سنواتٌ تسع عاشتها الثورة السورية، مر أبناؤها خلالها بكثير من التغيرات والطوارئ، فبعد سنواتهم الأولى التي اقتربوا فيها من النصر وتحقيق حلمهم بإسقاط النظام ونيل حريتهم، جاءت سنوات عجاف جعلت سوريا بلدًا مدمرًا نتيجة تشبث الأسد بكرسيه واستجلابه الاحتلال الروسي والإيراني وميلشيات طائفية همجية من كل حدب وصوب.
أصبحت المجازر طابعًا يوميًا يعيشه الناس، فدخلت البلاد في نفقٍ التهجير القسري وإخلاء البلدات والمدن والقرى من أهلها وحشرهم في إدلب التي تعاني اليوم ما تعاني، وبالفعل قضى بشار الأسد بمعونة حلفائه من دول ومليشيات ومرتزقة على إحداث التغيير الديمغرافي بعد حرب على المدن التي كانت حواضن الثورة ومنبعها كدرعا والغوطة الشرقية وحمص وداريا وغيرها الكثير.
هذا التهجير وهذه الحرب دفعت الكثير من أبناء الثورة للخروج إلى بلدان اللجوء طالبين فيها أمنًا بعد خوف واطمئنانًا بعد رعب، إلا أنهم وصلوا إلى بلاد جديدة غريبة لم يجدوا فيها حواضن ترعاهم أو مؤسساتٍ يعملون بها على أفكارهم وتطلعاتهم ويخدمون بها هدفهم الأسمى وهو حرية شعبهم.
ولما كان أهل الثورة في الخارج رديفًا لأهلها في الداخل وعونًا لهم اقتصاديًا ومعنويًا وفكريًا، كان لوجود حواضن ثورية ومؤسسات تحمل فكر الحرية وتعمل من أجله أهميةً كبيرة في تجميع جهود السوريين في الخارج ليكونوا عونًا قويًا وحقيقيًا للثورة وأداةً من أدوات استمرارها مهما كانت الصعوبات، وتكمن الأهمية الكبيرة لهذه الحواضن في تقديم الدعم المعنوي والمادي وتسيير الحملات لتعريف الشعوب بقضية الشعب المكلوم المتروك.
إلا أن هذه الحواضن كانت قليلةً وشحيحةً ومؤقتةً، وغالبًا ما امتازت بأنها مبادرات فردية سرعان ما يخبو بريقها لعدم تنظيمها ومأسستها ودعمها، فإلى الآن لا يوجد ذلك التكتل الخارجي الذي يلجأ إليه أهل الثورة خارج سوريا لتنفيذ نشاطاتهم ودعم الداخل، وعلى الرغم من ذلك برزت عدة نماذج تحاول جاهدةً العمل على ما تستطيعه، منها ما هو فردي ومنها ما هو جماعي ومن الممكن أن تكون بذورًا تثمر بعد فترة في حال وجد السوريون طريقهم فيها.
ضعف الحواضن الثورية في الخارج هو أكثر ما زاد تشتتنا اليوم وأشعرنا بفقدان الانتماء المشترك مع الداخل وزاد من شعورنا بالعجز واللاجدوى
ضعف وتشتت
تبرز الجالية السورية في تركيا كمثال لضعف وجود حواضن ثورية رغم العدد البشري الهائل هناك، فإلى الآن لم يستطع السوريون تشكيل أي كيان أو جماعة ضغطٍ أو مؤسسة تمثّل السوريين من أبناء الثورة سوى بعض المبادرات الصغيرة غير المؤثرة، وكذا الحال في أوروبا وغيرها من دول العالم. ويعزو الدكتور ياسر العيتي وهو كاتب سوري ورئيس مجلس إدارة مؤسسة “بنا” التنموية المجتمعية في حديثه لـ”نون بوست”، عدم وجود مؤسسات ثورية وحواضن سورية في الخارج إلى عدة أسباب أهمها:
-
ضعف خبرة السوريين بالتنظيم والعمل الجماعي.
-
صعوبة ظروف العمل والدراسة في بلاد المهجر.
-
غياب الرؤية الوطنية الجامعة وقيادة سياسية للثورة ذات مشروعية شعبية.
