونات السيارات، ما جعلها تحظى بثقة كبار مصنعي السيارات، ووقعت مع فرنسا اتفاق تعاون في مجال تصنيع مكونات وقطع غيار السيارات وتنظيم معرض متخصص في مكونات السيارات وعقد دورات تدريبية في مجال التصنيع، من أجل تأهيل القوة العاملة ونقل التكنولوجيا.
وسجل قطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية في تونس تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، يقدر معدل نموه السنوي بنحو 13%، كما تملك تونس قاعدة صلبة في مجال صناعة المكونات، الأمر الذي سيضع ركائز عميقة لنمو صناعة السيارات، حيث أقامت شركة ليوني الألمانية 6 مصانع للكابلات ومصنعًا جديدًا مخصصًا لإنتاج مكونات السيارات الكهربائية، كما عززت الشركة الألمانية Groupe Draxlmaier لصناعة الكابلات أعمالها بفتح وحدات جديدة، إضافة إلى إنشاء المجموعة الصينية China Triumph International Engineering مصنعين لصناعة زجاج السيارات والمحركات، وتركيز شركة يوري كوربوريشن الكورية أول مصنع لكابلات السيارات، فيما أرست بيجو – سيتروين (PSA) مصنعًا لتجميع سيارات (بيك-أب) في يوليو/تموز 2018 بحجم إنتاج سنوي 1200 وحدة موجهة لتغطية احتياجات السوق المحلية.
بدورها شغلت شركة السيارات جيلي الصينية في أكتوبر/تشرين أول 2018 أول خط لتجميع سياراتها في تونس بالشراكة مع شركة ميديا كار.
ورغم محدودية قطاع صناعة السيارات في تونس، فإن قطاع تصنيع مكونات السيارات يساهم بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر أكثر من 80 ألف فرصة عمل.
وتُعد تجربة Wallyscar السيارة المحلية (تصميم ومنشأ) التي أُنشئت في 2006 وأطلقت إيزيس وإيزيس 2 وواليس، محفزًا لأصحاب القرار في تونس لرسم إستراتيجيات جديدة لدخول لعالم التصنيع.
وكانت السيارة المستوحاة من سيارة جيب الأمريكية التي تتميز بخصائص أوروبية كالدقة والاحترافية، موجهة إلى التصدير فقط، إلا أن تزايد الإقبال عليها في جنوب فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، جعلها مطلوبة أيضًا في السوق الخليجية كدول مثل قطر والإمارات.
الجزائر وليبيا
أما الجزائر، فتضم شركات تجميع السيارات من شركة رينو وشركة بيجو الفرنسيتان، وكيا وهيونداي من كوريا الجنوبية، ونيسان من اليابان، وفورد الأميركية (وكلتاهما في طور الإنشاء)، وفولكسفاغن الألمانية.
وعملت الحكومة الجزائرية على حظر استيراد السيارات الجديدة، ودعت موزعي السيارات في البلاد وشركات صناعة السيارات الكبرى إلى إنشاء صناعة محلية وقدمت لهم إعفاءات ضريبية.
في ليبيا، لا توجد صناعة سيارات تُذكر إلا مصنع مشترك مع شركة إيفكو الإيطالية أنشئ عام 1976، حيث يعتمد المصنع كليًا على شراء المحركات ومكونات المركبات من الخارج.
والشركة الليبية للشاحنات والحافلات هي الوحيدة المتخصصة بتجميع الشاحنات في مقرها بالمجمع الصناعي بمدينة تاجوراء التي تبعد 11 كيلومترًا عن طرابلس، وقد أغلق المصنع عام 2011 وأعيد فتحه في مايو/أيار2017، وكان المصنع ينتج ما يزيد على 400 شاحنة شهريًا، ويعمل به ألف موظف، بينما يعمل به حاليًّا 300 عامل، ويجمع 8 قطع فقط في الشهر تشتريها مؤسسات الدولة الليبية في ظل ظروف سياسية وأمنية قاسية.
وفي عام 2009، كشف الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عن سيارة في الذكرى الأربعين لتوليه السلطة من تصنيع شركة “تيسكو تي إس” بلغت قيمتها مليوني يورو، ولكن “الصاروخ” وهي تسميتها لم تر النور إلى الآن، فيما ذكر كتيب وزع آنذاك على الصحفيين أنه “خلال تنفيذ هذه السيارة، التزم الفريق التقني التابع لتيسكو تي إس بالحرف بأفكار المصمم معمر القذافي لإنتاج السيارة المثالية وفق رؤيته”.
عوائق التصنيع
يُعد التنسيق العربي من حيث تفعيل اتفاقيات تجارية بين الدول العربية تشمل إزالة الحواجز وخبرات فنية وتسويقية، من أبرز العوائق التي تواجه مشروع السيارة القادرة على المنافسة خاصة أن السوق العربية (الاستهلاك) تعتبر كبيرة نسبيًا وقادرة على إنعاش أي صناعة واعدة.
