“الرئيس فيلاديمير بوتين هو الرئيس الروسي الأول الذى اهتم بأحوال اليهود وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وتحدث كثيرًا عن عدم وجود معاداة للسامية في بلاده، وهو الرئيس الأول الذى كافح معاداة السامية، ويقوم حاليًّا بأعمال طيبة لتحسين أحوال اليهود الاجتماعية والاقتصادية”، هكذا وثّق الحاخام الرئيسي لروسيا، الرابى بارل ليزر، العلاقة القوية بين اليهود والدولة الروسية.
تلك العلاقة التي تضرب بجذورها إلى نشأة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين العربية، حينها كانت الدولة السوفيتية على رأس الدول التي أيدت بشكل كبير قيام تلك الدولة، غير مكترثة بمناشدات الدول العربية في هذا الوقت وتنديداتها لدول التي سارعت بالاعتراف بالدولة الوليدة.
كثير من الناس يقيمون الموقف الروسي من قضية الصراع العربي الإسرائيلي بناءً على توجهاته الحاليّة، وهي تقييمات تحتاج إلى إعادة نظر، بعيدًا عن المعتقدات السياسية المتغيرة بطبيعة الحال، فالمصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط تشكلت بفعل العوامل الجيوإستراتيجية التي أثرت في السياسة الروسية في عهود القياصرة.
فالإمبراطورية الروسية دومًا ما كانت تتطلع نحو الجنوب في السياسة الخارجية القيصرية منذ عهد بطرس الأكبر (1682 – 1725)، وكاترين (1762 – 1796)، وحتى عهد نيقولا الثاني (1894- 1917)، وكان على رأس أسباب اندلاع حرب القرم في القرن التاسع عشر ( 1854 – 1856) النزاع الروسي الفرنسي بشأن السيطرة على الأماكن المقدسة في فلسطين.
وقتها اعتبر القيصر الروسي نفسه حاميًا للكنائس المسيحية الأرثوذكسية، في حين ادعى الإمبراطور نابليون الثالث الفرنسي أنه صاحب السيطرة على الأماكن المقدسة ذاتها لصالح الكنائس المسيحية اللاتينية، غير أن بريطانيا وفرنسا تمكنتا في مطلع القرن العشرين من احتواء التهديد الروسي باتجاه الجنوب إلى الشرق الأوسط على نحو فعال.
دعم قيام الدولة اليهودية
بالعودة إلى عام 1947 تبنى الاتحاد السوفيتي موقفًا مؤيدًا للصهيونية بشكل غير متوقع في مقابل تخاذل مشين بشأن القضية الفلسطينية، حيث ساند الروس اليهود في تطلعهم لإنشاء دولة يهودية، كما دعموا خطة التقسيم التي دعت إليها الأمم المتحدة التي ترمي لإقامة دولة للكيان اليهودي فوق الأراضي العربية.
ففي الـ14 من مايو/أيار 1947 فوجئ العالم بالمندوب السوفيتي في الأمم المتحدة، آندريه جروميكو، يعبر عن تأييد بلاده لحق اليهود في قيام دولة صهيونية وتأييده لمشروع التقسيم بحماسة واندفاع غريبين، مع الوضع في الاعتبار أنه قبل هذا الموقف طالما ندد السوفيت بالصهيونية وجرائمها.
وفي الـ26 من ديسمبر/كانون الأول 1947 وقبل 3 أيام فقط من صدور قرار التقسيم وقف جروميكو على منبر المنظمة الدولية يدافع عن “الحقوق الشرعية للشعب اليهودي في إقامة دولته لتأمين المأوى والوطن لمئات الألوف من اليهود ممن يعيشون في معسكرات أقامتها لهم الدول الأوروبية.
الدعم السوفيتي لم يتوقف عند حاجز الاعتراف وفقط، بل أدان الروس دخول القوات العربية إلى فلسطين الذي جاء ردًا على إعلان قيام الكيان المحتل
وفي الـ18 من مايو/أيار 1948 وبعد أربعة أيام فقط من إعلان قيام “دولة إسرائيل” كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تمنحها اعترافًا قانونيًا كاملًا، وهو الذي كان أبرز الرافضين منذ عهد لينين للأهداف الصهيونية الرامية إلى تأسيس كيان سياسي لها فوق الأراضي الفلسطينية.
