ترجمة وتحرير نون بوست
الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) هي في الواقع قنبلة موقوتة حقيقية تم زرعها في قلب الشرق الأوسط، لكن قوتها التدميرية ليست مفهومة كما ينبغي، إن قوة داعش لا تكمن في الصف الطويل من قاطعي الرؤوس، ليست في القتل ولا في استيلائها على البلدات، كما أنها ليست في عدالتها الوحشية، إن قوتها ستأتي لاحقًا مع الاستخدام الأكثر فعالية لانضمام للشباب المسلم إليها، ولترسانتها الضخمة من الأسلحة ومئات الملايين من الدولارات التي استطاعت السيطرة عليها.
إن إمكانات داعش الحقيقية على التدمير تكمن في مكان آخر، في انهيار المملكة العربية السعودية باعتبارها حجر الأساس في الشرق الأوسط الحديث، ينبغي لنا أن نفهم أنه لا شيء يمكن للغرب أن يفعله هنا سوى الجلوس والمشاهدة.
إن مفتاح قدرات داعش هو استخدامها المتعمد والمقصود للغة محمد بن عبدالوهاب، الذي أسس الدولة السعودية جنبًا إلى جنب مع محمد بن سعود في القرن الثامن عشر.
تتحدث داعش كثيرًا عن عقيدة الولاء والبراء المنسية، وهذه تحديدًا هي عقيدة محمد بن عبدالوهاب، بالإضافة إلى ذلك، حارب محمد بن عبدالوهاب “الشرك” في الجزيرة العربية، وقام بتدمير آثار المسلمين وهدم القبور ومنازل النبي وصحابته والتابعين، وهذا أيضًا تفعله داعش بشكل واضح وجلي.
يقول فؤاد إبراهيم، الأكاديمي السعودي، إن ما تفعله داعش ليس تأكيدًا فقط للاختزال الشديد الذي تمثله رؤية بن عبدالوهاب، لكنها أيضًا تشير عامدة إلى انفجار إقليمي أكبر باعتمادها تلك اللهجة الوهابية، إشعال هذا الانفجار لو نجح فإنه سيغير من وجه الشرق الأوسط بشكل حاسم.
لأن المشروع السعودي منذ بدايته كان تبشيريًا مثاليًا، فقد تم قمعه بشدة من قبل العثمانيين عام 1818 قبل أن يُبعث بشكل مذهل في العشرينات لتصبح السعودية هي المملكة التي نعرفها اليوم، ولكن منذ نهضتها في العشرينات، دومًا ما كان المشروع السعودي يحمل في داخله “جينات” التدمير الذاتي.
للمفارقة، كان من زرع هذا الجين في الدولة الجديدة هو ضابط بريطاني منشق، ارتبط بعبدالعزيز آل سعود وهو “هاري سانت جون فيلبي” كان فيلبي مستشارًا مقربًا للملك عبدالعزيز بعد أن استقال من منصبه في بريطانيا، وكان حتى وفاته عضوًا رئيسيًا في الديوان الملكي، إنه – مثل لورنس العرب – كان مستغربًا، كما اعتنق الإسلام بصيغته الوهابية وعُرف باسم الشيخ عبدالله.
صمم فيلبي على أن يجعل صديقه عبدالعزيز حاكمًا للجزيرة العربية. في الواقع، وبسبب هذا الطموح لم يكن فيلبي يتصرف وفق التعليمات الرسمية، فعلى سبيل المثال، عندما شجع الملك عبدالعزيز أن يتوسع في نجد، كان قد أُمر بألا يفعل، لكن عبدالعزيز كان واعيًا بأن البريطانيين تعهدوا مرارًا بأن هزيمة العثمانيين ستنتج دولة عربية، وهذا شجع فيلبي وعبدالعزيز ليطمح ليكون الأخير هو الحاكم الجديد.
