يرزح لبنان تحت أعباء عجز مالي يتخطى 90 مليار دولار أمريكي يعود إلى العقود الماضية والسياسات المالية التي كان يعتمدها وتقوم على الاستدانة، فضلًا عن حالة الفساد المتفشية في الإدارة التي تزيد من حجم الدين جراء الهدر والسرقة والتهرب الضريبي والتهريب والمحاصصة وغيرها من عناوين الفساد.
في التاسع من مارس/آذار الحاليّ استحق موعد دفع جزء من هذه الديون المُعبر عنها بـ”سندات اليوروبوندز” وقيمتها المالية مليار ومئتي مليون دولار أمريكي، إلا أن الحكومة اللبنانية وفي ضوء الأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها البلاد وفي ضوء الحاجة إلى السيولة المالية وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية الأخرى، لا سيما الدولار، لجأت إلى اتخاذ قرار في ربع الساعة الأخير تمنعت بموجبه عن دفع “سندات اليوروبوندز” وطالبت الجهات الدائنة بإجراء مفاوضات من أجل إعادة جدولة هذه الديون.
وجاء قرار الحكومة بعد استقبالها وفدًا من صندوق النقد الدولي بهدف الاستماع إلى مشورته حيال هذه الحالة، كما أنها عللت قرارها بالحاجة إلى السيولة حفاظًا على أموال اللبنانيين، لأنها كانت ستلجأ إلى المصارف من أجل تمويل دفع السندات، وهذا باعتقادها كان سيشكل ضررًا بالغًا على أموال المودعين، فضلًا عن تعثر الحكومة في دعم السلع الأساسية التي ما زالت مدعومة من موازنة الحكومة كالدواء والقمح والوقود.
وقد شهد قرار الحكومة بهذا الخصوص سجالًا وتباينًا بالرأي بين من اعتبره أفضل من دفع السندات ومن اعتبر تخلف لبنان يعني فيما يعنيه إعلانه دولة فاشلة أو مفلسة، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات كبيرة على وضعه واستقراره السياسي.
الخبير الاقتصادي الدكتور محمد موسى قال لـ”نون بوست”، إن “هذا القرار يُعد حدثًا جللًا تتوجب مقاربته بكثير من الدقة والتحسب، وذلك لما لهذا القرار من انعكاسات محلية ودولية على التعاطي مع الدولة اللبنانية وسمعتها أقله تجاه الدائنين وتجاه وكالات التصنيف الائتماني وتاليًا تجاه المستثمرين والصناديق الاستثمارية العربية والدولية”.
من جهته اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور سمير الشاعر “أن لبنان اتخذ طريقًا يمكن اعتباره نصف وسط ولكنه غير مضمون لأننا تأخرنا ببعض التفاصيل، وهذا له تبعات من التصنيف فنحن نعتبر دولة متعثرة وباقي عندنا درجة بالتصنيف، وكان يفترض أن تكون هناك نظرة أعمق في مصلحة اللبنانيين” .
الخيارات عند الدائنين تتراوح بين الدخول في مفاوضات مع الدولة أو اللجوء إلى المقاضاة
وعن تداعيات هذا القرار على اللبنانيين يرى الشاعر “أنها قد بدأت، فسيكون هناك تعثر شديد بسبب انهيار العملة، وكذلك بسبب تعثر العديد من الشركات”.
بدوره رأى الدكتور موسى “أن أولى التداعيات ستكون مع الوكالات الدولية التي ستعيد تصنيف لبنان السيادي وتاليًا تصنيف كل قطاعاته المالية إلى مستويات التعثر مع ما يتحمله ذلك من خطورة، إضافة إلى ذلك النقزة الأولية من الأسواق اللبنانية وكل السندات اللبنانية اليورو بوندز التي تستمر لغاية 2037 وستكون مؤشرًا غير مواتٍ لبيئة الاستثمار التي لبنان بأمس الحاجة لها، كذلك قد تعرض القطاع المصرفي لمخاطر غير مسبوقة في حجمها وتأثيرها، بما يشمل المعاملات المالية عبر الحدود وشبكة العلاقات مع البنوك المراسلة”.
يتفق الخبيران الاقتصاديان سمير الشاعر ومحمد موسى أن الخيارات عند الدائنين تتراوح بين الدخول في مفاوضات مع الدولة أو اللجوء إلى المقاضاة، ويشير الدكتور موسى إلى أن “احتياطي لبنان من الذهب قد يتحول إلى هدف أول بالنسبة للدائنين الذي أعتقد أنه محمي قانونيًا ولا سبيل للدائنين عليه”، بينما يشير الدكتور الشاعر إلى “أن مصلحة كلا الطرفين الدخول في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة للوصول إلى تسوية، إلا إذا كان هناك قرار دولي بالتضييق أكثر على لبنان”.