الدعم السوفيتي لم يتوقف عند حاجز الاعتراف وفقط، بل أدان الروس دخول القوات العربية إلى فلسطين الذي جاء ردًا على إعلان قيام الكيان المحتل، وعلى الفور بادرت الدولة السوفيتية بإرسال الأسلحة للإسرائيليين في أثناء حربهم الأولى مع العرب، مما كان له أهمية كبرى، وربما حاسمة، في استمرار بقاء الدولة الصهيونية الجديدة.
وحين قاطعت الدول العربية “إسرائيل” اقتصاديًا في 1953 كان الاتحاد السوفيتي أبرز الداعمين لتل أبيب في مواجهة تلك المقاطعة، ففي العام ذاته أبرم معها اتفاقية تجارية لمبادلة النفط السوفيتي بالحمضيات الإسرائيلية، وهي الاتفاقية التي ألغتها موسكو فيما بعد إثر العدوان الثلاثي على مصر 1956.
براغماتية مطلقة
انتهجت السياسة السوفيتية ثم الروسية تجاه القضية الفلسطينية مبدأ براغماتي يعتمد على مصالحها الجيوسياسية وتنافسها مع غريمها التقليدي الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة إلا أن ميزان الترجيح في الأفعال كان دائمًا يميل لكفة “إسرائيل” والقضايا المتعلقة بصراعها مع العرب.
رجل الاستخبارات ووزير الخارجية ورئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف، في كتابه “روسيا والعرب” كشف النقاب عن بعض ملامح تلك السياسة التي تعتمد في المقام الأول على حسابات الربح والخسارة فيما يتعلق بمصالحها، مستشهدًا بالموقف من بعض الأحداث التي وقعت في المنطقة في هذا التوقيت.
وأضاف بريماكوف أنه وعلى عكس الفكرة الشائعة، لم ترحّب موسكو بحركة يوليو المصرية عام 1952، بالسهولة التي يظنها البعض، ولكن براغماتية ستالين التي دفعته إلى دعم اليهودية السياسية من أجل تدعيم المجهود الحربي السوفيتي هي ذاتها التي تبناها رئيس الوزراء الجديد نيكيتا خروتشوف في استجابته لاتصال الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بموسكو عقب تعقّد علاقته مع أمريكا عام 1955.
رئيس الوزراء الروسي في هذا التوقيت كان يرى – بحسب بريماكوف – أن استخدام القوميين العرب في ردع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط أفضل طالما أن الشيوعيين العرب غير قادرين على الوصول إلى السلطة، منوهًا أن صفقة الأسلحة الروسية عبر تشيكوسلوفاكيا قبل العدوان الثلاثي 1956 لعبت نفس تأثير الصفقة الروسية عبر الدولة نفسها في حرب 1948.
لم تشهد العلاقات الروسية الإسرائيلية تطورًا في تاريخها كما شهدته في عهد بوتين، إذ توصف تلك الفترة بأنها العصر الذهبي لتلك العلاقات
وأوضح أن موسكو رأت في العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر/تشرين الأول 1956 خطرًا على مصالحها في الشرق الأوسط وتعزيزًا لنفوذ الأمريكان، وعليه كان الموقف المعلن بالوقوف إلى صف القاهرة والتهديد بضرب لندن وباريس، الأمر الذي دفع واشنطن إلى إصدار بيان تطالب فيه القوات المعتدية بالانسحاب من مصر.
وعليه بات الإنذار السوفيتي الأمريكي إنذارًا واحدًا، ساهم بشدة في حسم المعركة التي أنهت نفوذ فرنسا وبريطانيا عمليًا، ومنذ ذلك الحين دخلت العلاقات العربية السوفيتية عصرًا ذهبيًا، من مصر مرورًا بالعراق وسوريا وليبيا وصولًا إلى الجزائر، وهي العلاقات التي بُنيت في الأساس على المصالح المشتركة.
وقطعت موسكو علاقتها مع تل أبيب منذ حرب يونيو 1967 حين شاركت القوات الأمريكية إلى جانب الإسرائيلية في استهداف المطارات المصرية، وظلت العلاقات على هذه القطيعة قرابة 24 عامًا حتى عادت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وظلت على وتيرة التأرجح بين الحين والآخر حتى السنوات العشرة الأولى من الألفية الجديدة.