ليس من الواضح تمامًا ما حدث بين فيلبي وعبدالعزيز، لكن يبدو أن رؤية فيلبي لم تقتصر فقط على طريقة بناء الدولة بشكل تقليدي، بل كان هدفه أن يحول الأمة بأكملها لأداة وهابية وهذا من شأنه أن يرسخ سلطة آل سعود كقيادة، ولكي يحدث ذلك، كان عبدالعزيز بحاجة إلى أن يفوز بموافقة بريطانية ودعم أمريكي لاحق، وهذا ما قام به عبدالعزيز بنصيحة فيلبي.
بمعنى من المعاني، يمكن القول إن فيلبي كان عراب هذا الاتفاق التاريخي الذي اتفقت فيه القيادة السعودية على استخدام نفوذها لإدارة الإسلام السني نيابة عن الأهداف الغربية مثل (احتواء الناصرية والبعثية والنفوذ السوفيتي وإيران)، وفي المقابل، فإن الغرب سيذعن لقوة المملكة الناعمة في العالم الإسلامي بما يصاحبه ذلك من تدمير للتقاليد الفكرية الإسلامية وتنوعها ويبذر انقسامات عميقة بين المسلمين.
وكنتيجة لذلك، كان الساسة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على المملكة العربية السعودية لإمرار سياستهم في الشرق الأوسط.
من الناحية السياسية والمالية، حققت استراتيجية سعود – فيلبي نجاحًا مذهلاً، لكن دومًا ما كانت هناك حقيقة متجذرة لدى البريطانيين والأمريكيين: رفض رؤية الجين الخطير داخل المشروع الوهابي، وهي إمكاناته الكامنة أن يتحور في أي وقت وأن يعود إلى أصله الدموي، والحقيقة أن هذا هو ما حدث للتو، استمرار الوهابية والحفاظ عليها أدى إلى صعودها من جديد على يد أسوأ طرف ممكن: داعش.
الفوز بالتأييد الغربي واستمرار ذلك التأييد احتاج إلى تغيير عدد من الأوضاع: كان على المشروع السعودي الوهابي أن ينتقل من حركة طليعية إسلامية تبشيرية مسلحة إلى ما يمكن تسميته حركة بناء الدولة، وهذا لن يكون سهلاً بسبب التناقضات الملازمة للمشروع (الطهرانية الوهابية مقابل السياسة الواقعية وفساد المال)، وبمرور الوقت، أدى استيعاب الحداثة التي تتطلبها الدولة إلى تنشيط هذا الجين ولم يتسبب في خموله.
حتى عبدالعزيز نفسه واجه رد فعل شديد الأهمية، إذ قامت ميليشياته الوهابية الخاصة بتشكيل مجموعة عُرفت باسم “الإخوان”، (أي كلمة نشير بها للإخوان هنا، يُقصد بها الإخوان السعوديون، ولا يُقصد بها الإخوان المسلمون) وقامت بتمرد خطير، عندما وصل توسع الإخوان إلى الحدود بالقرب من الأراضي التي كانت تسيطر عليها بريطانيا، حاول عبدالعزيز أن يكبح جماحها، لكن الإخوان كانوا ينتقدون بالفعل أساليبه الحديثة (الهواتف والبرقيات والمدافع الرشاشة)، وغضبوا منه بشدة بسبب تخليه عن الجهاد لأسباب دنيوية، رفض الإخوان إلقاء أسلحتهم وتمردوا ضد ملكهم، قبل أن يتم سحقهم في 1929، ولاحقًا تم استيعاب من بقي منهم في الحرس الوطني السعودي.
واجه ولي عهد عبدالعزيز، ابنه الزمير سعود شكلاً مختلفًا من التفاعل، أقل دموية وأكثر فعالية، إذ تم الإطاحة به من السلطة من قبل المؤسسة الدينية لصالح شقيقه الملك فيصل، بسبب سلوكه المتباه والمتعالي وفخامة حياته التي كان يعيشها، وهو ما أهان المؤسسة الدينية التي لم تتوقع ذلك من “إمام المسلمين”.