#اتكلم_كانك_مسول اخيرا انشاء (مشروع تنموي متكامل ) مع بعض الدول العربيه مثل مثلا تصنيع سياره عربيه وذلك سيحقق (السوق العربيه المشتركة)
— Baher Gouda (@GoudaBaher) October 20, 2016
ومن بين العوائق الأخرى:
- نقص في الخبرات القادرة على تحقيق التكامل للاقتصاد
- نقص دعم مجالات البحث والتطوير وتعزيز برامج التأهيل والتدريب للعمالة بجميع مستوياتها فنيًا وإداريًا
- غياب قواعد للمعلومات للمنتجات والمؤسسات العربية وغياب المعارض (منتوج وتصميمات)
- نقص في الصناعات المكملة لأجزاء وقطع غيار التي تشكل قاطرة التصنيع النهائي للسيارة
- غياب معايير الجودة وعدم نقل التكنولوجيا الصناعية والرقمية
- ضعف نسبة الإدماج مقابل التسهيلات والامتيازات والإعفاءات الجبائية التي تقدمها الدول العربية
- التركيز على التجميع وإيراداته قد يُعيق أي محاولة جدية لتركيز صناعة قد يراها الساسة مكلفة
ماذا قدم بعض وكلاء السيارات لدينا من قيمة مضافة للمنتج؟
*أسعار مرتفعة
*مواصفات أقل
*خدمات مابعد البيع سيئة غالباً
*عدم توفير قطع
عزيزي الوكيل “استح” لم توطن صناعة أي قطعة ولم تؤهل .. خدمك الحظ فسيذهب يوما منك!
وعلى عاتق وزارة التجارة الضرب من حديد لأنهم تمادوا .. https://t.co/qK8ADtmhuv— فيصل العبدالكريم (@f_alabdulkarim) March 4, 2020
صدارة أوروبية وطموح تركي
تأتي الصدارة من حيث التصنيع وتكنولوجيا الأبحاث للدول الأوروبية بنسبة 17.38 مليون وحدة، تليها الصين بنسبة 15.52 مليون وحدة، ثم اليابان 10.82 مليون وحدة، ثم الولايات المتحدة 6.96 مليون وحدة، ثم كوريا الجنوبية 4.17 مليون وحدة، ثم الهند 3.29 مليون وحدة، وأخيرًا أمريكا الجنوبية 3.2 مليون وحدة.
كما تشير إحصائية لمؤسسة KPMG تشكل صناعة السيارات أكثر من 40% من نسبة الاقتصاد العالمي، إضافة إلى أنها توفر نحو 4.9 مليون وظيفة، وأن قيمة براءات الاختراع والأبحاث الخاصة بصناعة السيارات (وتشمل أبحاث السلامة وصناعة الفورميلا وسباقات السيارات) تقدر بأكثر من 120 مليار دولار، وحجم الإنفاق في تلك الأبحاث يتعدى 9 مليارات دولار سنويًا.
إلى ذلك، ورغم وجود مشاريع تجميع ضخمة لشركات عالمية في مصر وتونس والمغرب، فإن مردودها الاقتصادي لا يقارن بدول أخرى في المنطقة مثل إيران وتركيا، حيث حرصت تلك الدول على شراء خطوط الإنتاج العالمية وإعادة تصنيع السيارة بجميع مكوناتها محليًا، وحرصت على وجود “سيارة وطنية” تعبر عن مدى القوة الاقتصادية التي تتمتعان بها، حيث يشير تقرير للمنظمة الدولية لصانعي السيارات إلى أن إيران وصلت إلى تصنيع 1.3 مليون سيارة سنويًا، وتركيا إلى 1.1 مليون سيارة سنويًا، مما يضعهما في قائمة الدول العشرين الأوائل في تصنيع السيارات.
وفي سياقٍ ذي صلة، نجحت تركيا في تصنيع سيارتها الوطنية ضمن مشروع رصدت له قيمة الاستثمار الكلي قُدر بـ22 مليار ليرة تركية (3.704 مليارات دولار)، وستدخل السيارة التركية الجديدة (togg) الخدمة خلال ثلاث سنوات.
بالمحصلة، فإن الفيصل بين تقدم وتخلف الأمم على المستوى الصناعي، مرتهن بسرعة توافق المجتمعات والاقتصادات مع مستجدات التكنولوجيا ودرجة الانتفاع بها، لذلك لا يمكن الحديث في الوقت الراهن عن سيارة من الألف إلى الياء بأيادي محلية، ولتصل إلى هذه المرحلة عليها أولًا النهوض بالتعليم والبحث العلمي ودعم الطاقات الشابة والمؤسسات الناشئة واحتضانها، والأهم من ذلك القضاء على البيروقراطية والتعقيد الإداري ومحاربة الفساد ولوبيات التوريد.