ولم تشهد العلاقات الروسية الإسرائيلية تطورًا في تاريخها كما شهدته في عهد بوتين، إذ توصف تلك الفترة بأنها العصر الذهبي لتلك العلاقات، حيث الزيارات المتبادلة بين قادة البلدين وارتفاع الميزان التجاري بينهما، وفي 20 من يوليو/حزيران 2011 وقف بوتين مخاطبًا الروس والإسرائيليين على حد سواء قائلًا “إسرائيل تُعتبر عمليًا دولة ناطقة بالروسية لأن نصف سكانها يتحدثون الروسية، ويمكن اعتبارها جزءًا من العالم الروسي والثقافة الروسية، والكثير من الثقافة الإسرائيلية ما هي إلا ثقافة روسية وكل الأغاني الوطنية الإسرائيلية هي أغانٍ روسية”.
حتى حين تعارضت مصالح الدولتين في سوريا على سبيل المثال، بعد تدخل موسكو لدعم نظام بشار الأسد، حرص بوتين على التنسيق مع الجانب الإسرائيلي وعدم استفزازه بأي مناوشات هنا وهناك رغم الهجمات المتكررة التي شنها الطيران الإسرائيلي على مواقع تابعة لنظام الأسد، بل على العكس من ذلك، تبادل بوتين ونتنياهو الزيارات فيما بينهما أكثر من مرة خلال الأعوام الثلاث الأخيرة.
السيطرة على مواقع صنع القرار
نجح اليهود في روسيا في فرض سيطرتهم على دوائر صنع القرار في البلاد، فبعد سنوات قليلة من حكم أول رئيس للاتحاد الروسي “بوريس يلتسين” أصبحت نسبة اليهود الروس الذين يمثلون أقل من 1% تتراوح بين 30-50% من شاغلي المناصب السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والعلمية المهمة في روسيا.
أستاذ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية في الجامعة اللبنانية، خالد العزي، يرى أن اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل” متجذر في المؤسسات العليا التي يملك مفاصلها ويسيطر على اللعب في القرار السياسي في روسيا، ويضيف: “بتنا أمام معادلة جديدة، وهي أن كل الذين يملكون أموالًا من مؤيدي نظام بوتين، ويقبضون على المؤسسات الصناعية والتصنيع، مما ساعد رجال المال اليهود على إيجاد غطاء سياسي وأمني لهم”.
ورغم انخفاض نسبة عدد اليهود في روسيا مقارنة ببقية الشعب، فإن الأماكن التي ينتشرون بها هي ما تحدد مدى تأثيرهم، حيث يتوغلون بشكل كبير في البنوك والجمارك والتجارة والمطارات والمؤسسات العلمية والإذاعة والتليفزيون، فالمحلل السياسي لتليفزيون روسيا، هو المستشرق الصهيوني الروسي البروفسور ستنسلوفسكي، كذلك يقع مركز الاستشراق بيد الروس الصهاينة حيث باتوا يديرون المركز العربي بما يخدم الكيان الصهيوني والاعلانات والمراكز الحساسة في الدولة.
تلك القوة المتغلغلة في دوائر صنع القرار فرضت سطوتها بشكل كبير على القرار السياسي الروسي، ما أجبر موسكو على تبني مواقف وتوجهات داعمة للكيان الإسرائيلي، وبناء أفضل العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية معها، وهو ما يمكن قراءته في خريطة القرارات الروسية الأخيرة بشأن الانتهاكات الإسرائيلية.
اللوبي الصهيوني في روسيا
شهد أبريل/نيسان 2017 الميلاد الرسمي للوبي الصهيوني في روسيا، وذلك حين عقدت الجالية اليهودية في البلاد مؤتمرها الـ11، الذي جاءت أهدافه متمركزة حول تعزيز الهوية اليهودية بين يهود روسيا والعالم، وتقوية أواصر المحبة والمودة بين التجمع اليهودي وروسيا.
خبراء ذهبوا إلى أن تدشين لوبي صهيوني بهذه القوة في روسيا في ظل حكم بوتين الذي يوصف بالديكتاتوري لم يأت من منطلق احترام حرية التنظيم لمواطنين روس، لكن لإيمان موسكو ومعها تل أبيب بوجوب ترسيخ شراكة إستراتيجية بينهما، عبر اتخاذ خطوات تخدم مصالحهما.
وكان نتاجًا لهذا التنسيق أن اتخذ اليهود الروس في “إسرائيل” مواقف يمينية متطرفة ضد القضايا العربية، بالشراكة مع اليهود في روسيا، وخرجت خطوات تهدف إلى إنتاج أدوات ضغط على دوائر صنع القرار في موسكو لخدمة المصالح الإسرائيلية، وتدفع ذلك العلاقة بين حزب الليكود الحاكم في تل أبيب والقيادات اليهودية الروسية الفاعلة.