الملك فيصل بدوره قُتل برصاص ابن أخيه عام 1975، في عملية اغتيال دنيئة إذ كان قد ذهب للمحكمة ليبايع الملك لكن بدلاً من ذلك أخرج مسدسًا وأطلق النار على الملك في رأسه، لقد كان ابن شقيقه مضطربًا بواسطة زحف المعتقدات الغربية في المجتمع الوهابي على حساب المثل العليا للمشروع.
وبشكل أكثر خطورة كثيرًا، أعاد جهيمان العتيبي إحياء الإخوان، وقام بالاستيلاء على المسجد الحرام بمكة مع مئات المسلحين في 1979، كان جهيمان من قبيلة عتيبة المؤثرة في نجد، والتي كانت عنصرًا رئيسيًا في الإخوان السعوديين في العشرينات.
كان جهيمان وأتباعه ممن درسوا في المدينة، قد فازوا بدعم ضمني من رجال الدين الآخرين، الشيخ عبدالعزيز بن باز على سبيل المثال، ذكر جهيمان أن ابن باز لم يعترض على كتاباته، والتي كانت تنتقد تهاون العلماء تجاه الكفر، لكن ابن باز ألقى باللوم على جهيمان بسبب ما قاله من أن “أسرة آل سعود فقدت شرعيتها بسبب فسادها وتدميرها الثقافة السعودية بسياسة التغريب العدوانية التي اتبعتها”.
أوصل أتباع جهيمان رسائله في عدد كبير من المساجد السعودية دون إلقاء القبض عليهم، لاحقًا تم اعتقالهم وتعرضوا للاستجواب من قبل السلطات ومن قبل العلماء أيضًا، لكن تم الإفراج عنهم لاحقًا لرؤية العلماء أنهم لا يعدون كونهم مثل الإخوان التقليديين، وبالتالي لا يشكلون تهديدًا.
حتى عندما انسحقت عملية الهجوم على المسجد الحرام، ظل هناك مستوى لدى العلماء من تحمل ذلك، فقد حافظت الفتاوى على لغة “ضبط النفس”، ولم يكفروا جهيمان وأتباعه رغم انتهاكهم لحرمة المسجد الحرام، ولم يطلقوا عليهم سوى لفظ الجماعة المسلحة.
إن ما نريده من التذكير بالتاريخ هو أن نوضح كيف أن السعودية ليست سعيدة أبدًا بصعود داعش في العراق وسوريا، لقد قمعت “الإخوان” سابقا، لكن هذا كان داخل المملكة.
داعش يمثلون الآن الإخوان الرفضيين الجدد، وكذلك يتبعون جهيمان العتيبي في انتقادهم الحاد لآل سعود، وتكفيرهم.
هذا الانقسام العميق الذي نراه اليوم في المملكة بين تيار التحديث الذي يقوده الملك عبدالله، والتوجه “الجهيماني” الذي كان فيه بن لادن، والسعوديين المؤيدين لداعش، والمؤسسة الدينية السعودية، يظهر أيضًا داخل العائلة السعودية المالكة ذاتها.
وفقًا لصحيفة الحياة التي تملكها السعودية، فإن استطلاع رأي بين السعوديين قال إن 92٪ ممن شملهم الاستطلاع على شبكات التواصل من السعوديين كانوا يعتقدون أن داعش تمثل القيم الحقيقية للإسلام وللشريعة الإسلامية، جمال خاشقجي، الكاتب السعودي البارز حذر مؤخرًا ممن سماهم “مؤيدي داعش ممن يراقبون في الظل”.