وعن إمكانية انهيار الوضع المالي بسبب هذه القرارات أو غيرها يقول الدكتور الشاعر: “الوضع المالي في لبنان سينهار إن لم يتم تدارك الوضع بآليات للحد منه، والمشكلة تبقى إلى أين يمكن أن يصل الانهيار؟”، وأضاف “الانهيار سيزداد على صعيد الأفراد والمؤسسات، خاصة الفئات الأكثر فقرًا التي قد ينحدر بها الوضع إلى ما دون خط الفقر، وإذا تُرِكَ لبنان على وضعه الاقتصادي المهترئ الآن، فيمكن أن يصل الدولار إلى قرابة خمسة آلاف ليرة”.
ويتفق الدكتور موسى مع الدكتور الشاعر في إبداء القلق من انهيار الوضع المالي ويقول: “الانهيار واقع لا محال ولا دليل أبلغ من الأرقام التي توردها المؤشرات من نسب النمو السلبية وصولًا إلى أرقام البطالة وعجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات والإذلال للمودعين أمام المصارف وانهيار سعر العملة الوطنية والحديث يطول، ولكن في حال لم يكن هناك تجاوب مع خطة الحكومة التي تنوي تقديمها لا في الداخل ولا في الخارج فقد نذهب إلى نماذج دول كفنزويلا أو كوبا بالحد الأدنى حيث انفلات الاقتصاد والمالية من عقالهما”.
إشكالية الحلول تتعثر في لبنان بسبب الخلاف السياسي والسجالات حول كل شيء
أما عن الخطوات الواجب اتخاذها في ظل هذا الواقع الذي نشأ بفعل هذا القرار فيشير كل من الخبيرين الاقتصاديين سمير الشاعر ومحمد موسى إلى ضرورة قيام الحكومة بالإجراءات الإصلاحية المطلوبة، ومنها معالجة الفساد والكهرباء وتفعيل الهيئات الرقابية وغيرها، كما يؤكد الدكتور الشاعر “هذه المشكلة كبيرة وقاسية ولكن لها حل”، فيما يشير الدكتور موسى إلى “أن الخطوات الإنقاذية تتطلب الشروع فورًا بتسريع إعادة تعويم مؤتمر “سيدر” عبر التزام برنامج الإصلاحات الهيكلية الشاملة ماليًا وإداريًا واعتماد التوصيات الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية”.
من جهته اعتبر المحلل السياسي اللبناني بسام غنوم أن إشكالية الحلول تتعثر في لبنان بسبب الخلاف السياسي والسجالات حول كل شيء، ويشير إلى “أن الوقائع والسجالات القائمة بشأن الاقتصاد والإجراءات المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني تكشف أن الخلاف سياسي بالدرجة الأولى والاقتصاد اللبناني واللبنانيين ضحية لهذا الخلاف”، كما يؤكد غنوم “أن القوى الممسكة بالسلطة حاليًّا تحاول من خلال هذه الإجراءات والمواقف ربط حالة الانهيار الاقتصادي بالقوى السياسية التي كانت شريكة لها في السلطة، وتقدم نفسها وكأنها المنقذ لهم من كل السياسات السابقة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه، بينما القوى التي كانت في السلطة والمسؤولة بالتضامن والتكافل مع القوى الممسكة بالسلطة حاليًّا تحاول تصوير الأزمة الاقتصادية وكأنها بسبب المواقف والارتباطات الخارجية لقوى السلطة”.
ويرى غنوم في ضوء الانتفاضة والحراك الشعبي الذي انطلق في الـ17 من شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي “أن الحل بإجراء انتخابات نيابية جديدة وفق قانون انتخابي جديد يضمن سلامة التمثيل، وعند ذلك فقط يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد لبنان، ومن أمن اللبنانيين واستقرارهم”.
هي إذًا إجراءات جدية وحقيقية مطلوبة من الحكومة اللبنانية لإنقاذ الوضع المالي في البلد قبل انهيار كل شيء، إلا أن ذلك بدوره يحتاج إلى الخروج من سياسة المماحكة والسجالات التي لا طائل منها والتصرف بمنطق رجال الدولة في الأوقات الحرجة.