أنفقت حكومات العالم في العقود الأخيرة مليارات الدولارات على مشاريع التخطيط الحضري وتصميم المدن، سعيًا لإدارة واحتواء التحديات العصرية التي جاءت تباعًا للتغييرات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن رغم محاولاتها في التكيف مع هذه التحولات، لم تنجح في خلق بيئة تصلح للجميع، فقد غفلت عن تعزيز مبدأ المساواة بين الجنسين، إذ تبدو المدن ظاهريًا محايدة جنسيًا أو متطورة نسبيًا بالمفهوم التكنولوجي والبيئي ولكنها ليست مناسبة للنساء.
نشر البنك الدولي دليلًا عن التخطيط الحضري الذي يراعي النوع الاجتماعي وأوضح بأنه على مر التاريخ كان الرجال من يخططون المدن ويصممونها بما يخدم احتياجاتهم، أي أن المدن بشكلها الحاليّ خطط لها الرجال من أجل الرجال، واستثنت الفئات الاجتماعية الأخرى مثل النساء والأطفال والأقليات الجنسية وذوي الاحتياجات الخاصة من الصورة، وانطلاقًا من هذه الزاوية سنتناول الشق الذي يخص النساء على وجه الخصوص ونستعرض التدابير التي يمكن اتخاذها لتصبح المدن أكثر ملاءمة وتجاوبًا مع احتياجات المرأة ودورها الاجتماعي.
المدن الصديقة للمرأة
بدأ الحديث عن فكرة “المدن الصديقة للمرأة” عام 1980، حين نشرت مجلة “ساينس” النسوية مقالًا يتطلب من القراء تخيل شكل مدينة غير متحيزة جنسيًا، وقالت كاتبة المقال، أستاذة التخطيط الحضري في جامعة كاليفورنيا، دولوريس هايدن، إن المهندسيين المعماريين اعتمدوا في تخطيطاتهم الحضرية على الفهم النمطي بأن المرأة تنتمي إلى المنزل ولا تزال تعيش في أسر ممتدة ومجتمعات صغيرة وحميمة، ولم يلاحظوا أن دور المرأة في المجتمع قد تغير بصورة كبيرة، والمجتمع بحد ذاته لم يعد كما كان.
ففي ذاك الوقت، كان المنزل عبارة عن مركز الإقامة والإنتاج في آن واحد، ولم يكن هناك حاجة للذهاب إلى مناطق بعيدة، إلا أن هذا النمط لم يعد موجودًا مع بداية القرن العشرين الذي حرر المرأة من الروابط العائلية والمعايير المجتمعية التقليدية، ومع ذلك استحوذت النساء على 10% فقط من أرفع المناصب في شركات الهندسة المعمارية الرائدة في العالم، ما يعني أن المرأة ما زالت مستبعدة من مراكز صناعة القرار المختصة في التخطيط الحضري على الرغم من التقدم الذي أحرزته في مجالات أخرى، إلا أن الفجوة في هذا القطاع انعكست سلبًا على نمط حياتها وقيدت حريتها وحركتها اليومية، سواء أكان ذلك في شوارع المدينة أم وسائل النقل العام أم الأحياء السكنية.
يعود السبب في ذلك إلى أن شعور المرأة بالخوف من المضايقات التي تتراوح بين سوء المعاملة والاعتداء الجنسي يحد من مشاركتها في المجال التعليمي والمهني والترفيهي، إضافة إلى الحياة السياسية والاقتصادية، مما يؤثر على تمكينها اجتماعيًا واقتصاديًا، فوفقًا لمنظمة العفو الدولية، تتعرض فتاة واحدة من كل أربع للاغتصاب كل عام في المدن التي لا تتمتع بخدمات كافية.
وذكرت نتائج استطلاع رأي أن القاهرة “أخطر المدن الكبرى في العالم على المرأة”، حيث وجدت دراسة أجرتها الأمم المتحدة أن 99.3% من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي، ما يعني أن الأسواق والشوارع وأماكن العمل ووسائل المواصلات العامة ليست أماكن آمنة للنساء ولا تدعم حضورهن ولا تشجعهن على المشاركة الاجتماعية أو الاقتصادية.
تخطيط حضري متوازن
لا يمكننا بكل بساطة أن نهدم مدن العالم ونعيد بناءها كي تتناسب مع احتياجات النساء، إلا أنه يمكن اتخاذ عدد من التدابير لجعل الشوارع أكثر أمانًا عند التنقل، ويبدأ تحقيق ذلك من خلال استشارة النساء في التخطيط العمراني للمدن وإشراك رؤيتهم واقتراحاتهم في مجالس البلديات.
