مر على الثورة السودانية أكثر من عام، وما زالت تعيش في مخاضٍ عسير وتجاذباتٍ داخلية وخارجية وإقليمية من أجل التحول الديمقراطي وتحقيق المطالب التي قامت من أجلها، ومن ضمن هذه المطالب تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتحسين علاقات السودان الخارجية ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومحاسبة مجرمي النظام البائد وكل من ارتكب جُرمًا في حق الشعب السوداني، من أبرز هؤلاء المجرمين المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة “الإبادة الجماعية والتطهير العرقي” في دارفور غرب البلاد وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير وبعض أتباعه.
في الـ11 من فبراير/شباط 2020، تم الاتفاق في جولة التفاوض في جوبا عاصمة جنوب السودان بين الحركات المسلحة الثورية التي تمثل قوى الهامش ومتضرري الحروب في دارفور والنيل الأزرق ووفد الحكومة الانتقالية على مثول البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية وكذلك ثلاثة من أتباعه المقربين، لكن المفاجأة الكبرى هي رفض بعض القوى الاجتماعية في السودان تسليم البشير إلى الجنائية الدولية.
الشيء الذي يدعو إلى الحِيرة والريبة والديالكتيك أن كثيرًا من هذه القوى السياسية والأحزاب السياسية والجماعات الدينية كانت أكثر تضررًا من نظام البشير القمعي، وكانت تنادي بالعدالة ودولة القانون وبحقوق أهل دارفور ومحاسبة المجرمين ومع ذلك رفضت تسليم الرئيس المخلوع إلى الجنائية الدولية، وتبدلت حجج هؤلاء بين مثول البشير أمام الجنائية أو تسليمه وبين محاكمته داخليًا، وبين متحفظ لتسليمه.
ما يدعو إلى المفاجأة ولفت الانتباه أكثر تعاطف وتضامن بعض النشطاء والمواطنين على منصات السوشيال ميديا والإعلام مع حكم البشير الديكتاتور وأيامه التي لم يسلم منها الغاشي والداني.
لا بد من التنبيه بأن ليس كل السودانيين يرفضون تسليم البشير إلى الجنائية الدولية، وهذا المقال يأتي في شكل مُقاربة نقدية لمعرفة آراء وحُجج بعض القوى الاجتماعية والسياسية الرافضة لتسليمه.
بقايا النظام السابق والمصير المجهول
30 عامًا كافية جدًا لتقييم تجربة حكم الرئيس المخلوع الذي جاء إلى السلطة عبر الدبابة وهدم القُطر اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وبيروقراطيًا والواقع الآن يقول ذلك، فنظام البشير ترك تركة ثقيلة لم تنطو ترسباتها إلى الحين من عقوبات دولية ووضع اقتصادي متدهور وحروب قبليّة وحدودية وتكوين مليشيا وتسييس المؤسسة العسكرية والخدمة المدنية ودحض خصومه المعارضين واختراق الأحزاب السياسية وإضعافها وتقسيمها حتى لا تقوم لها قائمة، ولم يكن البشير وحده من يقوم بذلك بل ساعده بعض أتباع حزبه المحلول وأيضًا عاثوا معه فسادًا وخرابًا ضد الإنسانية.
القوات المسلحة السودانية تعد من أكثر الجهات الرسمية الرافضة لتسليم البشير للجنائية
وعلى ذلك ستورط هذه المحاكمة بعض المختفين خلف الستار لأنها ستكون عَلنية أمام أنظار العالم وعدسات الإعلام، وعندما يتم تسليم البشير للجنائية لن يسلم هؤلاء أيضًا من المحاكمة والقائمة تطول، لذلك يبذل بقايا النظام السابق كل ما بوسعهم لعدم تسليم البشير للجنائية والإفلات من العقاب لأن ذلك يجرهم إلى المجهول، لذلك رفضوا حتى التعامل مع المحكمة الجنائية، ويستخدمون ميكانيزميات وماكِينات عُدة منها دقدقة مشاعر الشعب الدينية والقبليّة والأعراف السودانية والتحايل على القانون وسن خطاب المظلومية والعمالة.
المحكمة الدولية ما هي إلا استعمار جديد
من المواقف التي تدعو إلى التمعن والنظر بموضوعية، وتبدو في بعض الأحيان منطقية، تلك التي ترى أن المحكمة الجنائية الدولية ما هي إلا استعمار جديد وأداة من أدواته التي تتجدد على شكل مؤسسات، للهيمنة والتدخل في شؤون الدول واختراق السيادة وتمرير الأجندات الخارجية التي ترسخ التبعية والنفوذ الأوروبي وإذلال الغير سواء كان الشرقي أم غيره، لأن معظم المطلوبين والملاحقين هم قادة إفريقيا الذين تمردوا على الغرب وسياسته المجحفة على القارة السمّراء.