من جهته يقول الناشط السوري عمر المصري العضو السابق في اتحاد الطلاب السوريين بجامعة سكاريا، إنّ “ضعف الحواضن الثورية في الخارج هو أكثر ما زاد تشتتنا اليوم وأشعرنا بفقدان الانتماء المشترك مع الداخل وزاد من شعورنا بالعجز واللاجدوى”، ربما كلمات عمر توصف الحالة العامة لكل نشطاء الثورة الموجودين في بلدان اللجوء، خاصة أن هؤلاء لم يخرجوا اختيارًا إنما تهجيرًا ونفيًا، حاملين في ذاكرتهم سنوات من الثورة ومثقلين بمشاهد إجرام النظام وحلفائه.
أمثلةٌ مشرقة
رغم ذلك، توجد العديد من النماذج التي يمكن البناء عليها أو الاستلهام منها أو حتى تطويرها لتكون رافدًا أساسيًا يسهم باستمرارية الثورة وإحياء روحها، ذكر الدكتور ياسر العيتي، عددًا م الأمثلة، منها: منبر الجمعيات السورية وهي مظلة تجمع منظمات العمل الإنساني والإغاثي السوري انطلاقًا من تركيا، ورابطة كرامة مواطن وهي مؤسسة حقوقية تعني بحقوق المعتقلين والمهجرين، ورابطة معتقلي صيدنايا والاتحادات الطلابية في الجامعات التركية ورابطة المعتقلات السوريات.
تواصلنا في “نون بوست” مع مدير منبر الجمعيات السورية في إسطنبول باسل هيلم، حيث اعتبر، أن “المنبر حاضنة لمنظمات المجتمع المدني الفاعلة والحقيقية التي تحقق خدمة اللاجئ السوري”، ويرى هيلم أنه عندما تجتمع هذه الحواضن تحت مؤسسة واحدة تولد قوة كبيرة في سبيل تنظيم السوريين في الخارج وتزيد من التعاون وتحقيق أهداف مرحلية وإستراتيجية، وتحقيق هذه الأهداف لا يكون إلا بالتجمع الحقيقي للأفراد والمؤسسات.
في دولة قطر يبرز مجلس الجالية السورية كمثال واضح للعمل المؤسساتي لتنظيم أمور الرعايا السوريين ونموذج فريد حاليًّا
وفي تعريف منبر الجميعات ومهمته، أوردت صفحته على فيسبوك في تعريفها ما نصه: “نظرًا للواقع الذي يعيشه السوريون عامة في تركيا، والحاجة الماسة لتحسين الظروف المعيشية والاجتماعية، وتوحيد كلمة الجمعيات السورية وخطابها إلى مختلف الجهات الرسمية والمدنية السورية والتركية والدولية، ارتأت مجموعة من الجمعيات السورية في تركيا إنشاء كيان يساعد في ضمان الحاضنة الاجتماعية الشعبية للسوريين ومخاطبة الشعب التركي والتأكيد على أخوة الشعبين الشقيقين، وتم تسميته منبر الجمعيات السورية – تركيا”.
ويشير هيلم إلى أن “النظام ظل 50 عامًا يرسخ فكرة الفرد الواحد ونجاحه ولم يعمل على تكريس فكرة الفريق أو أن نعيش العمل المتكامل فكان كل شخص هو مشروع بحد ذاته وهذا خطأ جسيم”.
في مسارٍ آخر لاقت الاتحادات الطلابية السورية في بعض الجامعات التركية نجاحًا باهرًا في عدة مجالات، خاصة تلك التي عمل فيها رواد تلك الاتحادات على إيصال صوت المعاناة السوري وتوضيح الصورة الكاملة للفئة الطلابية التركية، ولو أن ذلك حصل على نطاق ضيق إلا أنه قابل للتوسع والنجاح في حال تضافرت الجهود، خاصةً أن عدد الطلاب السوريين في الجامعات التركية بلغ بحسب إحصاءات عام 2019، ما يفوق الـ20 ألف طالب.
هذا الرقم على الرغم من قلته بالمقاربة مع عدد السوريين في تركيا البالغ 3.5 مليون لاجئ، قادرٌ على إحداث فرق كبير كونه يستطيع التواصل مع الفئة الأكثر تعلمًا في المجتمع، وفي هذا الصدد يشرح عمر المصري لـ”نون بوست” بعض الفعاليات التي قام بها وأصدقاؤه في جامعة سكاريا لإيصال جانب من المعاناة اليومية التي يعيشها السوريون في الداخل من خلال عدة فعاليات.