وتساءل خاشقجي “في أي شيء أخطأنا؟!” هناك 3000-4000 مقاتل سعودي في الدولة الإسلامية اليوم، يقول خاشقجي “يجب أن ننظر في الداخل لنفهم صعود داعش، ربما حان الوقت لأن نعترف بأخطائنا السياسية وأن نصحح أخطاء أسلافنا”.
الملك السعودي الحالي، الملك عبدالله، هو أكثر الملوك عرضة للخطر بسبب كونه مجددًا! حاول الملك تحجيم نفوذ المؤسسات الدينية والشرطة الدينية، وسمح باستخدام مذاهب الفقه الأربعة من قبل من يريد، وهو ما يعترض عليه الوهابيون منذ البداية.
وصار من الممكن للسكان الشيعة في السعودية أن يستدعوا ما يريدون من الفقه الجعفري وأن يلجأوا لرجال الدين الشيعة عند الأحكام، في حين يكفر الوهابيون الشيعة ويعتبرونهم مرتدين، وهو ما أكده بن باز وعبدالله بن جبرين في التسعينات.
بعض العلماء السعوديين المعاصرين يعتبرون أن هذه الإصلاحات لا تشكل سوى استفزازات للوهابيين، أو على أقل تقدير، تمثل تغريبًا مبالغًا فيه، داعش على سبيل المثال، تقول إن من يبحث عن حكم آخر غير ما تقول به الدولة فهو كافر، حيث إن جميع المحاكم الأخرى تجسد أنماطًا غير إسلامية في الحكم.
السؤال السياسي الرئيسي هو ما إذا كانت حقيقة أن نجاحات داعش وازدهارها ستفعل الجين ذاته داخل المملكة العربية السعودية أم لا؟
إذا كان كذلك، واجتاحت المملكة العربية السعودية حماسة تجاه فكر داعش، فإن الخليج لن يكون الخليج، والسعودية والشرق الأوسط لن يكونا كما نعرفهما من قبل.
باختصار، هذه هي طبيعة القنبلة الموقوتة في الشرق الأوسط، داعش تستخدم في خطاباتها تلميحات للوهابية وحتى لجهيمان العتيبي، وهي تحمل استفزازًا قويًا: إذ أنها تمثل مرآة للمجتمع السعودي يعكس لهم النقاء الذي كان يمثله لهم أسلافهم الوهابيون، وهو ما فقده السعوديون بظهور الثروة والتفريط في الدين.
الملك عبدالله وإصلاحاته التي تلقى قبولاً شعبيًا كبيرًا يمكنه أن يحتوي اندلاع موجة جديدة من الإخوان السعوديين، لكن هل سيظل الأمر كذلك بعد وفاة الملك المُسن؟
وهذه هي صعوبة السياسة الأمريكية التي تتطور بسرعة، والتي تريد الآن أن تكون القائد الذي يدير من خلف المشهد، بتطلعها إدارة تحالف من الدول والمجتمعات السنية على التوحد لمجابهة داعش، تمامًا كما حدث مع الصحوات العراقية.
إنها استراتيجية تبدو غير واقعية إلي حد كبير، فمن الذي يمكنه أن يدخل في هذا الصدع؟ وهل ستؤدي الهجمات السنية على داعش إلى تحسين وضع الملك عبدالله؟ أم ستشعل المزيد من الحنق والغضب داخل السعودية؟ ومن تهدد داعش بالضبط؟ لا يمكن أن يكون الأمر أكثر وضوحًا .. إنها لا تهدد الغرب بشكل مباشر، لكنها تهدد السعودية.
تاريخ الإخوان السعوديين واضح: كما فعل ابن سعود وابن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر، وكما حدث في عشرينات القرن العشرين، فإن الهدف الحقيقي لداعش هو الحجاز، أي الاستيلاء على مكة المكرمة والمدينة المنورة .. هذا سيضفي على داعش شرعية جديدة ستجعلهم الأمراء الجدد للجزيرة العربية وللمنطقة بأسرها.
المصدر: هافنتون بوست