ظهرت العديد من مبادرات “المدينة الآمنة” على أرض الواقع إلا أنها تظل محدودة التأثير نسبيًا، ومثلها ما تعمل عليه هيئة الأمم المتحدة للمرأة واليونيسيف مع مسؤولي البلديات حول بلدان العالم، وكذلك منظمات المرأة والشباب، من أجل ضمان تمتع النساء والأطفال بالأماكن العامة دون خوف من العنف والاعتداءات الخارجية، وأحد تلك البرامج “مدن آمنة وودية للجميع” التي بدأت في 8 دول من بينها لبنان والمغرب والبرازيل وطاجيكستان.
واستنادًا إلى مبادئ العدالة الاجتماعية والتنوع والشمولية والمساواة، بدأ المخططون الحضروين بإدخال تعديلات بسيطة على المدن مثل إدراج أضواء إضافية للشوارع في الزوايا المظلمة، مما يمكّن المرأة من الشعور بالحرية والأمان في الحركة بنفس مستوى ثقة نظرائها الذكور، إذ تشير بعض التجارب إلى أن الشوارع المضاءة جيدًا تمثل طريقة فعالة لمعالجة العنف الجنسي، وهي أحد أهم الجوانب التي تسعى المدن الصديقة للمرأة لإدماجها في معاييرها.
يضاف إلى ذلك، توصيات بشأن تثبيت كاميرات مراقبة في المساحات العامة ووسائل النقل العام، وإلا سيبقى الوضع الحاليّ عبئًا مزودجًا على المرأة داخل المنزل وفي العمل، لأن تصميم المدينة الحديثة ما زال يحصرها في القالب النمطي للنظام الأبوي السلطوي، فمن الشائع جدًا أن تكون الحدائق العامة ذات إضاءة خافتة وسيئة، فضلًا عن سلالم محطات المترو المرتفعة التي يصعب استخدامها عندما تكون الأمهات لديهن عربات أطفال.
ونزيد على ذلك، بعد المناطق السكنية عن المدارس أو مراكز رعاية الأطفال، الوضع الذي يزيد الأمور تعقيدًا وصعوبة على الأم العاملة بسبب طول المسافات وتعدد المهام والالتزامات التي يجب أن تفي بها في وقت محدد. فبحسب تقرير أصدرته مجموعة البنك الدولي بعنوان “إدراج اعتبارات المرأة في النقل على الطرق” برزت الاختلافات بين الرجل والمرأة في أنماط السفر فيما يتعلق بالغرض من السفر ووتيرة السفر وطول الرحلة، وتوصلت الدراسة إلى أن النساء يقمن برحلات أكثر عددًا وتعقيدًا من الرجال.
وتأتي هذه الاختلافات من الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للرجال والنساء، فوسائل النقل تتيح للنساء العديد من الموارد والفرص مثل الوظائف ورعاية الأطفال والتعليم والمراكز الصحية في حين يعتمد الرجال أكثر على وسائل النقل الخاصة، ومع ذلك فإن سلامة المرأة غالبًا ما تتعرض للتجاهل.
ولكن حتى في الأماكن التي لم تعتزم السلطات فيها على إجراء أي تعديل في البيئة المحيطة للنساء، ظهرت حلول أخرى مثل إنشاء تطبيقات ذكية تهدف إلى مساعدة النساء على البقاء في أمان من خلال تصنيف المستخدمين لدرجة أمان الشوارع والمناطق بحسب المعايير التالية: الإضاءة ووضوح الرؤية وكثافة الأشخاص والتنوع الجنسي وتوافر وسائل النقل، مثل تطبيق SafetiPin الذي يجمع تلك البيانات ويقدمها للحكومات المحلية وهيئات التخطيط.
وعن نجاح هذا التطبيق تقول كالبانات فيسواناث، إحدى المساهمات في تأسيسه: “نجد أن الكثير من السيدات أصبحن قادرات على السفر ليلاً من خلال استخدام هاتين الميزتين، لكونهما يمنحان النساء الثقة لكي يتجولن حول المدينة”، مشيرةً إلى أنه كلما ازداد عدد النساء في الخارج، أصبحت الشوارع أكثر ازدحامًا وأكثر أمانًا، وذلك يتشابه مع تعريف منظمة الأمم المتحدة لمفهوم “المدينة الصديقة للمرأة”، الذي يتلخص بـ”المدينة التي يمكن للنساء الاستمتاع بالمساحات العامة والحياة العامة دون خوف من التعرض للاعتداء”.
تسعى هذه المحاولات إلى لفت انتباه السلطات والجهات الفاعلة إلى اعتبارات المرأة في تصميم المدن، وإقناعها بالمكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن تحقيقها بمجرد الاهتمام بمعايير السلامة والأمان في الطرق ووسائل النقل.