ولعل من أهم هذه الفعاليات كما يقول المصري فعالية “هل تريد أن تعيش دقيقتين في إدلب؟”، وبحسب عمر لاقت هذه الفعالية “رواجًا كبيرًا واستطعنا من خلالها تصوير المعاناة بشكل محسوس للطلبة في عدة جامعات”، مضيفًا “القيام بالأنشطة والفعاليات تذكرنا بالهدف والمبادئ التي ثرنا من أجلها والسبب ولماذا هُجّرنا، فكنا في جميع الفعاليات والأنشطة حتى غير الثورية نذكّر الناس دائمًا بالثورة كمحرك ودافع أساسي لنا في أي نشاط أو عمل في بلاد اللجوء”.
إلى ذلك وفي دولة قطر يبرز مجلس الجالية السورية كمثال واضح للعمل المؤسساتي لتنظيم أمور الرعايا السوريين ونموذج فريد حاليًّا، وبحسب ما قاله رئيس الجالية محمد ياسين نجار لـ”نون بوست”، فإن عدد السوريين في قطر يبلغ 65 ألفًا، ويركز النجار على أن غالبية السوريين يعملون بأعمال خاصة ويكسبون رزقهم وليسوا “عالةً على أحد”، ويشير أنه يسعى لأن تكون هذه الجالية بذرةً ونواةً لاتحاد جاليات سورية في المهجر والتأسيس لهذا النوع من المؤسسات في البلدان التي يتركز فيها الوجود السوري.
وتعمل الجالية السورية في قطر بحسب النجار بالاتجاه الوطني ودعم كل حراك يغيث السوريين في الداخل، كما حصل في الحملة التي أطلقتها الهيئات الخيرية القطرية مؤخرًا وهي حملة “حق الشام”، وقال النجار إن تفاعل الجالية في هذه الأعمال يأتي من منطلق قيمي تجاه الشعب المكلوم، وتسعى إدارة الجالية فتح كل الأبواب للجميع واستيعاب الكل.
تنظيم الجالية السورية لنفسها في كيانات تمثلها وتعبر عن مطالبها يسهّل التواصل مع الجهات الرسمية في دول المهجر لإيصال المطالب والعمل على تحقيقها.
ضرورة ملحة
بعد كل هذه السنوات من الألم والقهر، بات واجبًا تنظيم الصفوف والعمل على أن تكون تجمعات السوريين عبارة عن أجسام قوية ومدارس لاستمرارية الحكاية والمعاناة، كي لا تُنسى وتسقط الجرائم بالتقادم، ووفقًا للدكتور العيتي فإن قيام كيانات تنظم جهود السوريين في خدمة قضيتهم يعزز صمود السوريين في الخارج والداخل ويمكّن للكيانات أن تخدم القضية السورية بعدة طرق، منها:
-
إبقاء روح الثورة في الحاضنة من خلال حملات التحشيد والمعارض والندوات والمحاضرات.
-
تصحيح صورة ما يحدث في سوريا في الرأي العام الغربي والعالمي على أنها ثورة شعب يطالب بحريته وليست حربًا ضد الإرهاب كما يسوق النظام أو “حرب أهلية”.
-
تنظيم الجالية السورية لنفسها في كيانات تمثلها وتعبر عن مطالبها يسهّل التواصل مع الجهات الرسمية في دول المهجر لإيصال المطالب والعمل على تحقيقها.
-
العمل في المجالات الحقوقية دفاعًا عن حقوق المعتقلين والمهجرين.
-
تساهم هذه الكيانات في إدارة النقاش بين السوريين في المهجر لإيجاد القواسم المشتركة بينهم وبلورة هوية وطنية جامعة، وكذلك مناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة بمستقبل سوريا وإيجاد البديل عن النظام.