وجاء ذلك على لسان عضو هيئة الدفاع عن الرئيس المخلوع البشير المحامي محمد حسن الأمين، أن الغرب عدو السودان عبر الحقب التاريخية وله مخططاته العدائية تجاهه، والذين يوافقون على تسليم البشير إليه ما هم إلا “عُملاء”، وبأن المحاكمة الأجنبية لا تتماثل مع قيم وثقافة المجتمع السوداني، والذي يحدث ما هو إلا مراهقة سياسية، فالجنائية الدولية فاقدة للشرعية الدولية واحترام الآخر وقيمه وثقافته القانونية، وهذه المحاكمة ستجرنا إلى مركزية غربية قضائية “إثنومركزية”.
عدم حيادية المحكمة الدولية
من حيث التعامل مع القضايا الإنسانية الكونية هنالك بعض الحجج الرافضة لتسليم البشير للجنائية الدولية ترى أن المحكمة الجنائية مؤسسة سياسية بحتة قائمة على أكتاف الضعفاء، وليست عدلية أو قانونية وليست موقعًا للعدالة الكوني، ولا توجد معايير دولية واضحة لجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم ضد الإنسانية لأن هنالك دولًا لها تاريخ وحاضر مليء بجرائم ضد الإنسانية والاستيطان والتجهير القسري ومتجاوزة لحقوق الإنسان والقانون الدولي وما زالت تصول وتجول دون حسيب ورغيب مثل “إسرائيل” وسياسيات أمريكا العدائية وتدخلها في بعض الدول.
وأن المحكمة الجنائية ذات توجه معين وتخدم أجندة دول معينة على حساب الأخرى، ومنحازة وغير مستقلة، وتعد غطاءً قانونيًا لأجندة إمبريالية غربية، وهنالك دول وأنظمة حاكمة رغم أنها تنتهك حقوق الإنسان، تحظى بحماية دولية خاصة مثل “إسرائيل” والنظام السوري الأسدي البطشي القمعي وروسيا، إلخ، ولم نر يومًا في إعلام المحكمة الجنائية ومناشيرها وجلساتها القضائية محاكمة هؤلاء، وهذا ما يقودنا إلى القول إن المجتمع الدولي ومنظماته الدولية فقدت هيبتها وإنسانيتها وقوانينها أصبحت حبرًا على ورق وفقدت مِصداقيتها التي لم تكن موجودة واقعيًا أصلًا إلا على إعلامها الترويجي المنحاز.
اختراق للمؤسسة العسكرية السودانية
القوات المسلحة السودانية تعد من أكثر الجهات الرسمية الرافضة لتسليم البشير للجنائية بالإضافة إلى قوات الدفاع الشعبي التي صرحت عَلنًا بأن تسليم البشير “خط أحمر” وهددت في حال تسلميه بحرق البلاد لأنها تعتبره جزءًا منها وقائدها السابق، وتسليمه يعد إهانة في حق المؤسسة العسكرية وكسر هيبتها وتنتقص من سيادة البلاد، وأن القضاء السوداني قادر على محاسبة البشير، وجزء من هذه القوات أيضًا كان مطلوبًا لدى الجنائية الدولية وكان من أنصار البشير المقربين ومن أنصار حزب المؤتمر الوطني وعسكر محاور الثورات المضادة وممجدي الجنرالات ومموليها.
قرار تسليم البشير رغم أنه بثَ الأمل والفرح في نفوس اللاجئين والنازحين وساكني المعسكرات ومتضرري الحروب، كما اعتبرته القوى الثورية خطوة لتحقيق السلام والعدالة الاجتماعية وتضميد جروح الحروب وآلامها التي خصمت من تقدم البلد ورصيده الاجتماعي والسياسي، وبأنه مطلب عدلي مهم يقف أمام التحول الديمقراطي والاستقرار السياسي والاقتصادي، فإنه يعد معضلة حقيقة في هذا التوقيت بالتحديد وفي ظل تأهب العسكر للسلطة ومواقفهم المحورية الغامضة والمتلونة في بعض الأحيان وفي ظل بعض الجهات التي تدعو إلى المصالحة الوطنية، وهل سمعنا يومًا بمحاكمة رئيس عربي سابق ولنا في بن علي وحسني مبارك تجربة؟ وهل محاكمة البشير كافية لإنهاء الصراع في دارفور والسودان؟ وهل ينصف الضحايا ويلامس قضاياهم؟ في حال تم الاتفاق على محاسبته داخليًا هل يستطيع القضاء السوداني محاسبته؟ لننتظر ونرى السيناريو أين تتم المحاكمة في لاهاي أم الخرطوم.