ومن صور التنسيق كما ذكرنا آنفًا تجنب “إسرائيل” استهداف منظومة الصواريخ الروسية المتطورة (إس 300) في سوريا، في مقابل حرص الجانب الروسي على عدم المساس بالمصالح الصهيونية، وهو ما يعكس قوة اللوبي اليهودي سواء داخل روسيا أم “إسرائيل”، علمًا بأن هناك مليون ونصف المليون روسي في “إسرائيل”.
يحتل اليهود الروس المرتبة الثانية من حيث حجم الثروة لليهود بعد اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة، فبينما يشكل المال اليهودي ما نسبته 18% بين مئة ثري عالمي، يوجد في روسيا 12 ثريًا يهوديًا، بلغ مجموع ثروتهم نحو 82 مليار دولار
وعلى صعيد القضية الفلسطينية، فقد مارس اليهود الروس ضغوطًا كبيرة على الحكومة الروسية، على رأسهم رئيس فرع حزب الليكود داخل روسيا ميخال لوبوبيكوف الذي طالما حث موسكو على تصنيف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كتنظيم إرهابي وقطع العلاقات معها.
ورغم عدم نجاح مساعيه في ذلك، فإنه حاول عن طريق اللوبي التأثير على الحلبة السياسية والحزبية في موسكو واستصدار قرار قضائي روسي يصنّف حماس هذا التصنيف تحت ذريعة أنها تشكل خطرًا على الأمن الروسي، وأنها تعادي النظام المصري الذي يحارب الإرهاب في سيناء، حيث أسقطت طائرة روسية في العام 2015، تدعم تنظيم الدولية الإسلامية (داعش) المعروف باسم “ولاية سيناء”، وهو التنظيم المسؤول عن إسقاط هذه الطائرة.
مكانة متبادلة
تتميز العلاقات الروسية الإسرائيلية في الوقت الراهن بتنسيق وتفاهم غير مسبوق، وهو ما ينعكس بصورة أو بأخرى على الجالية اليهودية في الدولتين، فيهود روسيا لهم مكانة ودور مؤثر وله تبعاته داخل الكيان، ويحتفظ المستوطنون الروس في “إسرائيل” بالمواطنة وجوازات السفر الروسية، ويرتبطون بعلاقاتٍ قويةٍ مع روسيا، وهم محل حرص واهتمام على سلامتهم ورفاهيتهم من الحكومة الروسية التي تدرك أهمية الحفاظ على اليهود الروس كجزء من الشعب الروسي، حيث يسميهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ”الشتات الروسي في إسرائيل”.
وفي الناحية المقابلة يحيا يهود روسيا أزهى عصورهم تحت حكم بوتين، في ظل العلاقات المتنامية بين البلدين، وهي العلاقة التي دفعت نحو دمج اليهود في الحياة الطبيعية الروسية بشكل غير متوقع، ففي مقابل إيمان موسكو بأن وجود مئات آلاف اليهود من أصل روسي في “إسرائيل”، هو حافز رئيس لتحسين هذه العلاقات، يوجد قناعة أيضًا بأهمية تحسين أوضاع اليهود في الداخل الروسي كحافز نحو المزيد من المكتسبات السياسية.
واقتصاديًا يحتل اليهود الروس المرتبة الثانية من حيث حجم الثروة لليهود بعد اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة، فبينما يشكل المال اليهودي ما نسبته 18% بين مئة ثري عالمي، يوجد في روسيا 12 ثريًا يهوديًا، بلغ مجموع ثروتهم نحو 82 مليار دولار، وأكثرهم ثراءً هو “ميخائيل فريدمان” الذي يستثمر أمواله في قطاعي النفط والبنوك، وتساوي ثروة 48 ثريًا من أبناء الديانة اليهودية الروس 133 مليار دولار، بمعدل 2.77 مليار دولار للثري الواحد.
وهكذا ورغم ما تدعيه موسكو بمناصرة القضايا العربية يبقى التاريخ شاهدًا على زيف وكذب تلك الادعاءات التي تتنافى شكلًا ومضمونًا مع موجات الدعم والتأييد التي قدمها الروس للصهيونية منذ إعلان نشأة الكيان الإسرائيلي قبل 70 عامًا، في الوقت الذي لا يزال يعول فيه البعض على الدولة الروسية في نصرة القضية الفلسطينية على حساب حليفها الصهيوني.