وإلى جانب مسار الدعم السياسي يمكن أن تكون هذه المنظمات والمؤسسات والحواضن مسهمًا رئيسيًا في المجال الاقتصادي والمعنوي، كما يقول باسل هيلم الذي يشير بدوره إلى أن وجود كيانات للسوريين في الخارج بات ضرورة ملحة، ويشير هيلم إلى أن “الأنظمة تكون عبارة عن مؤسسات تعمل بشكل منظم وتعطي قوة أكبر للنظام على الرغم من ظلمه وبطشه، ومن يطالب بالحرية ورفع الظلم يجب أن يكون عمله مؤسساتيًا منظمًا كي يستطيع تركيز دعمه لقضيته نحو هدف واحد”.
أداة مقاومة
لم تقتصر المقاومة السورية ضد بشار الأسد على الوضع العسكري الداخلي ومجابهة قواته، بل تعدته إلى مراحل عديدة، منها الجانب الحقوقي الذي يحاول مطاردة الأسد وأزلامه خارج البلاد والحراكات الطلابية التي تنافح للتعلم وفائدة بلدها، فلذلك كان وجود هذه الحواضن الثورية والمؤسسات أداة من أدوات المقاومة الفعلية لمواجهة النظام وحصاره والمساهمة في إنهائه.
يقول عمر المصري: “في الحقيقة التجمعات الشبابية الثورية هي المعني الأساسي بتذكيرنا دائمًا بالأهداف التي جمعتنا كثوار بدايةً وخرجنا منفيين كرامةً لأن لا نفرط فيها وهي أكثر ما يمكن أن يكون وقودًا لاستمرارية الفكرة”، ويضيف المصري مؤكدًا أن هذه التجمعات أداة مقاومة: “يمكن لهذه الطاقات مجتمعة أن تبتكر أفكارًا جديدة غير نمطية للحراك الثوري في الخارج، وأي تجمع أكاديمي أو علمي أو اجتماعي أو ثقافي لنا اليوم في المنفى من شأنه أن يكون أداة ثورية فعالة إذا حمل معه نفسًا ثوريًا يلعن ظالما ويدعم مقاومًا”.
وأعتبر أن “للحركات والحواضن الثورية اليوم في الخارج دور كبير ومهم في تشكيل مجموعات ضغط من شأنها أن تؤثر لاحقًا في رأي صناع القرار الدوليين والإقليميين”، وهو الأمر الذي يؤكده ياسين نجار من خلال ربطه بين الداخل والخارج، حيث يرى النجار أن بناء مؤسسات ذات بناء منظم تسير وفق أنظمة حديثة تدعم تطلعات الشباب هو أداة من أدوات مقاومتنا لهذا النظام وظلمه.
تأخذ مقاومة الطغاة أشكالًا متعددة، ربما من أهمها تنظيم العمل خارج سوريا بمؤسسات ترفد الداخل السوري وتعزز صموده
آمال وتطلعات
يتطلع كثير من سوريي الخارج إلى تنظيم العمل كل في مجاله، الطلابي والاقتصادي والسياسي والثقافي، في سبيل تعزيز جبهة المقاومة ضد النظام وحلفائه مهما طال أمدهم وانحسرت جغرافيا الثورة في سوريا، فالأمل معقودٌ ببقاء السردية وانطلاق جذوة الثورة من جديد، وفي هذا الصدد يأمل ياسين النجار بالعمل على صناعة قادة رأي مؤثرين في المجتمع وإنشاء مؤسسات تعتني بهم، كما يتمنى أن يتأسس اتحاد طلابي ورابطة علمية تجمع بين طلاب الأراضي السورية المحررة وطلاب الجامعات التركية لدعم التواصل كي لا يشعر طلاب الداخل أنهم وحيدون، وتعميم الفكرة على الكثير من المناحي التي تدعم صمود أهل الداخل وتقوي عزيمتهم، ويضيف النجار يجب على السوريين أينما كانوا أن يبقى “هدفهم هو سوريا الحرة والدولة الديمقراطية”.
تأخذ مقاومة الطغاة أشكالًا متعددة، ربما من أهمها تنظيم العمل خارج سوريا بمؤسسات ترفد الداخل السوري وتعزز صموده، بعيدًا عن كل ما حصل في السنوات السابقة، فالتعلم من الأخطاء واجب وتعزيز مسارات المقاومة فرض، وإلا فإن ما قدمه السوريون من مدن ودماء وعمر قد ذهب هدرًا.